أحمد حسن الزيات - لماذا ترجمت فرتر

(إلى الصديق الذي سألني هذا السؤال وهو طليق الحرية في بغداد فأجبته وهو سجين في كركوك)

تسألني لماذا ترجمت فرتر. . . والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غداً سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها:

قال ((جوت) يوماً لصديقه (اكيرمان): (كل امرئ يأتي عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) إنما كتب له خاصة) وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين!: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في دائرة ليس فيها من الواقع غير وجوده،. . . وإحساس مشبوبيتوقد شعوراً بالجمال، وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواطف سيالة ما تكاد تتماسك. . . . .! فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة!. . وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطقأفسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى. ثم غمر هذه الحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه مُلِحّ، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن، وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لاحِب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور!. . ورحت أسلك هذا الطريق السحري محمولاً على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة أصطدم عندها الخيال بالواقع، والحبيب بالخاطب، والعاطفة بالمنفعة!! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً ولا بد للحي أن يسير!!

تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض، والعرائس وحوش. فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس!. . ولكن أين أنشد ما أبغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث!!؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت عليّ، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي، فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟؟ قرأت هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأدولف، ودومينيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان دكريف، وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي. ولكنهم كانوا جميعاً غيري، نتفق في الموضوع ولكن نفترق في الوضع، كالنساء النوادب في مناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد هو الموت!!

فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت روحاً غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالاً غير تلك الحال!! كنت أقرأ ولا أرى في الحادثة سواي، وأشعر ولا أشعر إلا بهواي، وأندب ولا أندب إلا بلواي، فهل كنت أقرأ في خيالي أم أنظر في قلبي، أم هو الصدق في نقل الشعور والحذق في تصوير العاطفة يظهران قلوب الناس جميعاً على لون واحد؟؟

كنا يومئذ في مايو والطبيعة تعلن عن حبها بالألوان والألحان والعطر، ونفسي تحاول أن تعلن عن هواها بالدموع والشعر، فآلامي تجيش في عيني، وعواطفي تتنزَّى على لساني وبلابلي تتوثب في خاطري، وكلها تطلب السبيل إلى العلانية، (والشكوى في الحب كالطفح في الحمى كلاهما عرض ملازم) فلما قرأت (فرتر) تنفس جواي المكظوم، واستغنى عن البيان هواي المكتوم، لأنني لو كنت صببت مهجتي على قرطاس لما كانت غير (فرتر)، وهل فرتر إلا قصة الشباب في كل جيل؟ رجل شديد الحس قوي العاطفة يتقسم الخيال (والايديال) نواحي نفسه، ورجل آخر بارد الطبع عملي الفكر يعرف دائماً كيف يجر النار إلى قرصه، وامرأة بينهما يجذبها إلى الأول طبعها الغزلي وقلبها الشاعر ويربطها بالثاني عقلها المادي ووعدها المأخوذ. . . هذا هو موضوع آلام فرتر وهو عينه موضوع آلامي. . . فلم لا أنقله إذن إلى لغتي لينطق عن لساني كما ترجم صادقاً عن ضميري؟؟

فنيت في (جوت) وقادني إلهامه وروحه، وأهَبْتُ بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحات القدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طول القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورُقْيَة هم!! كأنما كان (جوت) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: (وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه وتلمسي البرء والشفاء في أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو أقرب اليك وأحنى عليك؟؟

أ. الزيات

مجلة الرسالة - العدد 3
15 - 02 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى