بعدما أدرك صاحبي أنّ مربّيته تخلّت عنه مُكرهَةً في هذه المدينة الغول، وأيقن أنه أصبح شرّيدا، طفلا منذورا لِرحمةِ الشّارع، نظر إليّ (أنا ظلَّه)، رَنَا إليَّ مَليّا بينما كنتُ مُثبَتا على الجدار أرقبه وأحاكي وقفته الشامخة. لم يبكِ أو يلعَنَ السّماء والمارّة، لم أرَهُ يذرف دمعة واحدة، ليس لأنّه يخجل منّي، فأنا ظلّه الذي رافقه طيلة عشر سنوات عاشها منبوذا بين أولادِ مُربّيته الذين يزدرونه. كان ذا صلابة ومهابة رغم أنه لا يزال في عمر الزهور اليانعات. تقدّم إلى الجِدار، مَدّ إليّ ذراعيه طالبا حُضنِي، دنا أكثر حتّى التصق بي، وعانقني طويلا.
اقترح عليّ أن نتبادل الأدوار لعلّني أحميه من ظلال المدينة الموحشة. كان اقتراحا استثنائيا لن يقبله أي ظِلّ مهما تفتق قلبه رقةً وإنسانية. قبلتُ عرضه دون تردُّد. صار ظلّي، وأنا غدوتُ صاحبه وسيّده. لبستُه ولبسني. انتعلت حذاءه واعتمرت "كاسكيطته"، وانطلقت أمامه على غير هدى أسير الهوينى. كان يتقافز من حوالَيَّ في غمرة فرح طفوليّ، يُخرِج لي لسانه مُشاكسا. ينطّ، ويلعب الغمّيضة مع شمس الصّباح الفاترة. قصَدتُ المنتزَه حيث البُحيرة الخضراء التي غدَتْ ملاذَنا نحن الاثنين، نلهو في ضفافها كطفلين تثب الفرحة بينهما، نتنَزَّهُ ونصطاد بعض الدّراهم من عيون سخيّة مشفقة.
صاحبي (وقد صار ظلّي) منذ أن لبِسَنِي أصبَح أكثر حيوية. ينطّ من يميني إلى شمالي. على ضفة بُحيرة المُنتَزَه جرّب عَبَثا الاستلقاءَ على صفحة المياه كما تفعل الظلال، فغمره البلل حتّى قنّة الرّأس، ولو لم أمدّ له يدي لهلك غرقا. جفّف هيكله النحيل بعين الشّمس، وسار في جنبي يتحرّش بالمارّة. لا يتورّع الصّعلوك من تسلُّق نهود كاعبة لِعابِراتٍ حسناوات، ولثْمِ خدودهن النّاعمة المتمنّعة على نور الشّمس. اللئيم قرَصَ ساقَ إحداهُنَّ فأمسكت بِخِناقي أنا، ولم تفلتني إلّا بعد صفعة على خدّي الأيمن، فابتعد الخبيثُ اتقاءَ غضبي وهو يخرج لي لسانه في شماتة.
ونحن في أحد شوارع المدينة القديمة حاوَلَ تسلّق الجدران ومسْح واجهات المحلّات تماما كما كنت أفعل بيُسر ورشاقة. وهو يُطاوِل واجهة محلّ فاخر، جرّبَ عبثا خَرْق زجاج "فترينة" مبيعات، فكَسَرَه. دوّى صدى الكسر في أذني، لملمْتُ ظلّي الغارق في شظايا الزجاج، ولذتُ بِه هاربا من بطش صاحِب المتجر. وأنا أهرول، قطعت الطّريق. وهو خلفي، تَعَمّد المَجنون الوقوف أمام شاحنة مارقة. زاد غروره لمّا اقتربَت أكثر، استلقى أمام عجَلاتِها تَماما كما رآني أفعل في أوج حماقاتي، فدهسَته. انحنيتُ أجسّ نبضه. كان قد فارق الحياة. رفعت رأسه، تلَبّستُه، حَلَلْتُ بِهِ لعلّه يستَيقظ فِيَّ، دون جدوى، واستلقيت تحته في يأس.
حضرتِ الشّرطة، رسموني (أنا الظّلّ) بالطّبشور على الإسفلت. حملوا صاحبي في سيارة حمراء تزعق، وأنا بقيت سجين الإسفلت وقد صرت جزءا منها. انفضّتِ الجموعُ التي تحلّقت بِنا. بقيتُ وحيدا. جاء الليل. تحاملتُ على الوقوف، نفضتُ عنّي بقايا الطّبشور، وهِمت في الظلمة أبحث عن شبح آدمي لأكون له ظلّا.
* (من مجموعة "عمى الأطياف" الفائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب 2017)
- عن مجموعة فن القصة القصيرة
اقترح عليّ أن نتبادل الأدوار لعلّني أحميه من ظلال المدينة الموحشة. كان اقتراحا استثنائيا لن يقبله أي ظِلّ مهما تفتق قلبه رقةً وإنسانية. قبلتُ عرضه دون تردُّد. صار ظلّي، وأنا غدوتُ صاحبه وسيّده. لبستُه ولبسني. انتعلت حذاءه واعتمرت "كاسكيطته"، وانطلقت أمامه على غير هدى أسير الهوينى. كان يتقافز من حوالَيَّ في غمرة فرح طفوليّ، يُخرِج لي لسانه مُشاكسا. ينطّ، ويلعب الغمّيضة مع شمس الصّباح الفاترة. قصَدتُ المنتزَه حيث البُحيرة الخضراء التي غدَتْ ملاذَنا نحن الاثنين، نلهو في ضفافها كطفلين تثب الفرحة بينهما، نتنَزَّهُ ونصطاد بعض الدّراهم من عيون سخيّة مشفقة.
صاحبي (وقد صار ظلّي) منذ أن لبِسَنِي أصبَح أكثر حيوية. ينطّ من يميني إلى شمالي. على ضفة بُحيرة المُنتَزَه جرّب عَبَثا الاستلقاءَ على صفحة المياه كما تفعل الظلال، فغمره البلل حتّى قنّة الرّأس، ولو لم أمدّ له يدي لهلك غرقا. جفّف هيكله النحيل بعين الشّمس، وسار في جنبي يتحرّش بالمارّة. لا يتورّع الصّعلوك من تسلُّق نهود كاعبة لِعابِراتٍ حسناوات، ولثْمِ خدودهن النّاعمة المتمنّعة على نور الشّمس. اللئيم قرَصَ ساقَ إحداهُنَّ فأمسكت بِخِناقي أنا، ولم تفلتني إلّا بعد صفعة على خدّي الأيمن، فابتعد الخبيثُ اتقاءَ غضبي وهو يخرج لي لسانه في شماتة.
ونحن في أحد شوارع المدينة القديمة حاوَلَ تسلّق الجدران ومسْح واجهات المحلّات تماما كما كنت أفعل بيُسر ورشاقة. وهو يُطاوِل واجهة محلّ فاخر، جرّبَ عبثا خَرْق زجاج "فترينة" مبيعات، فكَسَرَه. دوّى صدى الكسر في أذني، لملمْتُ ظلّي الغارق في شظايا الزجاج، ولذتُ بِه هاربا من بطش صاحِب المتجر. وأنا أهرول، قطعت الطّريق. وهو خلفي، تَعَمّد المَجنون الوقوف أمام شاحنة مارقة. زاد غروره لمّا اقتربَت أكثر، استلقى أمام عجَلاتِها تَماما كما رآني أفعل في أوج حماقاتي، فدهسَته. انحنيتُ أجسّ نبضه. كان قد فارق الحياة. رفعت رأسه، تلَبّستُه، حَلَلْتُ بِهِ لعلّه يستَيقظ فِيَّ، دون جدوى، واستلقيت تحته في يأس.
حضرتِ الشّرطة، رسموني (أنا الظّلّ) بالطّبشور على الإسفلت. حملوا صاحبي في سيارة حمراء تزعق، وأنا بقيت سجين الإسفلت وقد صرت جزءا منها. انفضّتِ الجموعُ التي تحلّقت بِنا. بقيتُ وحيدا. جاء الليل. تحاملتُ على الوقوف، نفضتُ عنّي بقايا الطّبشور، وهِمت في الظلمة أبحث عن شبح آدمي لأكون له ظلّا.
* (من مجموعة "عمى الأطياف" الفائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب 2017)
- عن مجموعة فن القصة القصيرة