يعتقد حسن بأن النحس يطارده.. بمجرد ما حصل على الإجازة، وقضى سنتين في الخدمة المدنية، تم الاستغناء عنه، ولم تستجب وزارة التربية لطلب إدماجه.. حدث ذلك في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.. جرائد المعارضة فسرت المشكل بالتقويم الهيكلي الذي فرضه البنك الدولي على المغرب لتخفيض كثلة الأجور، وإعادة التوازن للمالية.. اجتاز أكثر من خمس مباريات هذه السنة، لكن الحظ لم يحالفه.. أحيانا يُعلل ذلك لأقربائه بأن النجاح في المباريات أصبح يعتمد على تقديم مبالغ مالية كبيرة كرشوة، أو تدخُّل شخصيات نافذة..
قضى أكثر من عامين عاطلا.. لم يعثر على شغل يناسب مؤهلاته.. لا يستطيع أن يستيقظ في الرابعة صباحا، ويذهب إلى سوق الخضر للاشتغال حمّالا، فبنيته الجسمية لا تساعده.. حاول العمل كنادل في أحد المقاهي، فاقترح عليه الباطرون أن يشتغل بدون أجر، ويكتفي بالبقشيش الذي يُقدّمه الزبائن فرفض..
هو الآن مُحبط، لا يعرف ماذا يفعل!.. قضى حوالي عشرين عاما بين الكُتّاب والمدرسة والجامعة.. لو خرج ليعمل وهو طفل، لاكتسب خبرة وتجربة لخطف اللُّقمة من فم الأسد.. أصبح في الأيام الأخيرة يعتقد بأن الدولة أفسدته، وأضاعت عليه عشرين عاما.. علّمته الكسل.. ينام متأخرا، ويستيقظ متأخرا.. يتعمّد التخلف عن تناول الطعام مع أسرته الصغيرة، لتفادي القنابل الموقوتة التي يُلقيها عليه والداه..
والده إسكافي، وجد صعوبة كبيرة في تدبير نفقات البيت.. عندما حصل حسن على الإجازة استبشر خيرا..
وهو في الطريق إلى المقهى لمقابلة أحد أصدقائه، استرجع كل الآمال التي يُعلّقها عليه أفراد الأسرة..
أمه تعبت من العمل خادمة في البيوت، وترغب في أن تستريح، وتخيط قفطانا وجلبابا يليق بمقام ام موظف يشتغل مع الدولة براتب قار.. وتتطلع بشغف لتغيير أثاث البيت.. الأب تعب هو الآخر، ويحلم بأن يتكفل ابنه البكر بمساعدته لتحويل الدكان إلى متجر لبيع الأحذية..
حسنية أخته الكبرى تتطلع مثل أمه لشراء ثياب جميلة، وتكفّ عن استلاف قميص أو جبة من إحدى صديقاتها، تتزين بها في الشارع.. وفي حالة دق الباب فارس الأحلام لطلب يدها، سيتكفل حسن بمصاريف الخطبة، ويُشرّفها ويُكبّر بها أمام أهل زوجها المرتقب.. نجاة أخته الصغرى تدرس بالإعدادي، وتحتاج لثياب جديدة، ومصاريف الساعات الإضافية..
عندما اقترب من المقهى رأى أخته حسنية تسير مع شاب لا يعرفه.. يضعان اليد في اليد مثل عاشقين.. تبعهما من الخلف.. حافظ على مسافة لا تسمح لأخته برؤيته إذا التفتت.. دخلا مقهى، وصعدا إلى السطح.. جلسا وطلبا من النادل أن يمدّهما بفنجاني قهوة بالحليب.. تناولت سيجارة من علبة (المالبورو) التي وضعها الشاب فوق الطاولة وأشعلتها.. أخذت نفسا عميقا، ثم نفتت الدخان إلى أعلى.. انحنى عليها الشاب، وقبلها على الخد الأيسر، ووضع يده ليتحسس خصرها.. لم يتمالك حسن نفسه.. تقدّم نحوهما من غير أن يشعر، وجرَّ أخته من يدها، ولكمها بقوة على الوجه.. شنق على الشاب الذي أدرك بسرعة أنه أمام أخ حسنية، فبدأ يبحث عن سلّة بلا عنب*.. تفهّم النادل المشكل، فتدخل للفصل بين المتخاصمين حتى لا يتطور الأمر إلى استدعاء الشرطة.. استغلت حسنية انشغال أخيها مع زبونها، فنزلت مسرعة.. في الطريق أخرجت المرآة من حقيبتها، ونظرت إلى وجهها.. رأت عينها اليمنى قد انتفخت وسط زرقة داكنة.. أجهشت بالبكاء.. عادت إلى البيت مخطوفة*..
حسنية في سن الثامنة والثلاثين، رغم قوامها الرشيق، وعينيها الواسعتين، تعتقد بأن قطار الزواج قد تأخر عنها.. تخرج بين الفينة والأخرى لتعرض جسدها في الشارع لمساعدة والديها على مصاريف البيت.. كل خرجة ورزقها.. أحيانا تبيت في الخارج، وتدّعي أنها قضت الليلة عند صديقتها نِهاد.. المغفّل لا يعلم بأنها كانت تصرف عليه لمّا كان يدرس بالجامعة..
في الطريق ندم حسن على ضرب أخته.. كاد يجهش بالبكاء.. قال لنفسه المنكسرة:
ـ حسنية التي تغسل ملابسك، و(تصلحها) بالمكواة، وتطويها بعناية، وتضعها في الخزانة، وتقدم لك الطعام، وتمدّك بين الحين والآخر بمصاريف الجيب!..
لعن الفقر والمدرسة والإجازة والوظيفة والبطالة وكل مؤسسات الدولة التي دفعته لأن يمدّ يده على أخته التي يعتبرها مثل أمه الثانية..
عندما عاد في المساء إلى البيت، وجد حقيبة ثيابه بالقرب من الباب، وطلب منه والداه مغادرة البيت!..
المعجم:
ـ سلة بلا عنب: مجاز شعبي: الانسحاب بأقل الخسائر الممكنة..
ـ مخطوفة: مسرعة وعقلها مشوش..
مراكش في 19 يناير 2024
قضى أكثر من عامين عاطلا.. لم يعثر على شغل يناسب مؤهلاته.. لا يستطيع أن يستيقظ في الرابعة صباحا، ويذهب إلى سوق الخضر للاشتغال حمّالا، فبنيته الجسمية لا تساعده.. حاول العمل كنادل في أحد المقاهي، فاقترح عليه الباطرون أن يشتغل بدون أجر، ويكتفي بالبقشيش الذي يُقدّمه الزبائن فرفض..
هو الآن مُحبط، لا يعرف ماذا يفعل!.. قضى حوالي عشرين عاما بين الكُتّاب والمدرسة والجامعة.. لو خرج ليعمل وهو طفل، لاكتسب خبرة وتجربة لخطف اللُّقمة من فم الأسد.. أصبح في الأيام الأخيرة يعتقد بأن الدولة أفسدته، وأضاعت عليه عشرين عاما.. علّمته الكسل.. ينام متأخرا، ويستيقظ متأخرا.. يتعمّد التخلف عن تناول الطعام مع أسرته الصغيرة، لتفادي القنابل الموقوتة التي يُلقيها عليه والداه..
والده إسكافي، وجد صعوبة كبيرة في تدبير نفقات البيت.. عندما حصل حسن على الإجازة استبشر خيرا..
وهو في الطريق إلى المقهى لمقابلة أحد أصدقائه، استرجع كل الآمال التي يُعلّقها عليه أفراد الأسرة..
أمه تعبت من العمل خادمة في البيوت، وترغب في أن تستريح، وتخيط قفطانا وجلبابا يليق بمقام ام موظف يشتغل مع الدولة براتب قار.. وتتطلع بشغف لتغيير أثاث البيت.. الأب تعب هو الآخر، ويحلم بأن يتكفل ابنه البكر بمساعدته لتحويل الدكان إلى متجر لبيع الأحذية..
حسنية أخته الكبرى تتطلع مثل أمه لشراء ثياب جميلة، وتكفّ عن استلاف قميص أو جبة من إحدى صديقاتها، تتزين بها في الشارع.. وفي حالة دق الباب فارس الأحلام لطلب يدها، سيتكفل حسن بمصاريف الخطبة، ويُشرّفها ويُكبّر بها أمام أهل زوجها المرتقب.. نجاة أخته الصغرى تدرس بالإعدادي، وتحتاج لثياب جديدة، ومصاريف الساعات الإضافية..
عندما اقترب من المقهى رأى أخته حسنية تسير مع شاب لا يعرفه.. يضعان اليد في اليد مثل عاشقين.. تبعهما من الخلف.. حافظ على مسافة لا تسمح لأخته برؤيته إذا التفتت.. دخلا مقهى، وصعدا إلى السطح.. جلسا وطلبا من النادل أن يمدّهما بفنجاني قهوة بالحليب.. تناولت سيجارة من علبة (المالبورو) التي وضعها الشاب فوق الطاولة وأشعلتها.. أخذت نفسا عميقا، ثم نفتت الدخان إلى أعلى.. انحنى عليها الشاب، وقبلها على الخد الأيسر، ووضع يده ليتحسس خصرها.. لم يتمالك حسن نفسه.. تقدّم نحوهما من غير أن يشعر، وجرَّ أخته من يدها، ولكمها بقوة على الوجه.. شنق على الشاب الذي أدرك بسرعة أنه أمام أخ حسنية، فبدأ يبحث عن سلّة بلا عنب*.. تفهّم النادل المشكل، فتدخل للفصل بين المتخاصمين حتى لا يتطور الأمر إلى استدعاء الشرطة.. استغلت حسنية انشغال أخيها مع زبونها، فنزلت مسرعة.. في الطريق أخرجت المرآة من حقيبتها، ونظرت إلى وجهها.. رأت عينها اليمنى قد انتفخت وسط زرقة داكنة.. أجهشت بالبكاء.. عادت إلى البيت مخطوفة*..
حسنية في سن الثامنة والثلاثين، رغم قوامها الرشيق، وعينيها الواسعتين، تعتقد بأن قطار الزواج قد تأخر عنها.. تخرج بين الفينة والأخرى لتعرض جسدها في الشارع لمساعدة والديها على مصاريف البيت.. كل خرجة ورزقها.. أحيانا تبيت في الخارج، وتدّعي أنها قضت الليلة عند صديقتها نِهاد.. المغفّل لا يعلم بأنها كانت تصرف عليه لمّا كان يدرس بالجامعة..
في الطريق ندم حسن على ضرب أخته.. كاد يجهش بالبكاء.. قال لنفسه المنكسرة:
ـ حسنية التي تغسل ملابسك، و(تصلحها) بالمكواة، وتطويها بعناية، وتضعها في الخزانة، وتقدم لك الطعام، وتمدّك بين الحين والآخر بمصاريف الجيب!..
لعن الفقر والمدرسة والإجازة والوظيفة والبطالة وكل مؤسسات الدولة التي دفعته لأن يمدّ يده على أخته التي يعتبرها مثل أمه الثانية..
عندما عاد في المساء إلى البيت، وجد حقيبة ثيابه بالقرب من الباب، وطلب منه والداه مغادرة البيت!..
المعجم:
ـ سلة بلا عنب: مجاز شعبي: الانسحاب بأقل الخسائر الممكنة..
ـ مخطوفة: مسرعة وعقلها مشوش..
مراكش في 19 يناير 2024