نحن الشعراء أحدث إصدارات الشاعر وليد العياري والذي احتوى على اثنتين وثلاثين قصيدة، ومعنونة ب "سمفونية الوجع" وقد اختار الشاعر هذا العنوان عن تجربة مريرة، فلم ينشأ من فراغ؛ فالوجع يتحول إلى مقطوعة سمفونية مؤلمة وحزينة؛ ليتوج هذا العنوان ملكًا على بقية العناوين التي لا تقل أهمية عن العنوان المتوَّج، فلا يمكننا مصافحة المبوب دون مصافحة العنوان.
فالعنوان عصب الديوان وعموده الفقري المرتكَز عليه، وشكل البنية التحتية الصلبة له.
يقول الشاعر من قصيدة "نحن الشعراء"
جلست على حافة الخوف
أخيط أزرار الثقة ...
أضرب بعصاي الشك.
أحاول الإمساك بتلابيب اليقين..
وقعت في قبضة الشوق
تحاصرني ذكريات الطفولة....
رجفة بأوصالي ...
وقد صاغ الشاعر كلماته بكل بساطة وسلاسة، وهذا ما تقوم عليه القصيدة الحديثة المتكئة على اللغة الشاعرية الراقية، وهذا ما جعلها، وجعل بقية قصائد الديوان ناجحة فنيًا، فالفن الشعري يستلزم طاقات متفجرة خبرة وكفاءة عليا في الممارسة الشعرية لا تتوفر عند أكثرالشعراء.
ومن قصيدة "موت تجريبي" وهو عنوان متفرد مستفز نوعًا ما
يقول الشاعر:
قريبًا سأعلن موتي...
ستبثق الكلمات من خاصرة صمتي ...
ستبلل دموع أمي نعشي ...
سيبنون لي قبة ...
للتبرك بكراماتي ...
لست نبيا ...
ولا أظن نفسي زعيم التبت ...
حذار من نعتي بالزندقة ...
أو التنمر على ذاتي ...
يوظف الشاعر لغته هنا بأشكال متعددة فتارة بالجملة الفعلية، وبالجملة الاسمية تارة أخرى، حيث يتنبأ بمجريات الأحداث التي ستحدث ما بعد موته، وهو هنا بشكل خاص وببقية القصائد، يكثف حالة الشعور الكلي للقصيدة، فهي عنصر جمالي يؤدي فعله بمفرده كجزء مستقل، ومع غيره داخلًا في السياق اللغوي.
وفي قصيدة "أنا إنسان" يخرج الشاعر عن صمته بانفعال شديد، حيث شكلت القصيدة ملحمة إنسانية أصابت من القارئ مقتلا.
يقول:
أنا ...إنسان
أنا إنسان
لا تنتقد صمتي...
من خاصرة الألم
ولدت ذات وجع...
بلا هوية ولا عنوان ...
مشرد في سراديب الأنانية ...
أجتر أسطوانات الأرق والمعاناة ...
أرتشف جرعات الصبر..
فهذه الكلمات لا تنقل لنا معانٍ مباشرة فحسب، وإنما هي طاقات متفجرة، ورموز بعيدة تنطق بكل الدلالات والمعاني التي جمعها العنوان " نحن الشعراء"
وقد شكَّل الرمز عند شاعرنا لحظة انتقاليه من الواقع إلى صورته المجردة، وتجسيم للانفعال في قالب جمالي خلَّاب.
من قصيدة "طقوس أيلول" يقول الشاعر:
بزخم الحكايات المؤلمة وضجيج قوافل الرحيل ...
يسكب في أقداح نشواتي شاي بإكليل وزنجبيل ...
ينتشي عقلي بصهيل الحرف في حدائق الكلم..
وفي عتمة خوفي الممزوج بالأمل
تضيء شموع الهوى ليلي الباكي ...
على جدار بؤسي تتكئ أغصان الزيتون..
نسجت فوق أريجها عبارات الشوق والحنين...
انتظري العاصفة..
إنها حيرة واضطراب، ومسرحية مليئة بالمأساة والمعاناة واغتراب في الزمن اللامحدود وحافلة بالأحداث المتضاربة والأفعال المتضادة، ومنها يكون التمزق والتشرذم، وفي هذه القصيدة نرى الشاعر كيف يدوِّر قصيدته لتحتاج نفسًا طويلا لقراءتها.
لو تتبعنا الظواهر اللغوية في مجموعة القصائد لوجدنا أنَّ الفعل هو العنصر السائد في أكثر المقاطع، وكما نعلم أنَّ للفعل دورا ثنائيًا:
- عنصر العلاقة: يقيم علاقات الأشياء ويحولها ويتحول بها، فهو محاولة للتركيز القائم على حركية الأفعال.
- عنصر الحركة: وهو عنصر الانتقال من حالة إلى حالة، وحركة التحول الدائم التي لا تعرف الاستقرار، فهو عنصر مضطرب وتوتر ودوران دائم حول حلقة لا تنغلق من الزمن.
من قصيدة "سراب الروح" يقول الشاعر:
تكلم الصمت...
حروف متمردة تحبو فوق سطور الأوراق...
تتشكل عبارات الشوق
ككرة الثلج تلسع أنامل طفل يتيم...
تحترق أصابع الليل
لتضيء وحشتي...
أقطف من خدود القدر وردة
أعطر بها ثغر زمني...
تنبثق من صدر الفجر تنهيدة الآه ...
أحتسي وجعي...
يدغدغ الحنين شرياني الممزق ...
أرتشف جرعات الأسى مع مرارة الدمع...
أطارد أفكاري في ذاكرتي...
تذوب الحروف فوق جسر الشفاه ...
أتراجع عن البوح...
ومن هنا نلاحظ عدم اختفاء الفعل في كل سطر شعري، وإن تغلِّب الفعل المضارع على الماضي، وهو استخدام للضرورة، حيث انطباق الفعل المضارع الدال على الحضور والاستمرار على مضمون التجربة، أما الفعل الماضي فقدن كان قليلا مقارنة بالمضارع، فلم يأت إلا للتداعي الذي هو ذاكرة الشاعر المحكوم عيها هنا بالمعاناة والاضطراب.
لا أطيل الكلام، فالشاعر وحد من أسلوبه في مجمل قصائد الديوان، وقد نجح في نقل تجربته وتثبيت آثارها الشعورية في النفس.
أمَّا الصور الفنية فهي ليست من الرمزية الغامضة ولا السريالية اللاواعية، وإنما هي صور جميلة بسيطة قد تعتمد على الاستعارة والرمز واللفظ الموحي وحركية الأفعال والصدمات الإيقاعية، إضافة للتوزيع الوتري الدقيق.
فالصور على بساطتها وسهولتها، فهي ذات بعد عميق تؤكد حالة المعاناة، وكان التكامل والنسيج الواصل بين كل قصائد الديوان العامل المهم في نجاح عملية التصوير الفني، وحبكة القضية المركزية لكل عنوان في الديوان ساهم في جعل نصوصه الشعرية لوحة متكاملة تتحرك ظلالها على إيقاع واحد كانت مجسدة في هذه الصور المتلاحقة بشكل متآزر فتَّان.
في قصائد الشاعر معاناة من الحياة، وخوف من المجهول والتي تدفعنا لإلقاء تلك الهموم في نهر الحياة، فالعاطفة الإنسانية والإحساس المرهف، والموسيقى العذبة، والتشكيل الهندسي الأنيق حدا بالشاعر إلى خلق عالم شعري فلسفي رمزي يحاكي الواقع المر، ويفارقه، وبتعبير آخر "تنقّح هذا الواقع، وتنفي عنه دمامته، وتعبر عن الناهض فيه، وتتنبأ بالقادم، فكأنها مزيج من الواقع والحلم معًا.
يقول في قصيدة "رسالة إلى الخونة والعملاء":
سينحبس الدمع في عيون الغنيمات...
ويبلل الندى الحزين خدود الزهرات...
شيرين ما رحلت ...
رحلت الرجولة والشهامة من بلاد العرب منذ سنوات...
نعيق البوم موسيقى حمل الرفات...
تزف الشهيدة حيث عالم الصفاء...
شيرين ما رحلت ...
ولكن استوطنت بقلوب الخونة الخيبات ...
وختامًا فقد أبدع الشاعر لاختيار عناوين قصائده، وتميزت بحنكتها ومدلولها، ومن تلك العناوين " قلق وجودي – رؤيا – شبح المعاناة – صلوات في معبد الجنون – أنا لست بخير وغيرها.
ومع تلك العناوين يأتي التداعي والجريان؛ ليشكل صورة مدورة تحقق إيقاع التجربة الدرامية التي تنتهي في جو من الأفعال المتناقضة مما يزيد من عمق الصورة التي نجحت في إبراز جزئياتها عن طريق فصل بعضها عن بعض، وشحنها بطاقة شعرية عن طريق توزيع مضمون السياق والقضية المركزية لكل نص شعري من الديوان.
إنَّ حالة المعاناة لدى شاعرنا تتحول إلى زلزال متفجر يوضحه سلسلة الأفعال المتوالية التي تدل على الصورة ومباشرتها.
أتمنى التوفيق للشاعر وليد العياري في مولوده الجديد (سمفونية الوجع) عسة أن يكون آخر الأوجاع، والله ولي التوفيق.
بقلم الناقد الأدبي الأردني / أيمن دراوشة
فالعنوان عصب الديوان وعموده الفقري المرتكَز عليه، وشكل البنية التحتية الصلبة له.
يقول الشاعر من قصيدة "نحن الشعراء"
جلست على حافة الخوف
أخيط أزرار الثقة ...
أضرب بعصاي الشك.
أحاول الإمساك بتلابيب اليقين..
وقعت في قبضة الشوق
تحاصرني ذكريات الطفولة....
رجفة بأوصالي ...
وقد صاغ الشاعر كلماته بكل بساطة وسلاسة، وهذا ما تقوم عليه القصيدة الحديثة المتكئة على اللغة الشاعرية الراقية، وهذا ما جعلها، وجعل بقية قصائد الديوان ناجحة فنيًا، فالفن الشعري يستلزم طاقات متفجرة خبرة وكفاءة عليا في الممارسة الشعرية لا تتوفر عند أكثرالشعراء.
ومن قصيدة "موت تجريبي" وهو عنوان متفرد مستفز نوعًا ما
يقول الشاعر:
قريبًا سأعلن موتي...
ستبثق الكلمات من خاصرة صمتي ...
ستبلل دموع أمي نعشي ...
سيبنون لي قبة ...
للتبرك بكراماتي ...
لست نبيا ...
ولا أظن نفسي زعيم التبت ...
حذار من نعتي بالزندقة ...
أو التنمر على ذاتي ...
يوظف الشاعر لغته هنا بأشكال متعددة فتارة بالجملة الفعلية، وبالجملة الاسمية تارة أخرى، حيث يتنبأ بمجريات الأحداث التي ستحدث ما بعد موته، وهو هنا بشكل خاص وببقية القصائد، يكثف حالة الشعور الكلي للقصيدة، فهي عنصر جمالي يؤدي فعله بمفرده كجزء مستقل، ومع غيره داخلًا في السياق اللغوي.
وفي قصيدة "أنا إنسان" يخرج الشاعر عن صمته بانفعال شديد، حيث شكلت القصيدة ملحمة إنسانية أصابت من القارئ مقتلا.
يقول:
أنا ...إنسان
أنا إنسان
لا تنتقد صمتي...
من خاصرة الألم
ولدت ذات وجع...
بلا هوية ولا عنوان ...
مشرد في سراديب الأنانية ...
أجتر أسطوانات الأرق والمعاناة ...
أرتشف جرعات الصبر..
فهذه الكلمات لا تنقل لنا معانٍ مباشرة فحسب، وإنما هي طاقات متفجرة، ورموز بعيدة تنطق بكل الدلالات والمعاني التي جمعها العنوان " نحن الشعراء"
وقد شكَّل الرمز عند شاعرنا لحظة انتقاليه من الواقع إلى صورته المجردة، وتجسيم للانفعال في قالب جمالي خلَّاب.
من قصيدة "طقوس أيلول" يقول الشاعر:
بزخم الحكايات المؤلمة وضجيج قوافل الرحيل ...
يسكب في أقداح نشواتي شاي بإكليل وزنجبيل ...
ينتشي عقلي بصهيل الحرف في حدائق الكلم..
وفي عتمة خوفي الممزوج بالأمل
تضيء شموع الهوى ليلي الباكي ...
على جدار بؤسي تتكئ أغصان الزيتون..
نسجت فوق أريجها عبارات الشوق والحنين...
انتظري العاصفة..
إنها حيرة واضطراب، ومسرحية مليئة بالمأساة والمعاناة واغتراب في الزمن اللامحدود وحافلة بالأحداث المتضاربة والأفعال المتضادة، ومنها يكون التمزق والتشرذم، وفي هذه القصيدة نرى الشاعر كيف يدوِّر قصيدته لتحتاج نفسًا طويلا لقراءتها.
لو تتبعنا الظواهر اللغوية في مجموعة القصائد لوجدنا أنَّ الفعل هو العنصر السائد في أكثر المقاطع، وكما نعلم أنَّ للفعل دورا ثنائيًا:
- عنصر العلاقة: يقيم علاقات الأشياء ويحولها ويتحول بها، فهو محاولة للتركيز القائم على حركية الأفعال.
- عنصر الحركة: وهو عنصر الانتقال من حالة إلى حالة، وحركة التحول الدائم التي لا تعرف الاستقرار، فهو عنصر مضطرب وتوتر ودوران دائم حول حلقة لا تنغلق من الزمن.
من قصيدة "سراب الروح" يقول الشاعر:
تكلم الصمت...
حروف متمردة تحبو فوق سطور الأوراق...
تتشكل عبارات الشوق
ككرة الثلج تلسع أنامل طفل يتيم...
تحترق أصابع الليل
لتضيء وحشتي...
أقطف من خدود القدر وردة
أعطر بها ثغر زمني...
تنبثق من صدر الفجر تنهيدة الآه ...
أحتسي وجعي...
يدغدغ الحنين شرياني الممزق ...
أرتشف جرعات الأسى مع مرارة الدمع...
أطارد أفكاري في ذاكرتي...
تذوب الحروف فوق جسر الشفاه ...
أتراجع عن البوح...
ومن هنا نلاحظ عدم اختفاء الفعل في كل سطر شعري، وإن تغلِّب الفعل المضارع على الماضي، وهو استخدام للضرورة، حيث انطباق الفعل المضارع الدال على الحضور والاستمرار على مضمون التجربة، أما الفعل الماضي فقدن كان قليلا مقارنة بالمضارع، فلم يأت إلا للتداعي الذي هو ذاكرة الشاعر المحكوم عيها هنا بالمعاناة والاضطراب.
لا أطيل الكلام، فالشاعر وحد من أسلوبه في مجمل قصائد الديوان، وقد نجح في نقل تجربته وتثبيت آثارها الشعورية في النفس.
أمَّا الصور الفنية فهي ليست من الرمزية الغامضة ولا السريالية اللاواعية، وإنما هي صور جميلة بسيطة قد تعتمد على الاستعارة والرمز واللفظ الموحي وحركية الأفعال والصدمات الإيقاعية، إضافة للتوزيع الوتري الدقيق.
فالصور على بساطتها وسهولتها، فهي ذات بعد عميق تؤكد حالة المعاناة، وكان التكامل والنسيج الواصل بين كل قصائد الديوان العامل المهم في نجاح عملية التصوير الفني، وحبكة القضية المركزية لكل عنوان في الديوان ساهم في جعل نصوصه الشعرية لوحة متكاملة تتحرك ظلالها على إيقاع واحد كانت مجسدة في هذه الصور المتلاحقة بشكل متآزر فتَّان.
في قصائد الشاعر معاناة من الحياة، وخوف من المجهول والتي تدفعنا لإلقاء تلك الهموم في نهر الحياة، فالعاطفة الإنسانية والإحساس المرهف، والموسيقى العذبة، والتشكيل الهندسي الأنيق حدا بالشاعر إلى خلق عالم شعري فلسفي رمزي يحاكي الواقع المر، ويفارقه، وبتعبير آخر "تنقّح هذا الواقع، وتنفي عنه دمامته، وتعبر عن الناهض فيه، وتتنبأ بالقادم، فكأنها مزيج من الواقع والحلم معًا.
يقول في قصيدة "رسالة إلى الخونة والعملاء":
سينحبس الدمع في عيون الغنيمات...
ويبلل الندى الحزين خدود الزهرات...
شيرين ما رحلت ...
رحلت الرجولة والشهامة من بلاد العرب منذ سنوات...
نعيق البوم موسيقى حمل الرفات...
تزف الشهيدة حيث عالم الصفاء...
شيرين ما رحلت ...
ولكن استوطنت بقلوب الخونة الخيبات ...
وختامًا فقد أبدع الشاعر لاختيار عناوين قصائده، وتميزت بحنكتها ومدلولها، ومن تلك العناوين " قلق وجودي – رؤيا – شبح المعاناة – صلوات في معبد الجنون – أنا لست بخير وغيرها.
ومع تلك العناوين يأتي التداعي والجريان؛ ليشكل صورة مدورة تحقق إيقاع التجربة الدرامية التي تنتهي في جو من الأفعال المتناقضة مما يزيد من عمق الصورة التي نجحت في إبراز جزئياتها عن طريق فصل بعضها عن بعض، وشحنها بطاقة شعرية عن طريق توزيع مضمون السياق والقضية المركزية لكل نص شعري من الديوان.
إنَّ حالة المعاناة لدى شاعرنا تتحول إلى زلزال متفجر يوضحه سلسلة الأفعال المتوالية التي تدل على الصورة ومباشرتها.
أتمنى التوفيق للشاعر وليد العياري في مولوده الجديد (سمفونية الوجع) عسة أن يكون آخر الأوجاع، والله ولي التوفيق.
بقلم الناقد الأدبي الأردني / أيمن دراوشة
- لا تفعل شيئا