د. أحمد الحطاب - نموذج من ما تُنتجه المنظومةُ التربويةُ المغربيةُ

بعد إطلاعي على رسالة مُحرَّرة باللغة الفرنسية، على ما يبدو، هي عبارة عن طلب توظيف موجَّهٍ لمدير مؤسسة تعليمية خصوصية علما أن صاحبَ هذا الطلب يُفيد بأنه حاملٌ لدبلومٍ في الأدب الفرنسي، اختصاص اللسانيات linguistique، وقفتُ مشدوها ومُحيَّرا لما ورد من أخطاء في تركيب الجُمل وأخطاء إملائية fautes d'orthographe ونحوية fautes grammaticales.

وفضلا عن هذه الملاحظات، فإن علامات الترقيم أو الوقف ponctuation من نقطٍ points وفاصلات virgules تكاد تكون غير موجودة بحيث أن الرسالةَ عبارة عن جملٍ متجاورة لا يعرف القارئ متى تبتدئ ومتى تنتهي. ناهيك عن الخلط بين معاني الكلمات…

الغريب في هذه الرسالة، هو أن صاحبَها يدَّعي أنه حاصلٌ على دبلوم في اختصاص اللسانيات. وأغرب من الغرابة، هو أن اختصاصَ اللسانيات يهتمُّ بجميع أوجُه اللغات، بما في ذلك التدقيق الإملائي orthographe والنحو grammaire.

لو أنض بعضُ الأدباء الفرنسيين لا يزالوا موجودين على قيد الحياة من مثل Voltaire و Victor Hugo و Alphonse de Lamartine و Jean-Jacques Rousseau... واطلعوا على هذه الرسالة، لبادروا بالانتحار لِما أصاب لغةَ أقلامهم من تعذيب و وجع وتحريف. أما الكُتّاب المغاربة الناطقون بالفرنسية من طينة الطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي وفؤاد العروي وادريس الشرايبي وعبد الكبير الخطيب...، فسيندمون على اليوم الذي اختاروا فيه امتهان الكتابةَ والتأليف بالفرنسية.

إنا لا ألوم بتاتا صاحبَ هذا الطلب لأنه، حسب أسلوب الرسالة، يبدو واثقاً من نفسِه ومن تكوينه ومن القيمة المضافة التي ستستفيد منها المؤسسة التعليمية الخصوصية بعد التَّوظيف، من خلال تدريس اللغة الفرنسية.

اللوم موجَّهٌ للمنظومة التربوية التي أصبحت فاشلةً في التمييز بين الصواب والخطأ وبين الجميل والرديء وبين التكوين والتهريج… اللومُ موجَّهٌ للمنظومة التربوية التي أصبحت يُدرِّس بأقسامها مَن هبَّ ودبَّ. بل إن العديدَ من المدرسين اختاروا مهنةَ التَّدريس للإفلات من البطالة ولضمان راتب شهري.

وأخطر من هذا وذاك، أن الذين علّموا وكوّنوا صاحبَ الرسالة، هم أنفسهم يعتقدون أن ما يلقِّنونه للمتعلمين على صواب. وهذا هو ما سيحدث، فعلا، عندما يتمُّ توظيفُه لتدريس اللغة الفرنسية.

فعوض أن يكونَ صاحبُ الرسالة عاملا من عوامل الرفع من مستوى التعليم، فسيساهم في ردائته وانحطاطه وهكذا... إلى أن تصبح المنظومة التربوية هي نفسُها ناقلةً بدون عناء للرداءة والتهريج والخشونة...

أما إذا قمنا بتحليل لمحتوى الرسالة، فحدث ولا حرج : أغلاط بالجملة، إملائية ونحوية، أسلوت ركيك، أسلوب ينقصه الأدب واللياقة، كلمات مستعملة في غير محلها، خلط بين الأدب الفرنسي واللسانيات...

وعندما يتمُّ توظيف صاحبِ الرسالة، فكم سيكون عدد ضحاياه؟ وإذا عرفنا أن هذا النموذجَ من المدرسين يوجد بكثرة ليس فقط في التَّعليم الخصوصي، بل كذلك، في التَّعليم العمومي، وليس فقط في مجال تدريس اللغات، لكن في جميع التَّخصُّصات، فعدَدُ ضحايا هذا النوع من المدرسين سيصبح أضعافا مضاعفة. عندها، تصبح الرداءة إرثا أو مكوِّنا مترسِّخا في المدرسة الوطنية تتناقله أجيال المدرسين والمتعلمين في منظومة تربوية أصابها الضياع ونخرَ أعضاءها الفساد البيداغوجي والتربوي.

بالفعل، إن منظومتَنا التربوية أصِيبت بمرضٍ مزمنٍ maladie chronique اسمُه اللامبالاة والإهمال.

اللامبالاة ترجمةٌ صارخة لعدم وجود إرادة سياسية قوية تجعل من هذه المنظومة أولوية الأولويات، مرتبطٌ بها، ارتباطا راسخا، مستقبل ومصير البلاد.

الإهمال ترجمةٌ صارخة للمقولة المتداولة في الأوساط السياسية التي مفادُها "ومن بعديَ الطوفان".

لكن، عندما تلتقي اللامبالاة بالإهمال، وبالأخص، الإهمال السياسي، فالكارثة هي تركُ المنظومة التَّربوية تسير لحالها، كما هي، حاملةً معها كل المشاكل المتراكِمة والأعطاب والثغرات والإخفاقات والنواقص… إلى درجة أنها أصبحت تقاوم كل الإصلاحات. لماذا؟

لأن منظومتَنا التربوية لا يمكن، على الإطلاق، أن يقومَ بإصلاحِها سياسيون فاسدون حتى النخاع. سياسيون يختلط في فكرهم وفي تربيتهم الوصولُ إلى السلطة بالانتهازية وقضاء المصالح الشخصية.

لو كانت وأصبحت منظومتُنا التربوية هاجسا يشغل بالَ السياسيين وأحزابهم، لانتهينا منذ زمان من إصلاح هذه المنظومة وتفرَّغنا، فقط وحصريا، للانشغال بتحسين مردوديتِها وجودة أدائها.

فكيف لمنظومتِنا التربوية أن يتمَّ إصلاحُها، وأسمى وأرقى ما تقوم به من مهام وما تِّقدمُه من خدمات للأجيال المتوافدة عليها، وعلى رأسها، مهمة التنشئة الاجتماعية وخدمات التعليم والتعلُّم، أصبح سلعةً تباع وتّباعُ وتُشترى.

فإذا كانت منظومتُنا التربوية ضحيةً للامبالاة ولإهمال السياسيين، فإنها اليوم وفي نفس الوقت، تعاني من الداخل. بمعنى أن الذين حوَّلوا خدماتِ المنظومة التَّربوية، المجانية دستوريا وقانونيا، إلى سلعة تُباع وتُشترى موجودون بداخلها. وهذا يعني موتُ الضمير المهني. وموتُ الضمير المهني يعني موت الأخلاق والأخلاقيات ومعهما موت كل القيم الإنسانية التي، من شأنها، مساعدة المنظومة التَّربوية على أداء مهامها في جوٍّ تطبعُه الاستقامة intégrité والنزاهة probité.

قد يقول قائلٌ إن هذا النوعَ من المفسدين قليل بالمقارنة مع الأغلبية الساحقة المستقيمة. نعم، هذا صحيح. لكن لا ننسى أن "حُوتَ وَحْدَ كَتْخَنّزْ الشواري". بمعنى أن فسادَ المفسدين، إذا اقترن بالطَّمع avidité والجشع cupidité، لا شيءَ يوقفه. بل ينتشر كالنار في الهشيم.

فلا غرابةَ أن تصبحَ المنظومة التَّربوية وما، من المفروض، أن تقدِّمَه للمجتمع من خدمات مجانية، مصدرا لكسب المال. ولا غرابة أن تتدهورَ وتتراجعَ سمعةُ المدرسة العمومية. ولا غرابة أن تقاومَ منظومتُنا التربوية كل الإصلاحات. لماذا؟ لأن مَن هم، من المفروض، أن يكونوا في المقدِّمة لإنجاح هذه الإصلاحات، هم الذين يُفسدونها جزئيا من الداخل. ولا غرابةَ أن تُنتِجَ منظومتُنا التَّربوية من أمثال صاحب الرسالة المشار إليه أعلاه!!!

كل هذه الغرابات تؤدي إلى مزيدٍ من الغرابات الأخرى التي يمكن اختزالُها في المثل المغربي : "مُولْ لْمْلِيحْ باع وراحْ"، أي أن المنظومة التَّربوية الجيِّدة التركيب والأخلاق والقيم راحت، إن لم نقل انتهت! إلى أين نسير؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى