د. أحمد الحطاب - ماذا عن المتعلم، كعنصرٍ في طور الإعداد الاجتماعي وكفاعلٍ لاحقٍ في التنمية؟

قبل أن أحاول الجواب عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة، أي "ماذا عن المتعلم، كعنصر في طور الإعداد الاجتماعي وكفاعلٍ لاحقٍ في التنمية؟"، يبدو لي من المفيد أن نرجع إلى الوراء بحوالي 60 إلى 70 سنة، وذلك للوقوف على مواصفات هذا المتعلم في تلك الفترة وما آلت إليه في الوقت الراهن.
في تلك الفترة، عندما يتم تسجيل طفلٍ، لأول مرة للإلتحاق بالمدرسة، فإنه يدخل مرحلةً من حياته يكون فيها موضوعَ احترام وتقدير من طرف أسرته، ومحيطه والمجتمع. وَضْعُ الرِّجل الأولى بالمدرسة كان يساوي وضعَ قدم أولى في عالم المعرفة وكذلك نحو عالم الشغل. بل أكثر من هذا، كانت المدرسة تُعتَبر كفضاء ثاني بعد الأسرة حيث الطفلُ مدعوٌّ لتقوية التربية التي تلقاها ويتلقاها في المنزل.

غير أنه، رغم هذا الاعتراف الأسري والاجتماعي، كانت تربيةُ الطفلِ الأُسرية مقترنةً، في غالب الأحيان، بالقَسر contrainte ou coercition إلى حد أن هذا الأخير لا حقَّ له في الخطأ وإلا سيتعرَّض للعقوبات وعلى رأسها، العقاب الجسدي.

بكل بساطة، إنه نموذج تربيةٍ تم استنساخُه من طرف المدرسة، أي أن تَعلُّمَ الطفل وتربيتَه يتمان تحت تأثير العقاب châtiment ou punition. يُعاقَبُ إذا لم "يُجِد حفظَ دروسه" وكذلك إذا كان مشاغبا ومضطربا بفصل الدراسة. فعليه أن يلعبَ دورَ الطفل الطيِّع malléable، المنصاع docile والمطيع obéissant. لا يجب أن يتكلم إلا إذا طُلِب منه ذلك. مساهمتُه في تَعلُّمه الشخصي تكاد تكون منعدمة. معارفه، كيفية فهمه وإدراكه للعالم، لمحيطه وللأشياء، شأنٌ لا تولي له المدرسةُ أي اهتمام، بل هو شأنٌ يخصه هو وحده. من أول وهلة، كل هذه العناصر تُعتَبر خاطئة لأنها صادرة عن طفلٍ. إنجازاتُه البيداغوجية تُخْتَزَلُ في تسجيل وحفظ واستظهار المعرفة المفروضة عليه من طرف راشد adulte.

وخلاصة القول، يمكن أن نقولَ إن الطفلَ يُعتبر كورقة بيضاء جاهزة للملإ من طرف الأسرة والمدرسة (المدرس). وقد لا يكون من المبالَغ فيه إذا قلتُ ليس التعليم هو الذي يجب أن يتكيَّف مع نفسية المتعلم psychologie de l'enfant، بل بالعكس، إن هذا الأخير هو الذي يجب عليه أن ينصاع se soumet لمتطلبات هذا التعليم. والدليل على ذلك أنه في حالة رسوبه، فالمسؤولية لا تُلقى أبدا على الآخرين. إنه، غالبا، ما يُعتَبَر المسؤولُ الشخصي الوحيد على رسوبه لأن المدرس والمعرفة التي يلقِّنها يعتبران أشياء لا جدال فيهما.

إن هذا الوضع ليس، إطلاقا، مفاجئا وذلك لعدة اعتبارات.

أولا، كان المدرس يُعتبر مالكا للمعرفة، ليست أية معرفة، معرفة يُنظر إليها كمعرفة صحيحة، أي صورة طبق الأصل للواقع réalité، بمعنى أنها تعكس الحقيقة. ماذا بقي إذن للمتعلم؟ إلا أن يَقبلها، يُسجلها في ذاكرته ويحفظها عن ظهر قلب.

ثانيا، إن الأبحاث في مجال البيداغوجيا وعلم النفس التربوي والتعلُّم لم تكن متطوِّرةً، كما هو الشأن اليوم. يمكن القول بأن البيداغوجيات البيهافيورية behavioristes، التي يكون فيها النَّصيبُ الأكبر، داخلَ القسم، للمعرفة وللمدرس الذي ينقلها كانت هي السائدة في الوسط المدرسي. ومن جهة أخرى، كانت هذه الأخيرة تظهر بجلاء في تكوين المدرسين. وباختصار، في تقديري الشخصي، يتعلق الأمر بوضع منطقي لأن تكوينَ المدرس، من منظور إبيستيمولوجي d'un point de vue épistémologique يؤثر على وضعِ المتعلم النفسي-التَّربوي psychopédagogique ويُوجِّهه نحو الصفات المشار إليها أعلاه.

وللتوضيح، إن الأقوالَ والأفكارَ الواردة أعلاه لا تهدف بتاتا إلى تبخيس قيمة مدرسة تلك الفترة. إن خريجي هذه المدرسة (وأنا منهم) نجحوا فعلا في الاندماج في المجتمع وفي وسط الشغل. العديد منهم تقلَّدوا فعلا ولا يزالوا يتقلدون مسئوليات عليا. بل بالعكس، إن هذه المدرسة لعبت دورَها بجِدِّيةٍ في مجال تبليغ المعارف والتربية المدنية للمتعلمين. ما يمكن أن يُعابَ عليها هو تبنِّي تعليم يهدف إلى الحصول على الرأس المملوءة وإهمال شيئا ما الرأس الجيدة التكوين حيث أن تَحَرُّر وتَفَتُّحَ شخصية المتعلم لم تُشكِّلا الاهتمام الأول للعملية التعليمية-التعلُّمية التي للمدرس فيها تدخل كبير. لكن هذا التَّوجُّه البيداغوجي الذي سارت عليه مدرسةُ الأمس، فرضه الزمان والمكان اللذان كانت تشتغل فيهما هذه المدرسةُ. ومع ذلك، فإن خريجي مدرسةِ الأمس استطاعوا أن يبنوا شخضيتَهم بما وفَّرته لهم هذه المدرسة من معارف وسلوكيات. لكل زمان مدرستُه.

اليوم، نظرا لما يعرفه البحث في مجال علوم التربية من تقدم، أصبح للتعليم والبيداغوجيا وعلم النفس التربوي والديداكتيك تطوُّرٌ واضح. إن الأمر يتعلق بتغيير مثال مرجعي paradigme يترتب عنه تغييرُ مواصفات statut ou profil المدرس والمتعلم والمعرفة. أصبح المدرس ذلك الشخص الذي يوجِّه oriente، يخفف adoucit، يشجع encourage، يحفِّز motive، يحث incite... بينما أصبح المتعلم هو مركزُ العملية التعليمية-التعلمية وأصبحت المعرفة تُبنى أو يُعاد بنائها في تكامل تامٍّ بين المدرس والمتعلم. كل ما يتم القيام به يسير في اتجاه دعوة المتعلم لاستعمال قدراته الفكرية capacités intellectuelles.

ومع ذلك، يبدو أن تغيير المثال المرجعي paradigme لم يكن له الوقع والنتائج المنتظرة بالنظر للجمود immobilisme والخمول léthargie اللذان يطبعان المنظومة التربوية حاليا. هذا ليس هو الهدف من مقالتي الآن. لنتذكر فقط أنه في إطار المثال المرجعي الجديد le nouveau paradigme، أصبح المتعلم هو مركز العملية التعليمية-التعلمية.

ومحاولةً لإيجاد جواب عن السؤال المطروح في بداية هذه المقالة، يمكن أن أقول، حسب رأيي الشخصي، أنه إذا وضعنا المتعلم في إطار المثال المرجعي الجديد، من المفترض أن يتوفر على المواصفات التالية :

بصفته عضو في المجتمع الذي أنشأ المدرسة لتساهم في استمرار نشاطه ودينامياته وتنميته، المتعلم هو:

1.مبرِّر وجود المنظومة التربوية؛
2.كائن يرى، يسمع، يفكِّر، يفهم، لا يفهم، يحس، يشعر، يتصرف، يتفاعل، يحب، لا يحب، يؤثر، يتأثر... باختصار، كائن يُحْسَبُ له حسابٌ لأن له حاجياتٍ على المستوى النفسي، الاجتماعي والفكري؛
3.كائن في بحث مستمر عن الاستقلال بذاته؛
4.كائن في حاجة إلى تعليم وتربية يتَّسمان بالجودة ليتفتح اجتماعيا وفكريا؛
5.كائن له الحق في التعبير عن أفكاره واقتسامها؛
6.كائن له الحق في الترفيه (ألعاب، رياضة، تسلية، مرح...)؛
7.مواطن في طور النشأة؛
8.رافعة مستقبلية للتنمية.

كمركزِ اهتمامِ المنظومة التربوية، يجب أن يستفيد المتعلم من تعليم :

1.عادل، منصف (تكافؤ الفرص) ومرادف للنجاح؛
2.حامل وناقل لقيم المواطنة والمصلحة العامة؛
3.ذي معنى، مُحَرِّر libérateur، مُحفِّز motivant وجاذب attractif لاهتمامه ورغبته في التعلم son désir d'apprendre؛
4.مبدع ومنفتح على الحياة والمجتمع، أي يهيئ للحياة النشطة والاجتماعية؛
5.يأخذ بعين الاعتبار إيقاعَه التَّعَلُّمي son rythme d'apprentissage وخصوصيته (بمعنى اختلافه بالنسبة للآخرين)؛
6.يعطي أولويةً لطرق التفكير وليس لتراكم المعارف؛
7.يُسهِّل استعمالَ و نموَّ المَلَكات الفكرية (تحليل، تركيب، فكر نقدي، اكتشاف، استقراء، استنتاج، مقارنة، حل المشكلات، مَفْهَمَة، إثبات، الخ.)؛
8.يعطي أهمية لوسائل التعلُّم، للمهارات، للسلوكات، للكفاءات وليس لوسائل الحفظ والاستظهار moyens de mémorisation et de restitution.

داخل الفصل (في وضعية تعليم-تعلم)، يجب أن يُعتَبرَ المتعلم :

1.كمركزٍ لنشاط التعليم-التعلم؛
2.قبل كل نشاط بيداغوجي، كشخص يُدرك العالمَ ومحيطَه المادي، الاجتماعي والثقافي بطريقته الخاصة؛
3.كشخص متكامل يستحق الإنصاتَ l'écoute والاحترامَ le respect والتقدير considération؛
4.ككائن مفكِّرٍ un être pensant الذي هو محرِّك وسيِّد تَعلُّمه الذاتي moteur et maître de son apprentissage (تعلم كيف تتعلم)؛
5.كشخصٍ مدعوٍّ لبناء المعرفة أو إعادة بنائها في جو تعاون بينه وبين المدرس وزملائه اعتمادا على معينات بيداغوجية مناسبة؛
6.ليس كفردٍ ما يُرَادُ ملأه بمعارف بكيفية آلية mécanique ولكن كشخصٍ يجب تكوينُه وتربيتُه أخذا بعين الاعتبار استعداداته aptitudes و قدراته capacités؛
7.كشخص له الحق في الخطأ.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل مدرستُنا تحترم مواصفات المتعلٍِّم التي يفرضها البحثُ الحديثُ في مختلف مجالات علوم التَّربية؟". الجواب على هذا السؤال تجدونه في نتائج البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التَّلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى