مثلما قالوا: فجر الخميس 31 أغسطس 2023 سيكون القمر بَدرا على أقرب مسافة من الأرض، في ظاهرة فلكية تسمّى “القمر الأزرق العملاق”. سيظهر أكبر حجما بنسبة 14%، بدرجة سُطوع تفوق المعدل الطبيعي.
وها أنا أمام هذا كله..
مجذوبا أقف على سطح البيت، أرى القمر قريبا، وفي استطاعتي أن أطير وأمسكه. لأول مرة يبدو بهذه الاستدارة المُجسَّمة، كُرة حقيقية بيضاء مُعلقة في الفضاء، وليست مجرد دائرة مُسطّحة.
تابعتُ المشهد الفاتن، درجة اللمعان تكاد تصل للإشعاع، يوشك النور المتلألئ أن يسيل مثل قطرات اللبن، أفكّر في إخراج تليفوني وتصوير لقطة ليلية لهذا السّطوع الفريد. لا أفعل، ستُقدم الصورة نسخة غير مُطابقة للبدر المُتجلّي. لا شيء يساوي منظر التلألؤ الطبيعي الواصل إلى السطح، بساط نوراني مفروش من حولي، لدرجة أنني لو أحضرتُ كتابا سأتمكّن من قراءته تحت هذا الإشعاع الدافق.
لم أفعل أيضا.
وقفتُ حائرا، هذا جمال لا يُحتمَل، لابد أن أُشرِك أحدا معي في رؤية هذا النور الغامر، نغتسل بأعيننا، نُسبّح للجمال الممنوح للجميع، ننسى كل ما فعلناه في النهار الحار الرهيب.
**
بسرعة قُمت نازل السّلم، ولقيت نفسي بغَني أغنية “وردة”: “يا قَمرنا يا قمرنا يا قمرنا.. ضَوّي فُوق شَجرنا، ضَوّي ضَوّي يا قَمرنا”. قُلت أنادي حَد مِ العِيال يشوف معايا، ولو أُمهم صاحية مُمكن تيجي معاهم. جَه في دماغي أشوف أبويا أو أُمي، جايز حَد منهم صاحي، بس إزاي هيطلعو لسطح الرابع في وقت زي دا، خُصوصا أبويا اللي بيشكِي م المفاصل. فَتحت باب الشّقة لَقيت البنت الكبيرة في الصالة ممدّدة بتضحك على فيديو شغّال على تليفونها. قُلت ف نَفسي: البنت دي داخلة أُولى ثانوي ولِسه هايفة ومِش عاوزة تِعقَل. الهانم الوسطانيّة نامت، أما الباشا الصغير فقاعد يفك ويركّب في كشّاف قديم. أُمهم نامت فعلا زي ما توقّعت لإنها هتصحى بَدري. كَلّمت البنت الكبيرة عن سُطوع القمر، ونوره السّايل. بَصّت باستغراب وقالت: “يا عيني يا عيني ع الرّوقان، قمر ونور سايل، هو مِش احنا برضُه طُول النهار في خناق ودَوشة، وانتَ وماما صُوتكُوا بيجيب آخر الشارع، الكلام الحلو عن القمر والحاجات دي بِترُوح فين بالنهار؟ ههههه، الفيديو دا يضحّك الحَجر”.
مِشِيت من قُدامها مكَشّر، ورُحت للولد المَكْفي ع الكشّاف اللي بَقَى خمسين حِتّة: “انتَ صاحي لحد دلوقت ليه؟ وإيه اللي انتَ هَبّبتُه دا”؟ رَد وهو مرَكّز: “بَشوف البِتاع دا”. قلت: “تيجي تُقعد معايا ع السطح شويّة”؟ رد عَليّا: “أنا زهِقت مِنُّه وهَروح أنام، مِش عاوز أَطلع ع السطح دلوَقت”. كُنت هَكلمه عن القمر، وافَكَّرُه بالنّشيد اللي كان مُقرّر عَليه: “انزِلْ يا قَمرْ/ نَلعَب تحتَ الشَّجَرْ”، لكن خَلاص طالما هَينام: “طَيب رُوح، وَمَتِنساش تهَدّي المروحَة شويّة”.
**
عدتُ إلى السطح.
فتحتُ عينيّ باتّساع ثم أغمضتُهما، لا يزال البياض المُشع يطوف أمامي في ظلام ملّون. أخذتُ نفَسا طويلا، بدأتُ أستنشق النور، للنور رائحة لا تُوصَف، ربما كانت لخيوط نسيج مُندّاة تحمل عبير القطن العالق بها لا يزال.
كُرة السِّحر البيضاء هناك في انتظاري، تنثر ستائرها الكريستالية. في داخلي حَسرة على هذا النور المسكوب من مصدر سماوي، ليغمر جِبالا من الضغط والعَصبيّة والعيش على الحافّة. رغم ذلك لا أثر لبشر على الأسطح القريبة، لا وجود لعيون تُراقب هذا الأَلق لتعيش دقائق بعيدا عن كل ما تركه يوم طويل من تكسير الأبدان والأحلام.
قعدتُ جَنب السور ملمومًا على نفسي، مُريحا رأسي بين رُكبتيّ. سأنام هنا حتى الصباح، ما المانع؟ ستُوقظني ألسنة الشمس أول ما تبدأ في السخونة.
**
نِزلت أجِيب أي فَرشَة ومخدّة صغيّرة، طبعا لقيت الكل نيام نيام. خَدت الحاجة ورجِعت، نمت ومَدّدت ع السطح، وقَعدت أبُصّ للسّما المنوّرة الصافية، يااااه ع الجمال والمنظَر اللي مَلُوش مثيل. بدأت أحس إني متخَدّر، أو على وشَك النوم، عينيّا بَقَت بِتفتّح بالعافيَة، ودماغي تِقلِت. كُنت في حالة كدا بين النوم والصّحيان، لحَد ما بَدأت حاجات بيضا تِظهر لي، كُل ما يتهَيّأ لِي إني شُفت حاجة أَغَمّض تاني. حاجات زَي أشباح بيضا بِتِتحرك من بعيد وبتعمِل حرَكات، وبعدين تِجري تستَخَبّى في الأُوضتين اللي في آخِر السّطح. غَمّضت تاني وقُلت مِش فاتح عيني أحسن. لكِن كُنت حاسِس إنهم بيقَرّبو مِنّي، وإنّي لو فَتّحت مرّة واحدَة هَلاقيهُم في وِشّي، لا يُمكن يكُونو حاجة وِحشَة، الجُو دا عُمره ما يكون فيه أي شيء وِحِش، طَيب: جايز مَلايكَة نازلين يشُوفو مين اللي صاحي وشاغِل نفْسه ومين اللي نايم وسايب الجمال دا كُله. يكونو زَي ما يكونو، حَسيت إنّي رُحت خالص في غَفوة كِدا دقيقتين أو تلاتة، لِغاية ما لَقيت حَد بيهِزِّني بالراحة، إيد خفيفة لمَست كِتْفي مَرتين.
**
في غَفوتي تلاشت الأشباح، رأيتُ قمري قُرصا من السّمن البَلدي يدور بسرعة كبيرة. انفتحت شَهيتي على رائحة فيها دَسامة، بَلعتُ ريقي، فتحوّلَ القمر إلى كُرة الساحر البللورية التي قرأتُ عنها، رأيتُ فيها بلادا وبشرا من تواريخ وعوالم لم أسمع بها، أزياء ولُغات وزحام كبير، وحتى البلاد الجميلة التي رأيتُها على الشاشات كانت أمامي بشوارعها اللامعة، شوارعها المتداخلة المُهتزَّة داخل رأسي المُنتبه لهِزّات خفيفة..
فتحتُ عينيّ الثّقيلتين، رأيتُ في غَبشة الصَّحو شبحين أبيضين، أحدهما قصير والآخر أطول منه قليلا. أخذتُ فترة إغماض طويلة نسبيا، ولما عدتُ لأرى لم أجد شيئا، قلتُ إنها هَلاوس وخيالات قَمري القريب من كوكبنا، يُرسل إليّ أشباحه الجميلة لتأخذني من عالمي الرّاكد.
**
وبالرغم من كُل الجمال والحالة الحلوة اللي أنا فيها، شُفت تاني حَد لابِس أبيض اتحرَّك بسرعة من هِنا لهِنا. قُمت ومشِيت ناحية الأُوضتين، وكُنت بصراحة خايف: الأُوضتين دُول فيهم كراكيب قديمة، موبيليا مكَسّرة وكَنَب بلدي مدغدَغ وحاجات كتير، وكَمان فيهم فيران مستَخَبيّة في الهيصَة دي. وقفت ع الباب وحسّيت بحرَكة، لازم فار حَس بِيَّا، ضحكت: فار واحد، قُول فيراااان! وفي وِسط حِيرتي دي كلها سِمعت مرَة واحدة: “بِخ!”.. وِقِعت مِن طُولي، والشّبحين البِيض طِلعُو من قَلب الضّلْمة، وقامو شايلين الملايات البيضا مرة واحدة، وانفَجرو في الضحك. لقيت قُدامي العفريتة الكبيرة والواد الصغير!
“يا ولاد ال.. هو انتو مِش نايمين؟!”..
“قُلنا نيجي نشوف القمر معاك، كُنا مفَكّرينك قَلبك جامد، ههههه، دا انتَ طلِعت أي كلام يا بابا”.
وها أنا أمام هذا كله..
مجذوبا أقف على سطح البيت، أرى القمر قريبا، وفي استطاعتي أن أطير وأمسكه. لأول مرة يبدو بهذه الاستدارة المُجسَّمة، كُرة حقيقية بيضاء مُعلقة في الفضاء، وليست مجرد دائرة مُسطّحة.
تابعتُ المشهد الفاتن، درجة اللمعان تكاد تصل للإشعاع، يوشك النور المتلألئ أن يسيل مثل قطرات اللبن، أفكّر في إخراج تليفوني وتصوير لقطة ليلية لهذا السّطوع الفريد. لا أفعل، ستُقدم الصورة نسخة غير مُطابقة للبدر المُتجلّي. لا شيء يساوي منظر التلألؤ الطبيعي الواصل إلى السطح، بساط نوراني مفروش من حولي، لدرجة أنني لو أحضرتُ كتابا سأتمكّن من قراءته تحت هذا الإشعاع الدافق.
لم أفعل أيضا.
وقفتُ حائرا، هذا جمال لا يُحتمَل، لابد أن أُشرِك أحدا معي في رؤية هذا النور الغامر، نغتسل بأعيننا، نُسبّح للجمال الممنوح للجميع، ننسى كل ما فعلناه في النهار الحار الرهيب.
**
بسرعة قُمت نازل السّلم، ولقيت نفسي بغَني أغنية “وردة”: “يا قَمرنا يا قمرنا يا قمرنا.. ضَوّي فُوق شَجرنا، ضَوّي ضَوّي يا قَمرنا”. قُلت أنادي حَد مِ العِيال يشوف معايا، ولو أُمهم صاحية مُمكن تيجي معاهم. جَه في دماغي أشوف أبويا أو أُمي، جايز حَد منهم صاحي، بس إزاي هيطلعو لسطح الرابع في وقت زي دا، خُصوصا أبويا اللي بيشكِي م المفاصل. فَتحت باب الشّقة لَقيت البنت الكبيرة في الصالة ممدّدة بتضحك على فيديو شغّال على تليفونها. قُلت ف نَفسي: البنت دي داخلة أُولى ثانوي ولِسه هايفة ومِش عاوزة تِعقَل. الهانم الوسطانيّة نامت، أما الباشا الصغير فقاعد يفك ويركّب في كشّاف قديم. أُمهم نامت فعلا زي ما توقّعت لإنها هتصحى بَدري. كَلّمت البنت الكبيرة عن سُطوع القمر، ونوره السّايل. بَصّت باستغراب وقالت: “يا عيني يا عيني ع الرّوقان، قمر ونور سايل، هو مِش احنا برضُه طُول النهار في خناق ودَوشة، وانتَ وماما صُوتكُوا بيجيب آخر الشارع، الكلام الحلو عن القمر والحاجات دي بِترُوح فين بالنهار؟ ههههه، الفيديو دا يضحّك الحَجر”.
مِشِيت من قُدامها مكَشّر، ورُحت للولد المَكْفي ع الكشّاف اللي بَقَى خمسين حِتّة: “انتَ صاحي لحد دلوقت ليه؟ وإيه اللي انتَ هَبّبتُه دا”؟ رَد وهو مرَكّز: “بَشوف البِتاع دا”. قلت: “تيجي تُقعد معايا ع السطح شويّة”؟ رد عَليّا: “أنا زهِقت مِنُّه وهَروح أنام، مِش عاوز أَطلع ع السطح دلوَقت”. كُنت هَكلمه عن القمر، وافَكَّرُه بالنّشيد اللي كان مُقرّر عَليه: “انزِلْ يا قَمرْ/ نَلعَب تحتَ الشَّجَرْ”، لكن خَلاص طالما هَينام: “طَيب رُوح، وَمَتِنساش تهَدّي المروحَة شويّة”.
**
عدتُ إلى السطح.
فتحتُ عينيّ باتّساع ثم أغمضتُهما، لا يزال البياض المُشع يطوف أمامي في ظلام ملّون. أخذتُ نفَسا طويلا، بدأتُ أستنشق النور، للنور رائحة لا تُوصَف، ربما كانت لخيوط نسيج مُندّاة تحمل عبير القطن العالق بها لا يزال.
كُرة السِّحر البيضاء هناك في انتظاري، تنثر ستائرها الكريستالية. في داخلي حَسرة على هذا النور المسكوب من مصدر سماوي، ليغمر جِبالا من الضغط والعَصبيّة والعيش على الحافّة. رغم ذلك لا أثر لبشر على الأسطح القريبة، لا وجود لعيون تُراقب هذا الأَلق لتعيش دقائق بعيدا عن كل ما تركه يوم طويل من تكسير الأبدان والأحلام.
قعدتُ جَنب السور ملمومًا على نفسي، مُريحا رأسي بين رُكبتيّ. سأنام هنا حتى الصباح، ما المانع؟ ستُوقظني ألسنة الشمس أول ما تبدأ في السخونة.
**
نِزلت أجِيب أي فَرشَة ومخدّة صغيّرة، طبعا لقيت الكل نيام نيام. خَدت الحاجة ورجِعت، نمت ومَدّدت ع السطح، وقَعدت أبُصّ للسّما المنوّرة الصافية، يااااه ع الجمال والمنظَر اللي مَلُوش مثيل. بدأت أحس إني متخَدّر، أو على وشَك النوم، عينيّا بَقَت بِتفتّح بالعافيَة، ودماغي تِقلِت. كُنت في حالة كدا بين النوم والصّحيان، لحَد ما بَدأت حاجات بيضا تِظهر لي، كُل ما يتهَيّأ لِي إني شُفت حاجة أَغَمّض تاني. حاجات زَي أشباح بيضا بِتِتحرك من بعيد وبتعمِل حرَكات، وبعدين تِجري تستَخَبّى في الأُوضتين اللي في آخِر السّطح. غَمّضت تاني وقُلت مِش فاتح عيني أحسن. لكِن كُنت حاسِس إنهم بيقَرّبو مِنّي، وإنّي لو فَتّحت مرّة واحدَة هَلاقيهُم في وِشّي، لا يُمكن يكُونو حاجة وِحشَة، الجُو دا عُمره ما يكون فيه أي شيء وِحِش، طَيب: جايز مَلايكَة نازلين يشُوفو مين اللي صاحي وشاغِل نفْسه ومين اللي نايم وسايب الجمال دا كُله. يكونو زَي ما يكونو، حَسيت إنّي رُحت خالص في غَفوة كِدا دقيقتين أو تلاتة، لِغاية ما لَقيت حَد بيهِزِّني بالراحة، إيد خفيفة لمَست كِتْفي مَرتين.
**
في غَفوتي تلاشت الأشباح، رأيتُ قمري قُرصا من السّمن البَلدي يدور بسرعة كبيرة. انفتحت شَهيتي على رائحة فيها دَسامة، بَلعتُ ريقي، فتحوّلَ القمر إلى كُرة الساحر البللورية التي قرأتُ عنها، رأيتُ فيها بلادا وبشرا من تواريخ وعوالم لم أسمع بها، أزياء ولُغات وزحام كبير، وحتى البلاد الجميلة التي رأيتُها على الشاشات كانت أمامي بشوارعها اللامعة، شوارعها المتداخلة المُهتزَّة داخل رأسي المُنتبه لهِزّات خفيفة..
فتحتُ عينيّ الثّقيلتين، رأيتُ في غَبشة الصَّحو شبحين أبيضين، أحدهما قصير والآخر أطول منه قليلا. أخذتُ فترة إغماض طويلة نسبيا، ولما عدتُ لأرى لم أجد شيئا، قلتُ إنها هَلاوس وخيالات قَمري القريب من كوكبنا، يُرسل إليّ أشباحه الجميلة لتأخذني من عالمي الرّاكد.
**
وبالرغم من كُل الجمال والحالة الحلوة اللي أنا فيها، شُفت تاني حَد لابِس أبيض اتحرَّك بسرعة من هِنا لهِنا. قُمت ومشِيت ناحية الأُوضتين، وكُنت بصراحة خايف: الأُوضتين دُول فيهم كراكيب قديمة، موبيليا مكَسّرة وكَنَب بلدي مدغدَغ وحاجات كتير، وكَمان فيهم فيران مستَخَبيّة في الهيصَة دي. وقفت ع الباب وحسّيت بحرَكة، لازم فار حَس بِيَّا، ضحكت: فار واحد، قُول فيراااان! وفي وِسط حِيرتي دي كلها سِمعت مرَة واحدة: “بِخ!”.. وِقِعت مِن طُولي، والشّبحين البِيض طِلعُو من قَلب الضّلْمة، وقامو شايلين الملايات البيضا مرة واحدة، وانفَجرو في الضحك. لقيت قُدامي العفريتة الكبيرة والواد الصغير!
“يا ولاد ال.. هو انتو مِش نايمين؟!”..
“قُلنا نيجي نشوف القمر معاك، كُنا مفَكّرينك قَلبك جامد، ههههه، دا انتَ طلِعت أي كلام يا بابا”.