سعد سرحان - ديوان المائدة ـ17ـ .. بركاش "سيّاب الطبخ" وشميشة "نازك المأدبة"

في برنامجه التلفزيوني الشهير”مائدة”، وهو اسمٌ جامع مانع، كان المرحوم عبد الرحيم بركاش يتفنّن في تقديم الأطباق، فيغدق من لذتها على المشاهدين حتى ليجعلهم يتذوقونها وهي بَعْدُ على الشاشة.

التأني في الحديث وإرفاق ذلك بالحركات المناسبة، الإسهاب حيث ينبغي الإسهاب، الوقوف عند التفاصيل، ذكر فوائد هذا المكون أو ذاك، شرح هذه العادة أو تلك… كل ذلك وغيره كان يشكل النار الهادئة التي ينضج عليها لا الطعام فقط، بل البرنامج ككل.

ثمة شعراء اشتهروا بطريقة إلقائهم، عبد الرحيم بركاش كان واحدا منهم.

لم يبتعد بركاش كثيرا عن الأطباق التقليدية. فقد كان يعرف جيدا كيف تطبخ الكتف، كيف تطبخ وبأكثر من طريقة.

لذلك حافظ للأطباق على فخامتها، ونوَّع وجدَّد قليلا في إعدادها. لكأنه كان ينتقل بالطبخ من العمود إلى التفعيلة.

مع كل “مائدة” كان الطباخ في الرجل يرشح بالشاعر فيه. أقول الشاعر وأفكر في بدر شاكر السياب. فبغض النظر عن كل الفروق الواضحة، فإن بركاش هو سيّاب الطبخ المغربي.

أما برنامج “شهيوات شميشة” الذي أشرقت به صاحبته على الشاشة المغربية، فيجمع بين الشهية والشهوة والتعدد وجمالية التصغير. وهو بذلك تدشين حقيقي لمرحلة الحساسية الجديدة في الطبخ.

مع شميشة أضحت الأطباق أصغر حجما، وإعدادها صار أسرع، وتغيرت بنيتها بشكل كبير. فانتشرت الأطباق اليومية والميكرو أطباق… فيما تراجعت الأطباق العصماء بشكل ملحوظ.

لقد نجحت شميشة في نقل بساطتها ورشاقتها إلى أطباق البرنامج ومنها إلى أطباق البيوت. فغدت المطابخ أقل شحما والموائد أقل حشوا والصحون فوقها أشبه ما تكون بقصائد نثر.

هكذا أحدثت السيدة ثورة هادئة في المطبخ المغربي لا مثيل لها سوى تلك التي عرفها الشعر العربي خلال القرن الماضي، لذلك فهي مزيج من نازك الملائكة وسوزان برنار.

شميشة هي شاعرة المطبخ المغربي، الشاعرة التي تُنتحل أطباقها يوميا في الحواضر والبوادي… وتستحق، عن جدارة، أن تترجم إلى قنوات وموائد أجنبية…

شميشة، عندي، هي نازك المائدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى