جمعي شايبي - الأحمر والأسود ستاندال ٦٨٥ صفحة . ترجمة: عبدالسلام المودني .

_ الأحمر والأسود _ ستاندال ٦٨٥ صفحة . ترجمة الأستاذ عبد السلام المودني .
ليس من الغرابة والعجب ألا تلقى رواية الأحمر والأسود حقها من الشهرة والرواج وذيوع الصيت والنجاح فور صدورها عام ١٨٢٩ م وإن كانت صفعة فشل ذريع وإهانة كبرى لكاتبها حينها .
ولكم أن تنظروا اليوم أي تحفة أدبية خالدة لا تموت ورثنا إياها الملهم ستندال .
لقد كان الزمن كفيلا بأن ينصره إذ أن التاريخ هو من أنصفه نكاية في بني عصره من أعداء العبقرية والنبوغ .


1.jpg


أولئك الذين نشدوا تحطيم مرآة روايته الصقيلة الشفيفة إذ عكست حقيقة صور حيوات الأسر الأرستقراطية البشعة وهي تغرق حد آذانها في أوحال الخديعة والمتع والتملق والبذخ .
فلا عجب أن تتحول الأحمر والأسود من خيبة قاتلة إلى انتصار كاسح عظيم .
ولكم تمنيت لو أن ستندال عاش حتى يرى عظمة مجده .
في تناص فسيفسائي بديع زاوج بين رومانسية ماتعة وسياسة غاية في دقة الإستقراء والتحليل وواقغية تعج بمآسي المقهورين كشفت فداحة ألم الطبقية الفضيع .
تناص فريد يجعل من هذه التحفة أضمومة جمعت من الأدب الروسي الرفيع أرقى تحفه .. ومحارة كشفت عن أغلى درره كرائعة آنا كارنينا وملحمة الحرب والسلم للملهم توليستوي .
ورائعة الجريمة والعقاب وأيقونة الإخوة كارامازوف للعبقري الخالد دوستويفسكي .
إننا في رحاب هذا المنجز البديع وهذا الصرح الأدبي العظيم الذي نلجه كالمتصوفة السالكين نروم تقاسم قطف ثمار جناته الفكرية اليانعة وكرع كؤوس جمالياته الآسرة وأن نقاسم البائسين من بني جنسنا ألآم جراحاتهم المفتوحة الدامية وانكساراتهم وخيباتهم القاتلة ومرارة واقع حيواتهم المريع .
لسبب بسيط هو أن رائعة الأحمر والأسود رواية لا تقرأ إنما تعاش .
نعيشها بنقاء ضمائرنا ورقة أرواحنا وبراءة وعفة عواطفنا وبطهارة إنسانيتنا النبيلة المقدسة .
إن الحب لعبة ما إن لعبناها فإننا لا نقامر بقلوبنا وعواطفنا وأحلامنا الوردية العريضة وسعاداتنا المؤجلة فحسب كونه رهان من شأن خسارته أن تطوح برؤوسنا .
إنها حكاية البطل جوليان سوريل القروي الذي ثار على وضاعة حظه والشاب الذي علمنا أن كل الحماقات يعقبها الندم إلا حماقة الحب .
ينحدر جوليان سوريل من طبقة شعبية دنيا كونه ابن نجار كغالبية سكان مدينته الجميلة فيريير ذات البيوت البيضاء الموشاة بأسطحها القرميدية الحمراء والذين يغلب عليهم طابعهم الفلاحي كقرويين بسطاء .
لا يتأتى لهم إلا القليل من الرفاه من خلال ما امتلكوا من مناشر الخشب .
عدى عمدة المدينة البورجوازي تاجر الحديد وصاحب مصنع المسامير المعروف السيد دورينال .
كان جوليان النحيل وإخوته الضخام جميعهم عمالا في منشر خشب والدهم الجشع . ولم تكن ضآلة جسد جوليان إلا لتزيده الكثير من الإحتقار من قبل جميع أفراد عائلته ككائن ضعيف .
غير أنه كان صاحب روح محتدمة وذاكرة مدهشة وذلك ماشفع له عند من قدروا موهبته التي يعود فضل صقلها للكاهن شيلون الذي علمه .
لقد كان جوليان مفتونا بالحياة العسكرية مذ رأى في إحدى أيام طفولته بعض فرسان الجيش السادس العائدين من إيطاليا بمعاطفهم الطويلة البيضاء تغطي رؤوسهم خوذات ذوات أرياش سوداء لكنه وقد بلغ التاسعة عشرة ربيعا من عمره فقد ودع حلم طفولته المتبخر وإن ظل مفتونا بسيرة نابليون واتتصاراته .
إذ قدر له.أن يوظف في بيت السيد دورينال ككاهن متخصص في دراسة اللاهوت باللغة اللاتينية وأوكلت له مهمة تعليم أبناء العمدة الثلاث .
كانت السيدة دورينال زوجة عمدة فيريير تتوقع صورة المشرف على تربية أبنائها على هيئة كاهن بشع فظ أشعث قذر يتسربل بالمسوح سيكون من حقه بحكم وظيفته توبيخ أبنائها وحتى ضربهم .
لكنها بقدر ما صدمت بمرأى المربي جوليان بقدر ما تعاظمت فرحتها بهذا الضيف الوضيئ الوجه المليح التقاسيم والخفيف الظل والروح رغم بساطته الطاغية .
بين نسب وضيع وأصل رفيع بدأت الحكاية .
لكأن القدر قد خط مسرحية ساخرة بين الفضيلة والرذيلة .
لم يكن طبع كآبة روح جوليان إلا من وحي العبقرية ومان النبوغ قد ولد أنوارا ساطعة في عقله الراجح يلوح في عينيه وميض تفوق ثقافي أخاذ .
لكن إحساسه الحاد بالدونية والفقر هو من أغرقه في الخيالات والإرتياب .
فإن كان قد حاز على كل تلك الخصال والفضائل الثمينة فقد كان يعوزه النبل . نبل الإنتماء إلى نسب الأشراف .
أما السيدة دورينال فقد كانت زهرة جمال نضرة أذبلتها الرتابة والملل في ربيع العمر داخل قفص الزوجية لكنها ظلت محتفظة بلطفها الملائكي وحنوها الرؤوم .
وتشاء الأقدار أن تحوك بين قلبيهما علاقات العشق والهيام .
والحب إذا تملك قلوبا فإنه يجرد أصحابها من سلطة التعقل والذكاء ولن يهبهم غير جنونه الحكيم ولولا الحب ما انحدرت تلك القلوب إلى أسحق الوهاد .
لقد أخلصت السيدة دورينال حبها لرجل من الدرك الأسفل من المجتمع رغم أن ذلك يعد وصمة عار واحتقار تذل طبقتها .
وبذات الإخلاص والوفاء بادلها جوليان إلى أن نجى من موت محقق فرض عليه الفرار بعد أن ذاعت فضيحة عشقهما في فيريير .
قصد باريس حيث أختير كاتبا لدى الإقطاعي المركيز دولامول أغنى ملاكي المقاطعة حيث كان له هناك أن ولج عالم الأرستقراطية وتطلع على أدق تفاصيلها
حيث قدر له هناك أيضا ان تقع في حبه إبنة المركيز دولاموند الآنسة ماتيلد معشوقة كل العائلات البورجوازية كونها إضافة إلى الثراء ورفعة النسب فهي أكثر الآنسات الفرنسيات جمالا ونضارة واناثة وذكاء .
إن من شأن بعض الصدف أن ترفع مسوخا من الحمقى الوضيعين إلى مصاف النبالة والثراء والشرف .
هذا الذي اكتشفه جوليان في صالونات باريس المملوءة بالمخادعين بدل الشرفاء .
وما حياة روادها غير سلسلة من التصنع والنفاق .
إكتشف أن أكثرهم فضيلة أكثرهم نفاقا وأكثرهم عظمة أكثرهم دجلا وما واقعهم إلا تفاهة مطلقة وتكلف يبعث التقزز والإشمئزاز والقرف .
في حين أن نبل القروي جوليان كان أشرف من كل ماتجمع لأولئك السفلة الأوغاد من شرف ومال ونفوذ وسلطة وجاه .
أما الآنسة ماتيلد دولامول فكان قلبها عامرا بأحاسيس متضاربة متداخلة تبعث على القلق بين عاطفة حب جموح وغريزة فضيلة مرعبة .
عاشت أقسى لحظات اضطراباتها المروعة وظلت فريسة تعبث بروحها المخاوف والتصورات بين لذة الحب ولوعته تنهشها عذابات الأنفة والكبرياء والندم .
إن بعض القلوب إذا ما امتلكت فإن امتلاكها يبعث الشعور بالفخر .
لقد ايقنت الآنسة ماتيلد في الأخير أن قلب جوليان هو فخرها فتعلقت به بكل جوارحها حد الفناء إلى أن ألقى في رحمها بذرته وحدث ما حدث جراء هذه الفضيحة المدوية .
ومن فرط وفاء وغيرة عشيقة جوليان الأولى السيدة دورينال فإنها أبرقت إلى المركيز دولاموند برسالة تخص شأن طباع عشيقها مثقلة بالتهم الملفقة .
وما كان لجوبيان من رد على اتهامه بالوضاعة والخداع إلا أن أطلق النار على المرأة التي أحبها داهل كنيسة فيريير ولم يدرك خبر نجاتها من الموت إلا بعد أيام من مكوثه في السجن .
وجدولت جلسة محاكمته بتهمة محاولة ارتكاب جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد .
ما كانت الشجاعة تعوز جوليان حتى وهو يمشي صوب حتفه لكن الذي كان يقتل روحه هو شعوره بالندم .
وذلك ماكابده وهو قابع في دياجير زنزانته الإنفرادية رقم ١٠٣ إلى أن تبدد ندمه بعد زيارات متكررة من مغشوقته التي كاد ان يقتلها السيدة دورينال وزيارات الآنسة دولاموند التي ظلت فريسة لكل عذابات الغيرة والحب . كما زاره خلص صحبه ورفاقه على قلتهم .
إن ماتيلد آنسة حسناء لا يستطيع والدها العيش من دونها بينما هي لا تستطيع العيش دون عشيقها مادفعها رفقة ندتها لبذل كل وساطة ومستطاع لإنقاذ حبهما لكن كل تلك الوساطات والتكاليف الباهضة ذهبت أدراج الرياح .
مالذي يمكن لجوليان أن يجنيه من معارضته لكبار الأرستقراطيين النافذين ؟.
وبالمقابل مالذي يمكن لأولئك الأوغاد الذين تملقهم أن يضمنوا له غير خسارة حياته؟ .
وفي المحكمة بدل طلب العفو والرحمة هاجم سوريل كبرياء الأرستقراطية البورجوازية المتوحشة وهي من كانت تحاكمه فأصدرت حكم إعدامه بلا رحمة ولا شفقة وبكاه الحضور بكاء مريرا .
وأثناء مكوثه في زنزانته منتظرا تنفيذ حكم إعدامه لم يزدد جوليان إلا سموا حيثما تخطت عاطفة الحب والهيام في روحه شعور الإعجاب بالجمال والأبهة والكبرياء .
لم تكن الزنزانة الإنفرادية بهوائها الرطب ولا حتى عذابات انتظار الموت ورهبته من كان يعذبه إنما غياب عشيقته السيدة دورينال فأيام غيابها كانت بالنسبة إليه سلسلة متصلة من عذابات لا تطاق .
ينسى العاشق الولهان جوليان أن يحي فيحب بينما لم تبقى له غير أيام قليلة ليعيشها .
أي قلب هو جدير بأن يخفق له مثل هذا القلب ؟.
أعدم جوليان عن طريق مقصلة ودفن حسب وصيته في إحدى الكهوف المنعزلة .
وابقى لنا الكاتب الكبير ستندال كل الوقت لنفك شيفرات دلاليات نصه ورمزيات لونيه .
إن الأحمر والأسود أكبر من أن تكون محض رواية رومانسية يتفكه بمتنها الكسالى والحالمون تزجية للوقت وتبديدا لما حاطهم من سحائب الرتابة والضجر .
إنها رواية سياسية تكشف لك خفايا كواليس صناعة القرار وحقيقة الفساد المستشري في أنظمة الحكم .
ورواية إجتماعية كشفت بمنتهى الصدق فخاخ الطبقية المقيتة ومهاويها السحيقة المتصوبة لغالبية الشعب حيث فضحت اوجهعا القميئة المقنعة بشعارات الخديعة والكذب .
لتنثش على جبين التاريخ مسلمة الا طبقية في الكبرياء والأنفة كوننا جميعا من طبقة البشر .
لكأنها تهمس في اذنك بأن رفعة الطبقات والاوسمة والثروات لا تجديك شيئا وأنت مجروح الكبرياء .
الأحمر والأسود عداء صارخ لانانية رأس المال ومرافعة قوية عن الإنسان .
إنه مدلول نستمد معانيه الخفية المبطنة من خلال حكم إلإعدام الصادر في حق جوليان سوريل كونه يتخطى عقاب شخص عن جريمة محاولة القتل .
لأنه حكم بإعدام طبقة أدتى سحقها الفقر وإعدام ما حظيت به من تعليم جيد وجسارة الإرتقاء لما هو ارفع لها وأنسب وإعدام لكل ما يضمن لها من كبرياء ورقي ورفاه .
إن اللون الأحمر الذي يعنيه ستندال ليس الأحمر الذي تتفنن الخسناوات في بصمه على الشفاه .
إنه لون القرميد الذي يأوي تحت أسقفه أرواح المعذبين في الأرض .
ولون الماء المقدس الذي دنسته الكتائس بنفاقها وانه مداد الأناجيل .
ولون دماء الأحرار والثائرين من فجر التاريخ ولون دماء المظلومين بدء من هابيل .
والأسود الذي يعنيه ستندال في روايته غير سواد بذلات البورجوازيين الكذبة المنافقين .
وأسود غير سواد أردية القضاة الظلمة الفاسدين .
أسود ستندال هو سواد مسوح الكهنوت الذي لا يتاجر بالقيم والدين .
وأسود ستندال هو السواد الأعظم من المقهورين .
وبعد سردي لفلسفة ألولن النص لنا أن نسأل :
هل اختيار زوج بسبب جدارته وتفوقه دون اعتبار مكانته الإجتماعية يعد جنونا وعارا؟.
ولمن تساءل منكم : هل هناك من يقف في وجه الموهبة ؟.
أجيبه : نعم . وحده الحسد يفعل .
إن ستندال لاعب حريف لعب على ثيمة الحب والخيانة والنفاق والعدل والظلم والغنى والفقر والطبقية والكبرياء والوضاعة والعظمة فأتن فن اللعب .
بالحب بدأت مراجعتي وبالحب أختمها رافعا آخر سطر من أسطرها للعشاق ناصحا :
يامعشر العشاق إن غطرسة الكبرياء من يخمد جذوة الحب المستعرة في قلوبكم فتواضعوا تحفظوا دفئ وصالكم فإن صقيع الفراق لا يطاق .
ويامعشر البشر أحبوا بعضكم قبل أن تنقرضوا .
جمعي شايبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى