حيّرني في الحقيقة وجه الفتاة، وهي تبكي، وحزينة. ثمة شيء ما، كأنه الغيم الذي يحجب الشمس، فتعم من بعد ذلك، على وجه الأرض، الكآبة، وتشيع التعاسة، وينهمر المطر، على مدن خالية الشوارع من البشر، وموحشة.‏
ثمة شيء مثل ذلك، كان يحيط بوجه الفتاة، ليمحو من ملامحها، أي أثر للجمال، بالرغم من أن تقاطيع وجهها، من الجبين إلى العيون.. إلى الأنف.. إلى الفم.. كانت يجب أن تشكل بمجموعها، وجهاً يفيض بالسحر والحلاوة.‏
حيّرني ذلك. فقلت لفتى كان يقعد بمواجهتي: انظر إلى هذه الفتاة، وقل لي:‏
ـ هل أنها ليست فتاة جميلة؟‏
ابتسم الفتى، وهو نضر الوجه، وقوي العبارة، وجزم فوراً بدون تردد، كأنه كان يصاحبني في تفكيري، قال:‏
ـ لا بد أنها قبل أن تحزن هكذا،.. بمثل ما هي عليه الآن.. لا بد أنها كانت قبل ذلك، فتاة في منتهى الجمال.‏
قلت:‏
ـ إيه يا فتى، قل لي. إذن، فلماذا أنها لا تبدو بعد الحزن كذلك. في علمي: أن الحزن يزيد من رقة المرأة. وهذه امرأة وإن كانت ليست في الثلاثين وناضجة. لكن ألا ترى، رغم أنها في العشرين، ألا ترى كم في عينيها من أنوثة المرأة وسحرها.‏
قال الفتى وقد ظل يبتسم:‏
ـ قد يكون ذلك صحيحاً بالنسبة لامرأة في غير بلدنا. أما بالنسبة لفتاة من عندنا، فإن الحزن بكل هذا القدر من التعاسة، يذهب بجمالها.‏
حيّرني الفتى بآرائه. فقلت له:‏
ـ لكن كيف لا تكون الفتاة من عندكم حزينة، وقد تحملت كل هذا القدر من العذاب. هذه الفتاة بعينها مثلاً، فقدت في علمي، كل شيء. الأرض والوطن والأهل وأصبحت شريدة ضائعة ذليلة، بلا أم.. بلا أب.. بلا بيت..‏
فقاطعني الفتى مكملاً:‏
ـ بلا حب.‏
قلت:‏
ـ نعم بلا أي لون من الحب. تصور أن هذه الفتاة في مثل سنها، كان من الممكن أن تكون عروساً حلوة، يحبها ويتزوجها فتى في مثل سنك وقوتك وحلاوتك. بل كان من الممكن أن تكونا قد تزوجتما منذ سنتين أو ثلاث سنين، وقد ولد لها منك، طفل حلو تضمه إلى صدرها. هو والشمس والزهر والربيع، بدل أن ينوء كتفاها بكل هذا العذاب والبؤس والتشريد.‏
قال الفتى وقد توتر صوته وارتفع: تماماً.‏
ثم أضاف:‏
ـ لكل ذلك. فكيف يمكن أن تحتفظ هذه الفتاة بجمالها، مجبولاً بكل هذا الحب للأرض والأهل والحبيب والطفل؟ هل الحزن على ما ضاع هو الذي يستطيع أن يحتفظ لها بذلك.‏
قلت للفتى وقد زادت حيرتي أمامه: لم أفهم.‏
قال:‏
ـ تصور أن هذا الذي وقع بنا. نحن اللاجئين، قد جعلنا بقسوة الحجر. نعم. تصور. بيبوسة جذوع الأشجار المقطوعة من جذورها. نعم. تصور. فماذا يبقى في قسوة الحجر الجامد من جمال؟ ماذا للشجر اليابس المقتلع من قلب الأرض من جمال؟ وسط حزن وكآبة الصحراء الموحشة؟ تصور: إذا فاجأنا برد الصقيع في متاهات البراري العميقة البعيدة، وأخذنا نتجمد؟ تصور، هل بإمكان دمع العين نسكبه على الحجر الصلد أو على جذع الشجر اليابس، تعبيراً عن شقائنا، هل لذلك من معنى؟‏
لا بد أن الجمال في الحياة. في الأمل بالحياة. أليس كذلك؟‏
قلت للفتى:‏
ـ نعم، لكنني لم أزل لا أفهم.‏
قال:‏
ـ فما الذي يفيدنا، ونحن هناك. في صقيع البراري الموحشة. وقد تكوم عذابنا وشقاؤنا في قلوب مفصولة من أعماقنا، كومة من حجر الصوان، ماذا يفيدنا، سوى أن نتناول من كل تاريخ العذاب والضياع المكوم إلى جانبنا، حجرين اثنين، لنقدح بهما، بعنف وحرارة وتصميم، شرارة من النار، نشعل بها كل هذا الخشب اليابس من حولنا لنستعيد دفء الحياة، وننطلق باحثين عن طريق النجاة.‏
قلت للفتى وقد فهمت فجأة، ما يقصده:‏
ـ صح. قد بدأت أفهم. نعم لا بد من شرارة نار.. في عيون هذه الفتاة..‏
فقال لي الفتى:‏
ـ ليس بالحزن يظهر جمال هذه الفتاة التي من عندنا. بل يتفجر جمالها مثل شرر النار، بالغضب. قم هات فرشاتك يا رسام. وكما رسمتني.. هنا في مكمني هذا، عند رأس هذا الجبل. بيدي بندقيتي، وقد أطلقت منها رصاصة، استحالت في الأفق، إلى نجمة، ترشد رفاقي إلى الطريق. فلا تدع هذه الفتاة من عندنا تحزن. قم وامسح من عينيها الدموع. وأجل هذا الحزن عن خديها، عن جبينها، عن فمها. وحرك في قلبها نار الغضب، كما هي البنت من عندنا، هذه الأيام، وانظر، شرارة من الجمال، تقدح من عينيها، ثم ارسمها بعد ذلك.‏
حكى لنا صديقنا الرسام، بالأمس، عند افتتاح معرضه، وقد وقفنا مبهورين أمام جمال الفتاة في لوحته المسماة: جمال الغضب. حكى لنا أن هذه الفتاة كان أول الأمر حزينة. ووجهها عادي، لا أثر فيه للجمال. ثم إنها غضبت بعد ذلك. فتألق في وجهها فجأة، كل هذا الجمال الذي تشاهدونه، بما فيه من كبرياء ومن سحر ومن فتنة. بمثل الشرارة، إذ تشعل النار في صقيع البراري الخالية، وتحيل وحشة الليل فجأة إلى أنس وبهجة.‏
حكى لنا، وأشار إلى الفتى، وهو في مكمنه على رأس الجبل في لوحة على الجدار المقابل في مواجهة الفتاة تماماً. وكان كلاً منهما غارق في بحرين من الحب والحنان، ماثلين في عيني الآخر.‏
قال:‏
ـ لم أستطع إلاّ أن أضع الفتى بمواجهتها. فهو الذي جعلني وأنا أعيد رسم هذه الفتاة بعد أن غضبت، نعم. هو الذي جعلني أكتشف في وجهها جمال الغضب.‏
هكذا جمعتهما الواحد مقابل الآخر.‏
ليظلا يستأنسان ببعضهما البعض.‏
لتظل هي من ناحيتها تسترشد بنجمته التي أطلقها من بندقيته إلى الأفق.‏
وليظل هو، متابعاً من مكمنه في رأس هذا الجبل، بعيني عاشق متيم، مسيرة جمال الغضب.‏




===================
ديب النحوي (1920 - 1998)، هو قاص روائي أديب ووزير سوري. ولد في مدينة حلب عام 1920، ودرس القانون في جامعة دمشق، والتحق بالسربون في باريس في مطلع الخمسينيات لمتابعة التخصص، إلا أن السلطات الفرنسية لاحقته لنشاطه في تأييد ثورة التحرير الجزائرية، فاضطر إلى قطع الدراسة والهرب إلى سورية، حيث صار من أقطاب المعارضة في البرلمان خلال الوحدة مع مصر، ثم حين حدث الانفصال قاد حركة المقاومة ضده في حلب، وحكم عليه غيابيا بالإعدام. ولما سقط الانفصال وتولى الرئيس حافظ الأسد الحكم اختاره وزيراً للعدل، وظل في هذا المنصب قرابة أحد عشر عاماً. تفرغ بعدها للكتابة.وللنحوي 13 رواية ومجموعة قصصية تميزت بغلبة الطابع السياسي عليها، وحملت أولى مجموعاته التي صدرت عام 1948م عنوان «من دم القلب» ومن مجموعاته الأولى «كأس ومصباح». ومن أبرز أعماله: «حتى يبقى العشب أخضر»، وآخر ما أصدره مجموعته القصصية «كلمة ذوي الشهيد» التي صدرت عن دار طلاس في دمشق عام 1993م.
من مؤلفاته

كأس ومصباح (قصص 1948).
من دم القلب (قصص 1949).
حتى يبقى العشب أخضر (قصص 1965).
جو مبي (رواية 1966).
حكايات للحزن (قصص 1967).
عرس فلسطيني (رواية 1970).
قد يكون الحب (قصص 1972).
تاج اللؤلؤ (رواية 1980).
سلام على الغائبين (رواية 1981).
مقصد العاصي (قصص 1982).
متى يعود المطر (رواية 1960).
سلاح الأعزل (قصص 1985).
كلمة ذوي الشهيد (قصص 1994).
آخر في شبه لهم (رواية 1991).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى