مرثية
حين تقترب الشمس من رحيلها، تكسو المكان نقاباً أصفر ،يبدو معه ظلّ الحصن متهالكاً وممتداً بسموّ فوق بيوت القرية وأزقتها.
تتقدم أقدام العجوز المشرَّخة بالحكايات والأشواك نحو الحصن، يقترب ، تستقبله حجارة متناثرة، تمتدّ في طريقه مبعثرةً في اتجاه المقبرة التي تحتضن نوماً قديماً،
حجارة وطين وقفا في وجه الرجال والريح، هو الحصن : أربع طبقات ممتدة إلى
أعلى يصعب التعرّف إلى عددها لولا ما تجود به الجهات الأربع من نوافذ ضيقة موزعة دون انتظام، عبر المدماك العريض النابت من الأرض كشجرة عتيقة تعلو حجارة ضخمة أقامتها الأهازيجُ والأيدي المعروقةُ بالزفرات المنتزعة من صدور النشامى.
يدنو ، يمارس عادة الإصغاء للبناء.
تتصاعد مع كل عِرْق بناء قاماتُ الرجال.. يراها الآن بلذة أمام عينيه ، العمال يتنادون فوق المدماك.. حول دائرة الطين المكوّمة مشبعة بالتبْن والماء ،راح يمدد جسده مستنداً على حجر متوسط لقامته الملاصقة للجدار بزهو .. هو حَجَرُه ؛ يكاد يسميه: الحجر العظيم ،بات ملكاً لكل من رفعوه من رجال القرية، تعاونوا على تثبيته بالحجارة الصغيرة والطين ..ما زال يذكره بلونه وحوافّه ، عندما انتقاه ذات صباح من وسط الجبل، شذبه بالعتلة والمطرقة، دحرجه فوق بسطة ترابية ساواها بنفسه ، حمله لوحده، على الجَمَل الوحيد في القرية.. هما الآن وحيدان رجل وحجر فيما يشبه النهاية .
عصاه بجواره بلونها الخشبي، ثيابه البيضاء، حجارة بلون فضي داكن مبقع: هي ألوانُ حياته المحاصَرة بالبناء الجديد العديم اللون والنكهة، إسمنتٌ وجرانيتٌ بألوان قاتمة مجلوبة من أقاصٍ بعيدة ، بيوت تُسمّى (مسلّحة)، متقازمة تظهر كنبت شيطاني.. تمرّ بها الريح فلا تحمل غير طعم الخراب، خراب يسيطر عليه في نهاية يوم منذور للتجوال قريباً من الحصن، يجلس مصغيًا لكل نأمة غريبة يخشى على بنائه: ملاذ الفرد والمجموع في أيام مضت. الحصن بلونه الأبيض الصامت تباغته الريح دون استئذان الكُوى والنوافذ الصغيرة.
وحيدا ً يستعيد أيام البناء ، الكل كان يساعد في العمل .. في المراقبة الليلية للدفاع عن القرية.. يتذكر في عهد قريب كان أشدَّ المعارضين لطلاء الحصن باللون الأبيض ، هزم في تلك المواجهة ، ها هو الآن يطرد الغربان اللعينة عن جدرانه، شعر باقتراب الجرافات القبيحة التي كانت الغربان نذيرها.. رآها في صباحات قريبة تهدم منازل تشبه الحصن لوناً و حجارة وتاريخاً ، تنبش المداميك من جذورها .. تحيل أخشاب السقوف إلى حطب متكسّر، دون رحمة تلقي بها بعيداً مطوّحة بكل الأغاني التي جمعتها برفق العلاقة بين الأيدي والفؤوس الرهيفة.
أفاق العجوزُ من خَطَراته ، استعاذ من الشيطان، حاول تجميع أطرافه، سحب قدميه بتثاقل اعتمد على عصاه.. وراحت شخوص نائية تتراقص أمام عينيه ، اختلط لون الغروب بتربة سوداء بعثرها المطر اليَماني. العجوز واقف : ورقةً أخرى في مهبّ الرحيل، البابُ قصير، يبدو ما خلفه قطعةً من ليل ناصع السواد، " الرجال كانوا يحنون هاما تهم للبيوت والأبواب"
قالها بأسى ،وهو يدخل، أردف بنفس الصمت :" كانت البيوت بيوتًا والأبواب أبواباً" شعر بطعم البيوت التي بنتها الأيدي الخالصة- المُخْلصة للمكان، طعمٌ مازال يسبح منه شيء فوق حبيبات لسانه الذي جفّ لطول صمته الشاحب أمام قامته الأخرى : الحصن، لا يكلم إلا ظلّه الذي غاب منذ زمن طويل.
أحس باضطراب جسده إذ سال طعمُ البيوت فوق لسانه المتصدّع حسرةً على زمان ولّى ،كان الرجلُ يقاس ببيته والقريةُ بحصنها، نفْس متصدعة كالبيوت التي هجرها دفء الحياة والمواقد.. تتقدم خطواته، كمن ينتظر حلول الظلام ليخلو إلى حبيب. خطواتٌ جبلية يألفُها المكان.. لم يجد صعوبة في الدخول عبر الباب رغم انحنائه.. الباب الذي فصّل قصيراً ليدخل عبره الداخلون بجلال وبسملة .. طول مناسب لدخول أهل الجبال المكدودين الحالمين بدفء البيوت وعبق الراحة الذي تشتمّه الأنوف عند انحناء الرأس، لتكون الأنوف الشُّم أول الحواس في التقاط اللذة المستقبَلة بالأنس ورائحة البن والعشاء.
يدخل الآن، الآن بالضبط، يحس بالتماع خيوط براقة على وجهه تلتصق بصدغيه نقاباً لماعاً ، لم يمدد أصابعه للقبض عليه ، رغم إدراك خفي داخله بعلاقة هذه الخيوط بهجران البيوت العتيقة.
شعر برغبة مُكفَّنة، الشمس كانت قد أمعنت في رحيلها منذ زمن، وغطى الليل وجهه الذي راح يبحث عنه في زوايا الحصن ، بدأ يشتمّ الظلمة الخرساء ورائحة الطين المعطرة بأنفاس الليل الصمُوت قادمة من الخارج.
غاب في الداخل لزمن لا تكشف الجدران مداه ، امتزجت خطواته الأليفة مع المكان بخطرات سادرة إلى أعماق الظلام.. تراءتْ له آلافُ الصور تتراقص ضاحكة بوحشية.. تضجّ .. تعبث بذاكرته الواهنة عفاريت الظلمة ، ترتج شرايين الصمت المطبق منذ دخوله بعشرات الأصوات تُرسَل نحوه في اندفاع.. ليس أمام الرجل العجوز سوى التصدي لذاكرته المتماهية بالمكان.. دبّت في أوصاله همة عالية، راح يوجّه بندقية عبر كل كوّة ، يصيح بالرجال آمراً بإغلاق الباب بالعَنَك الخارج من الجدار كذراع صلبة، يصرخ في آخرين للصعود إلى السطح للمراقبة ، اندفعت أوامره لكل من حوله، حماية غرفة الحبوب أَوْكَلها لثلاثة رجال، تنقّل من مكان إلى آخر يوزع الأدوار والماء على الرجال خلف بنادقهم ، لم يكن لديه وقت لمراجعة حدة صوته الوحيد المُصدِر للتوجيهات ، التفت حوله باحثاً عنهم ، لم يجدهم ، لم يجد رجال الحصن والزمن الراحل ،لم يجد غير صدى أوجاعه , وارتداد صدى أوهامه.
صرّ أسنانه بحنْق ، تراخت يده ،شعر بها أخيراً ،لم تكن تحمل سوى العصا الرفيعة التي سقطت من قبضته بفعل العرق الذي طفق ينضح من جسده .، تلمس النافذة القريبة من وجعه فإذا هي أكبر مما يعهدها ، تحسسها بيده، فوقعت يده على ما سيعرفه بعد تلمّس: جرّافة صغيرة يلهو بها أطفال اتخذوا الحصن ملعباً ومخبأً لألعابهم القميئة.
كان قبل لحظة على وشك الرقص انتصاراً ، اخترقت جسدَه رغبةٌ عارمة في نقل الخبر للأسلاف عن فشل الهجوم ، لا بل عن صمود الحجارة المتماسكة كعروق متداخلة في ذراع مفتولة .
عبر الكوّة، تناهت إليه أصوات لا تكاد تُسمع لليل نائم.. ورأى بيوتاً ذات أسوار، سُترات عُليا هاجعة ومضاءة حوافّها ، حاول نزع رؤيتها عن صدره الضائق من الأعماق، كانت ثقيلة وكاتمة لأنفاسه المتهالكة .
في الصباح ، كانت الشمس تشرق على حجارة مبعثرة تشبه وجه عجوز ،وأنينِ متحشرجٍ ينبعث من بين الركام.
من مجموعة خطوات يبتعلعها المغيب الصادرة عام 1997م