الدكتور نورالدين السد - في الذكرى الثامنة لرحيل المفكر الجزائري محمد أركون -4-

-4-

محمد أركون يبقى علما من أعلام الفكر الإنساني الخالد ، بما أنجز من مؤلفات فلسفية ، وماقدم من أعمال فكرية في موضوعات حرجة ، تجمع بين التراث والحداثة ، والمتأمل في منهجه والآليات التي يستأنس بها في تفكيك أبنية الخطابات وإظهار وظائفيتها ، وإنتاج المعاني من مكوناتها ، يدرك عمق الحيرة المعرفية التي كانت هاجسا دائما في حياته ، ويدرك قلق الفلاسفة والمفكرين واستغراقهم في قراءة النصوص الدينية وغير الدينية ، وما أفرزت من فهوم وممارسات سلوكية ، وما رافقها من تآويل متحيزة إلى مرجعيات وخلفيات وضروب من الوعي أفرزتها ممارسات اجتماعية ، وشكلت منظوماتها ومدركاتها وفق مصالح أملتها شروط تاريخية .

1710404185206.png

إن محمد أركون كان يدرك هذا ويدرك أبعاده ، ولذلك نحى في منجزه الفكر والفلسفي والتأويلي وفي معظم مقارباته منحى موضوعيا ، وأما مسألة التهميش فلا أضنها نابعة من موقفه من ثورة التحرير وعدم انضمامه إلى جبهة وجيش التحرير الوطني مع الطلاب الذين أضربوا عن الدراسة والتحقوا بالثورة ، لأن هناك طلابا جزائريين ومواطنين في الداخل والخارج لم ينضموا إلى الثورة وحضوا بمناصب هامة في دواليب السلطة منذ الاستقلال إلى يومنا ، و لم تكن مواقفه من مسألة التطرف والإرهاب الذي عصف بالإنسان والوطن في فترة التسعينات من القرن الماضي من أسباب عدم الاهتمام بفكره ، كان يرى الإرهاب حربا أهلية لها خلفياتها وأبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية ، كما كان هذا الإرهاب والتطرف نتيجة لعوامل كثيرة منها مسألة الارتجال في الانتقال إلى الديمقراطية والتعددية بدون التأسيس لها بوعي استراتيجي ، ومنها أيضا الرغبة في التخلص من النظام الشمولي بنفس الآليات والأدوات والأشخاص ، ولابد من الإشارة إلى أن فترة الثمانينات والتسعينيات كانت مرحلة تحول واضطراب شمل معظم دول العالم وانظمتها وخاصة ذات التوجه الاشتراكي وعلى رأسها تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات التي كانت تحت لواء الاتحاد ، ولا تزال أثار هذا الاضطراب إلى يومنا هذا وخاصة في الأقطار العربية ، ثم إن مسألة عدم العناية الكافية بمحمد أركون وقبله مالك بن نبي ومفدي زكريا ومحمد حربي وسواهم كانت نتيجة مواقفهم السياسية ، وهي مسألة أكبر من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تتداول حين يتطرق الناس إلى مسألة تهميش بعض المفكرين أو الكتاب والمبدعين ، وقد يكون من أسباب تهميشهم وعدم العناية بهم ليس مواقفهم وآراؤهم فقط ، بل هناك عدائية متجذرة من فئات محدودة الوعي غير قادرة على قبول الاختلاف والتنوع ، وعاجزة عن إدراك أن التنوع يحمل بالضرورة قوة إيجابية ، وهو إضافة نوعية تغني الوحدة وتثريها على أكثر من صعيد ، كما أن قضية التهميش والإلغاء ظرفية ، وهي مرتبطة بمصالح عصب وفيئات ، لا تريد أن يرى الناس إلا ماترى ، ولا يمكنها استيعاب المفارق الذي يسعى إلى صناعة فرادته وتميزه ، ولا يمكنها إدماج من له فهمه ورؤيته في الإصلاح والتطوير والتغيير ، أقول هذا لأني رأيت أن هناك من هم أكثر تطرفا في اليسار واليمين ، بل هناك من كانوا خطرا على الأمن العام ، وتمت مصالحتهم واحتواؤهم ، لكن محمد أركون ظل عصيا على المصالحة والاحتواء ، وكانت له وجهة نظره ، وكان له اختياره ، فكان له المصير الذي أراد ، وقد يكون هذا قدره ...
ولكن يبقى محمد أركون على الرغم من كل هذا مفكرا وفيلسوفا له مشروعه ، وله منهجه وآلياته في فهم الظواهر والمدونات والأفكار ، ويبقى على قرائه ومتلقيه كيف يقرؤون ، وكيف يستفيدون من منجزه العلمي والأكاديمي والفكري والفلسفي والمعرفي في المؤسسات العلمية والثقافية في بلاده الجزائر ، جزائر المصالحة والوفاق وهي أحق به ،
إذ لابد من العمل على دراسة مؤلفاته ، والعناية بما قدم من فكر للإنسانية ، وما أنجز من قراءات وتحاليل لكثير من القضايا في المسيرة التاريخية للحضارة العربية والإسلامية ، إضافة إلى قراءاته للقضايا الراهنة في معظم تجلياتها ،
وإن كنا نثمن مبادرات أشقائنا في المغرب الشقيق علي احتفائهم بفكر محمد أركون ومنجزه الفلسفي والعلمي والأكاديمي ، والعناية به لكونة قامة فكرية وإنسانية ، فرض وجوده بتميزه وفرادته بين المفكرين والفلاسفة المعاصرين ، فإننا نأمل أن يلقى محمد أركون الحضوة والمكانة التي تنصفه في الجزائر وتبوئه المقام المناسب ، وأن يبادر إلى الاهتمام بمنجزه الفكري والفلسفي ، وقراءاته المتنوعة للخطاب العربي في مختلف تجلياته وتوجهاته ومرجعياته ، من منظور حداثي وبإجراءات منهجية حديثة ...
يدعو محمد أركون في معظم مؤلفاته المتضمنة لأفكاره ورؤاه و مشروعه الفكري والفلسفي إلى تفكيكك الخطابات التقليدية في التراث العربي والإنساني من منظور منهجي إبستيمولوجي ، وفي إطار التحاقل المعرفي l'intérdisciplinarité القائم على استثمار عدد من التخصصات التي يمكن توظيفها بتصور معرفي شمولي ، كما يستثمر علوم اللسان والسيميائيات والتاريخ والاجتماع والفلسفة وعلم النفس في تفكيك بنى الخطابات وقراءتها بعمق وإمعان ، وينتقد المنهج الاستشراقي الكلاسيكي ، الذي يعتبر المؤرخ « كلود كوهين » رمزا من رموزه . ويشير إلى كيفية إقامة علاقة مع التراث ؛ علاقة تساعد على التفاعل معه ،
وتسعى إلى فهمه ، وبناء وعي حقيقي بخلفياته ومرجعياته من منظور حداثي .
ويناقش محمد أركون في مشروعة الفكري والفلسفي موضوع الأصولية والصراع مع الغربي والعولمة،
كما يعرض العوائق الثقافية والمعرفية التي تعيق التواصل مع الجمهور ، ويرى أنها صعاب وعوائق معرفية وأبستمولوجية مترسخة في الأذهان، ولا بد من مواجهتها بتغيير الأفكار بالحجة والمنطق والإقناع وصولا إلى اليقين ؛ لكي يحصل التواصل المعرفي ؛
ذلك أن المعرفة الحقيقية لا يمكن أن تقوم بالتوازي مع المعرفة الخاطئة ؛ بل تقوم على أنقاضها ، حسب تعبير
« غاستون باشلار »، وتمثل هذه الفكرة واحدة من مرجعيات محمد أركون الأساسية في نظرته إلى تغيير قراءة التراث من قراءة التراث بالثراث إلى قراءة التراث بفهوم العصر وآلياته المنهجية والمعرفية المتطورة .
وشغلت قضايا تجديد قراءة التراث محمد أركون في كل مؤلفاته المتضمنة مشروعه الفكري والفلسفي ، وأخذت من جهده وطموحه الكثير ، وظل على مدى نصف قرن يعمل على مسألة التجديد والتحديث . وقد ركز في أعماله على قضايا التراث المتصل بالتاريخ الإسلامي وإعادة قراءة هذا التراث قراءة موضوعية واعية دون ذاتية أو انحياز ، وقد قرأ التراث العربي والإسلامي بالآليات والإجراءات المنهجية التي أنجزتها فلسفة العلوم الحديثة ، وهو يركز على النقد المعرفي العميق لمفهوم التأصيل، وحلل مكونات الخطاب التأصيلي ، وفكك بناه ، وحدد خصائصه ، ووظائفه ، وعمد إلى استعمال مناهج العلوم الحديثة ومنظوماتها المنهجية والإجرائية.
ويرى محمد أركون أن الكثير مما كان مناسباً للعصور الإسلامية الأولى، لم يعد مناسبا ولا صالحاً في العصر الحديث ، ولا مواكبا له ، وأن ما نسميه الآن حركات أصولية ليست في واقع الحال حركات تأصيل للفكر الإسلامي وفهمه بعمق ، ففهمها للتراث العربي الإسلامي تجزيئي مبتسر ، وليس قائما على رؤية شمولية تسخر كل المعارف الحديثة ومنجزاتها في إطار ما يمكن دعوته ب التحاقل المعرفي أو تداخل الاختصاصات l`interdisciplinarité وتفاعلها لدراسة التراث أو دراسة أي ظاهرة من الظواهر أو مدونة من المدونات ، فقراءات الأصوليين حسبه ومحدودة وظرفيه وغير مؤسسة لأنها تفتقد إلى شمول الرؤية والمنهج،
ومن هنا يرى أن الحركات الأصولية اكتفت بالنضال السياسي دون إعادة النظر في التراث ، ودون مقارباته مقاربات جادة ، أو تآويله تآويل صحيحة ، ودون النظر في الإنجازات الرائدة في التراث الاسلامي، ومنها اجتهاد الشافعي وتجديده الفكري الفقهي ، أو تجديد الشاطبي في عصره الذي أسس مفهوم مقاصد الشريعة، فالعمل على تأصيل الأصول وبشكل مطلق حسب محمد أركون يعتبر ضرباً من المستحيل ، في زمن يتغير باستمرار ، ومن هذا المنطلق كانت دعوته في مشروعه الفكري النظري والتطبيقي ، دعوة قائمة على التجديد والتحديث الفكري الشامل والمستمر ، وهي دعوة جادة إلى مواكبة روح العصر في جميع تجلياته...
إن معظم كتب محمد أركون كتبها باللغة الفرنسية أو بالإنجليزية، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات من بينها العربية والهولندية والإنجليزية والإندونيسية ، ومن مؤلفاته المترجمة إلى العربية:
1- من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي؛
2 - الإسلام: أصالة وممارسة؛
3 - تاريخية الفكر العربي الإسلامي أو "نقد العقل الإسلامي"؛
4 -تاريخ الجماعات السرية.
5 - الإسلام: الأخلاق والسياسة؛
6 - الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد ؛
7 - العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب؛
8 -الفكر العربي؛
9 - من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟؛
10 -الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة؛
11 - نزعة الأنسنة في الفكر العربي؛
12 - قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟
13 - معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية؛
14 - التجديدية.الفكر الأصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي؛
15 - من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني؛
أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟؛
16 - القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني؛
17 - الفكر الإسلامي: قراءة علمية؛
تتمحور مؤلفات محمد أركون حول فكرة مركزية وأساسية هي قراءة الفكر العربي والإسلامي قراءة حداثية وفق المناهج المعاصرة ، وعدم تجزئة التراث ، أو فصله عن سياقه التاريخي ووقائعه أو اختصاره أو بتره عن الظروف المحيطة بظهوره ونشأته ودواعي وجوده ،، كما مارس محمد أركون فعل القراءة بإبستيمولوجية وموضوعية ، ونظرته شمولية تأخذ في الحسبان كل ما وصلنا من تراث في مختلف حقوله المعرفية ، ولا يعزله عن حقيقته التاريخية ، ومساراته المعرفية وخلفياته المذهبية والطائفية والمللية والنحلية ، وبالتالي فإن هذه النظرة الموسوعية للمنجز الفكري
وتجلياته كانت عماد الفكر الأركوني وفلسفته ورؤاه ومنهجه...
د/ نورالدين السد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى