حسن الزكري - تاريخ الطبخ..

“الطعام جزء لا يتجزأ من تاريخ الجنس البشري، بل إنه قوامه. فبدونه لم يكن ليوجد جنس بشري ولا تاريخ” (1). لقد ساعد الطعام على نمو المجتمعات وتكاثر السكان وتوسع المدن والحواضر، وساهم بشكل رئيسي في توسُّع آفاق التجارة، وألهم حروب السيطرة، وعجل باكتشاف عوالم جديدة. ولا تخفى علاقة الطعام بالدين والطب ومجالات أخرى عديدة؛ إضافة إلى كون الأغذية بمختلف أنواعها شكلت بسبب طبيعتها الخاصة “ملتقى لعلوم متعددة: تاريخ، سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، اقتصاد، جغرافيا، بيولوجيا، علم الزراعة، علم التغذية…” (2).

ومع كل هذه الأهمية إلا أن الدراسات حول الطعام ظلت نادرة لدى الدارسين حتى أمد قريب، وبالخصوص لدى المؤرخين، وعليه فدراسة تاريخ الطعام وارتباطاته الاجتماعية والثقافية والسياسية هو مجال بحثي جديد نسبيًا؛ فمؤخرا فقط، أصبحت البحوث التاريخية والأنثروبولوجية تولي عناية خاصة للطعام ولعادات الأكل ولتطور أساليب وتقنيات الطبخ عبر التاريخ، حيث تحول الطعام وماضي المطابخ إلى موضوع ساخن لدى الباحثين الجدد من مختلف التخصصات بمن فيهم أولئك الذين يكتبون للجمهور العام، ومن أهم الإصدارات المهمة في هذا المجال نشير إلى كتاب أنثروبولوجيا الطعام والجسد لكارول كونيهان (3)، وكتاب المغرب النباتي: الزراعة والأغذية قبل الاستعمار لمحمد حبيدة.

الكتاب الموسوم بــ المطبخ والإمبراطورية، الطبخ في التاريخ العالمي، ألفته المؤرخة الإنجليزية راشيل لودان، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في التاريخ وفلسفة العلوم من جامعة كوليدج بلندن عام 1974، قامت بالتدريس في جامعات ومعاهد بأمريكا وأستراليا، وفي عام 1996 تركت الأوساط الأكاديمية وانتقلت للاستقرار بالمكسيك، حيث غيرت مجال اشتغالها وتخصصت في دراسة تاريخ وسياسات الطعام. قسمت المؤلفة كتابها عن المطبخ والامبراطورية إلى ثمانية فصول وصفت فيه طرق انتشار سلسلة من المأكولات عبر مناطق واسعة من العالم، وبينت مساهمة كل منها في تراث الطهي العالمي منذ العصور القديمة وإلى العصر الحاضر، ووقفت على تطور أساليب الطبخ عبر الزمان، وعلى كيفية صعود مطابخ وتدهور أخرى، وقد خصصت ملحقا خاصا في آخر الكتاب ضمنته أسماء المفكرين والأدباء والمؤلفين المذكورين في الكتاب والذين كتبوا عن أحوال المجتمعات وطرق حياتهم وتطور فنون الطبخ لديهم.

يُعنى كتاب الطبخ في التاريخ العالمي بالإجابة عن التساؤل الرئيس الذي طرحته المؤلفة في المقدمة: “كيف تطور الطهي على مدى الخمسة آلاف سنة الماضية؟” ويكمن جزء من الجواب عنه حسب الكاتبة نفسها في: “التفاعل المتبادل بين الإمبراطوريات والمطابخ، وكيفية اختيار مطابخ الدول والإمبراطوريات الناجحة أو تقليدها من قبل جيرانها، وهو ما أدى إلى انتشارها الكبير”.

يتناول الكتاب تاريخ المطابخ والتاريخ العالمي للطعام والطرق والأساليب التي استعملها البشر في الطبخ على مر العصور، بدءا من الاعتماد التام على الحبوب في العصور القديمة، وانتهاء بـ المطابخ الحديثة وعولمة المأكولات المتوسطة في الفترة المعاصرة. ويتتبع أيضا طرق توسع المطابخ في العالم عبر الفتوحات والتجارة، وكيف كان الجنود والتجار والمبشرون ينقلون المطابخ عبر البراري والصحاري والمحيطات وعبر الحدود السياسية، مما أدى إلى توسع أساليب الطبخ العابرة للحدود الوطنية وللمجالات الثقافية. وأحد أهم المواضيع الرئيسية للكتاب، خاصة في الفصول الأولى منه، العلاقة المتبادلة بين الدين والمطبخ؛ وكذا مساهمة كل من أنواع الطبخ والمطابخ التي انتشرت حول العالم على مر القرون والأزمنة في تراث الطهي العالمي.

وبالرغم من أن منحاه يهتم أساسا بالمطابخ الفاخرة، كما تقول المؤلفة في المقدمة، إلا أنه يروي أيضًا “قصة الإجحاف الناجم عن الفجوة الموجودة بين المطابخ الفاخرة، الخاصة بالأغنياء وأصحاب السلطة والنفوذ، وبين المطابخ المتواضعة الخاصة بالبسطاء”. فالأغنياء وأصحاب السلطة امتلكوا مطابخ “رفيعة” أظهروا من خلالها قوتهم ومكانتهم، وكان في خدمتهم حاشية من الطهاة والعبيد، يديرها كبار رجال البلاط. ولم يكن هذا ليقارن بمطابخ البسطاء وطعامهم ذي القيمة الغذائية المتواضعة، والذي غالبا ما أدى إلى انتشار سوء التغذية وأمراض توقف النمو، بل وتزايدت حالات الوفيات المبكرة وسط هؤلاء بسبب نمط غذائهم الفقير.



يتناول الفصلان الأول والثاني مطابخ العالم القديم، ففي الفصل الأول المعنون بالتمكن من طهي القمح (20.000 ق.م- 300 م) نقف مع البدايات الأولى لظهور الطبخ قبل آلاف السنوات وكيف تطورت تقنياته قبل حوالي عشرة آلاف عام من ظهور الزراعة، وكيف “أتقن الطهاة (حينها) مجموعة واسعة من تقنيات الطهي، بما في ذلك التقنيات الخاصة بالتعامل مع الجذور والحبوب التي كانت أول نباتات يتم تأهيلها”، وبعد استعراض المؤلفة مطابخ العالم الرئيسية آنذاك، تخلص إلى نتيجة مفادها أنها كانت كلها تعتمد على الجذور والحبوب، وأن المدن والدول والجيوش ظهرت فقط في المناطق التي كانت تعتمد في طعامها على القمح، وأن مطابخ القمح توزعت بدورها بين مطابخ للأقوياء والفقراء، ومطابخ للمدن وللقرى، ومطابخ السكان المستقرين والرحل. وطرحت المؤلفة ثلاث تفسيرات لأولية استعمال الحبوب في التغذية: أولها اعتقاد أسطوري بوجود صفقة تمنح بموجبها الآلهة الحبوب للبشر مقابل تعليم هؤلاء الآلهة كيفية طهيها، مع التزام البشر بضرورة تقديم القرابين والأضاحي؛ وثانيها وجود مبدأ التراتبية الذي بموجبه يتم تحديد أصناف البشر من خلال الطعام الذي يأكلونه؛ وثالثها نظرية الطهي الكوني، حيث يُعتبر الطهي في المطبخ جزء من عملية كونية. وتمنح المؤلفة في نهاية هذا الفصل حيزا مهما لتبيان الفوارق الاجتماعية الحادة والتمايزات الشديدة بين مطابخ الأغنياء ومطابخ الفقراء التي ظلت سائدة لآلاف السنين، واستمرت حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث بعدها أصبحت المأكولات الحديثة متاحة للناس بسبب تقنيات معالجة الأغذية، وارتفاع الأجور، وانخفاض تكلفة النقل، وتطور الزراعة في الأجزاء الأكثر ثراءً من العالم. لهذا فمعظم الناس في هذه البلدان يأكلون اليوم مأكولات عديدة لكنها ليست بنفس إتقان المطابخ الرفيعة في الماضي. أما الفصل الثاني من الكتاب فيحمل عنوان: الشعير، الطبخ القرباني للإمبراطوريات القديمة (500 ق.م-300 م)، وفيه نتعرف على الدور الأساسي للشعير والقمح في الامبراطوريات الكبرى في أوراسيا: بدءا من لإمبراطورية الأخمينية في بلاد فارس، مرورا بالإمبراطوريات اليونانية والهلنستية والرومانية في الغرب، ثم شرقًا نحو إمبراطوريتي موريان وهان الصينيتين؛ وذلك لأن هذه الحبوب كانت سهلة النقل والتخزين، إضافة إلى قدرتها على توفير نظام غذائي متكامل. وقد مكنت الكفاءة في تسويق الأغذية وتراكم خبرة الطهي هذه الإمبراطوريات من إطعام مدنها وتوفير المؤن لجيوشها. فلكي يكون الحاكم ملكًا للملوك، ولكي ينشئ إمبراطورية كبرى ويحافظ عليها، كان لزاما عليه توفير ما يكفي من الشعير والقمح لإطعام جيشه الكبير وكذا الموظفين والعمال في عاصمته، دون أن يترك المزارعين معدمين. كان لابد من تحويل المواد الغذائية إلى إمدادات طعام قابلة للتخزين وطهيها لأعداد كبيرة من الناس، فكلما تمت معالجة الطعام بكفاءة، وكلما زادت فعالية التخزين كانت الأطباق شهية ومغذية أكثر، وكلما كان الإمبراطور أكثر سخاءً كانت النتيجة مرضية: أناس أكثر حيوية وعلى استعداد للقتال في الجيش وجاهزون لبناء القصور والمعابد، وصنع الملابس والمجوهرات ورسم الزخارف الرائعة للبلاط. وفي نهاية هذا الفصل تشير راشيل لودان إلى أن الفلاسفة والقادة الدينيين بدأوا ينتقدون مبادئ تراتبيات الموائد وطرق تقديم القرابين للآلهة، لأنها كانت تحط من قدر العلاقات الإنسانية مع المقدس، ولم تؤد إلى تغيير روحي داخلي.

تحدثنا المؤلفة راشيل في الفصول من الثالث إلى الخامس عن ظهور مرحلة جديدة في تاريخ المطابخ، انضمت فيها المعابد والأديرة إلى جانب القصور لتشكل بدورها مراكز رئيسية لابتكار الطهي، وتتبعت بكثير من التفصيل المطابخ التقليدية التي تم إنشاؤها بعد استبدال صفقة التضحية المشار إليها آنفا بأديان عالمية تقدم الخلاص الشخصي للبشر، وتبحث في تكوين وتطوير تلك المأكولات التي تصفها بأنها “بوذية” و “إسلامية” و “مسيحية”. هذه الفصول الثلاثة معا لا تتناول فقط العلاقة الحميمة بين الطعام والدين، ولكنها تبحث في العلاقة بين ظهور ديانات العالم وتوسع المطابخ، وعلى سبيل المثال بينت تأثير البوذية على المطابخ في آسيا وكيف وسعت من دائرته حين حولت الأرز إلى عنصر أساسي بارز في التغذية اليومية، وكيف أثرت أفكار الرهبان البوذيين حول الطعام في سلوك الحكام وعاداتهم الغذائية؛ كما وضحت دور انتشار الإسلام في تغيير تقاليد الطعام بوسط وغرب آسيا.

يناقش الفصل الثالث (البوذية وتأثيرها على الطبخ في جنوب وشرق آسيا 200 ق.م- 800م) عائلة المأكولات البوذية التي أثرت في الطبخ والأكل والزراعة في النصف الشرقي من أوراسيا بين الفترة الزمنية الممتدة من 200 قبل الميلاد إلى 1000م. فاستنادا لتعاليم بوذا تلخصت فلسفة الطهي في تجنب أكل اللحوم وشرب الكحول وتشجيع تناول الأطعمة التي يُعتقد أنها تعزز التأمل، وقد أعطت لهذا الأمر قيمة كبيرة. أما المطابخ البوذية في الهند فمتعددة، اشتهر منها في عام 260 ق.م مطبخ الإمبراطورية الموريانية الذي يعتبر مطبخًا بوذيًا راقيًا ورصينًا، يُعتمد فيه على الأرز والزبدة والسكر وبدائل اللحوم. ثم توسعت هذه المطابخ بين القرن الأول والقرن الخامس قبل الميلاد، وقد تبنت إمبراطورية الكوشان في شمال الهند ووسط آسيا وكذا دول جنوب شرق آسيا نسخا من المطبخ السابق، كما تبنته بحلول القرن الخامس بعد الميلاد دول متعددة في الصين وكذلك بكوريا واليابان. وقد لعبت المعابد في شخص الرهبان والمبشرين السياح دورا مهما في انتشار هذه المطابخ في هذه المناطق الشاسعة.

ينتقل بنا الفصل الرابع (الإسلام وتأثيره على الطبخ في وسط وغرب آسيا 808م- 1650م) للحديث عن فلسفة الطهي عند المسلمين، ويتوقف عند مرحلتين منفصلتين من تطور المطبخ الإسلامي، الأولى تبلورت مع المطابخ الفارسية الإسلامية في القرنين الثامن والتاسع، وانتشرت من بلاد ما بين النهرين غربًا إلى شمال إفريقيا وأجزاء من جنوب أوروبا، ومن الشرق إلى الهند، وقد سمحت الابتكارات في مجال المعالجة الكيميائية للأغذية، لا سيما تكرير السكر وتقطيره، بتطوير مجموعة من الأشربة الطبية والكيميائية وكذا صنع الحلويات المخلوطة بالفواكه والمكسرات ودقيق القمح، بالإضافة إلى استعمال النكهات المقطرة الجديدة، مثل ماء الورد وزهر البرتقال، وقد انتهت هذه المرحلة في القرن الثالث عشر مع الغزوات المغولية، على الرغم من أن المغول اعتمدوا على المطبخ الفارسي الإسلامي وأدمجوه في المطبخ الإمبراطوري المغولي. وتبدأ المرحلة الثانية مع القرن الخامس عشر الميلادي، حيث تحسن المطبخ التركي الإسلامي بشكل كبير في الإمبراطوريات العثمانية والصفوية والمغولية، وتغلغلت المطابخ الاسلامية بالموازاة مع هذا التطور في المناطق الجنوبية للصحراء غربا وإندونيسيا شرقا.

يعتبر المطبخ الإسلامي من أقوى مطابخ إمبراطوريات الجزء الأوسط من أوراسيا، وقد اعتمد بالأساس على خبز القمح وأطباق اللحوم المتبلة والحارة، بالإضافة إلى غناه بالمعجنات والحلويات، وامتد تأثيره من إسبانيا إلى جنوب شرق آسيا، ومن حدود الصين إلى الحافة الجنوبية للصحراء. وكان القمح من الحبوب التي حظيت بالتقدير الكبير في المطابخ الإسلامية، حيث أشاد به الأطباء لكونه يتمتع بقيمة غذائية عالية، وفي الوقت الذي حرص فيه الأثرياء المسلمين على تناول الخبز المخمر القابل للهضم لم يجد العمال سوى الخبز الثقيل الخالي من الخميرة. وزادت خلال هذه الفترة شعبية الخبز المنقوع في المرق المسمى الثريد باعتباره الطبق المفضل لدى النبي، وهو طعام يعود أصله إلى بلاد ما بين النهرين، كما كان يتم خلط دقيق القمح بالماء في الصيف لإنتاج مشروب السويق الذي ساد بشأنه اعتقاد تحسينه مزاج الأشخاص بسبب برودته.

توسعت المطابخ الإسلامية خارج المنطقة الإسلامية، ففي القرن السادس عشر، ومع توسع الإمبراطوريات الإيبيرية انتقلت المأكولات الكاثوليكية المتأثرة بالإسلام إلى الأمريكيتين والفلبين والمراكز التجارية في المحيط الهندي. وفي أواخر القرن التاسع عشر، ومع هجرة العمال الهندوس إلى المزارع في المحيط الهندي وإفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ وهجرة العمال اليونانيين واللبنانيين وغيرهم إلى الأمريكيتين وأماكن أخرى، انتقل المطبخ الهندي المتأثر بالمغول والمطبخ العثماني لتلك المناطق. وفي النصف الثاني من القرن العشرين أدت هجرة الهنود بعد تفكك الإمبراطورية البريطانية إلى رواج المطبخ المستوحى من المغول في بريطانيا.

يتناول الفصل الخامس (المسيحية وتأثيرها على الطبخ في أوروبا وبلدان أمريكا 100م-1650م) أصول المطبخ المسيحي، الذي نشأ عبر مزج المطبخين الروماني واليهودي، وهو النموذج الثالث للمطابخ التي شكلها التحالف بين الدين والدولة، كما تقول المؤلفة، والذي يعود في نشأته إلى ما قبل المطبخ الإسلامي؛ لكنه ظل لألف عام وأكثر محصوراً إلى حد كبير في الإمبراطورية البيزنطية والعديد من الدول الصغيرة بأوروبا الغربية. شددت فلسفة هذا المطبخ على وجبة مقدسة تتكون من الخبز والخمر، وعلى التناوب بين الأكل والصوم، وكانت الوجبات المفضلة فيه تلك التي تتضمن خبز القمح واللحوم والنبيذ. وقد توسع هذا المطبخ أساسا مع توسع الإمبراطوريات الإيبيرية في القرن السادس عشر، وذلك عندما تم نشر النسخة الكاثوليكية في الأمريكيتين وبعض المراكز التجارية في أنحاء متفرقة من سواحل إفريقيا وآسيا.

سرعان ما بدأت فلسفة الطهي المسيحية في التحول من فلسفة الأقلية إلى فلسفة الأغلبية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية عندما تسامح الإمبراطور قسطنطين مع المسيحيين في عام 313م، وأتبع ذلك بقوانين بين عامي 352 م و356 م منعت التضحية بالحيوانات تحت طائلة الإعدام، أو النفي أو الفصل من الرتبة والمنصب، وفي أواخر القرن العاشر امتد المطبخ البيزنطي شمالًا ليصل إلى الأراضي السلافية. ومنذ القرن الحادي عشر أصبحت أوروبا أكثر ازدهارًا، فتمكنت بفضل إشعاعها من إنشاء مطبخ كاثوليكي كبير لعموم الأوروبيين، مما يعني أن الطبقات النبيلة في جميع أنحاء أوروبا تناولت آنذاك طعامًا كاثوليكيًا واحدًا مع وجود بعض الاختلافات الطفيفة حسب المناطق. غير أنه مع أوائل القرن الرابع عشر حدث تغير فارقي ومهم جدا في المطبخ المسيحي الغربي، إذ بدأت تظهر للوجود مخطوطات كتب الطبخ وانتشرت بسرعة كبيرة في جميع أنحاء أوروبا بعد اختراع الطباعة. وفي كتب الطبخ هذه تمت إعادة صياغة الأطباق الإسلامية بطرق جديدة، فالأوروبيون استعاروا كثيرا من المطبخ الإسلامي وتأثروا به، كما تأثر الإسكندر والرومان من قبلهم بمطبخ الفاتحين الفرس واستعاروا منه، وكما استعار المغول أيضا من مطابخ الصينيين والفرس. وبحلول القرن السابع عشر كانت المأكولات البوذية والإسلامية والمسيحية قد سيطرت على جغرافية الطهي العالمية.

خصصت الباحثة ثلاثة فصول (من السادس إلى الثامن) للحديث عن تطور المطابخ الحديثة، حيث تخلت فلسفة طهيها تدريجياً عن مبدأ التراتبية من أجل نظريات سياسية أكثر شمولاً كالجمهورية والديمقراطية والليبرالية والاشتراكية، وارتبطت النظريات الغذائية بتطور العلم الحديث. وبدأت تنظر إلى القواعد الدينية والأخلاقية باعتبارها مسألة اختيارات شخصية، وليس أمرًا تمليه الدولة. وكان الابتكار الرئيسي في هذا العصر، كما تؤكد المؤلفة، ظهور المطابخ المتوسطة، وتقصد بذلك مطابخ الطبقات الوسطى، التي عملت على تضييق الفجوة بين المطابخ الرفيعة والمطابخ المتواضعة.

في الفصل السادس (تمهيد للمطابخ الحديثة 1650 1680) تلقي المؤلفة راشيل لودان نظرة على المطابخ الحديثة في منطقة لم تشتهر بفنون الطبخ سابقا، وهي منطقة شمال غرب أوروبا؛ وذلك بفضل التحديات التي فرضها الإصلاح والثورة العلمية والمناقشات السياسية في القرن السابع عشر عن فلسفة الطهي التقليدية. جربت كل من فرنسا وهولندا وإنجلترا أساليب مختلفة للمطابخ الحديثة، ونشرتها في مستعمراتها في الأمريكيتين. وكان القاسم المشترك بينها هو تفضيل الخبز الأبيض ولحم البقر وإدخال مشروبات غير كحولية جديدة. وهذا كان جزءًا من خطة استبدال المأكولات الكاثوليكية التقليدية بالمأكولات الغربية الحديثة في أوروبا. فمثل ثورات الطهي السابقة، كان المطبخ الغربي الحديث نتيجة لفلسفة طهي مستحدثة انبثقت عن أفكار جديدة استجدت في الكيمياء واللاهوت والنظرية السياسية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، إذ اقترح الكيميائيون والفلاسفة الطبيعيون نظريات جديدة في التغذية. وتخلى البروتستانتيون عن مبدأ مطبخ التقشف كطريقة للنمو الروحي بحجة أن جميع المؤمنين يمكنهم الارتقاء الروحي بغض النظر عما يأكلونه. وتحدى المنظرون السياسيون الملكية بمطابخها الرفيعة، واقترحوا بدائل جمهورية وليبرالية ووطنية. تقول المؤلفة راشيل لودان: “إن استبدال مطبخ بآخر ليس بالأمر السهل، لذلك ليس من المستغرب أن يتخلى الفرنسيون والهولنديون والإنجليز عن جوانب مختلفة من المطبخ الكاثوليكي. في فرنسا، غيرت الملكية والأرستقراطية الطبخ والأطباق في ضوء النظرية الجديدة للتغذية والهضم لإنشاء مطبخ فرنسي رفيع، والذي حل محل المطبخ الكاثوليكي باعتباره المطبخ الأوروبي الراقي منذ عام 1650 فصاعدًا. وفي الجمهورية الهولندية، احتفظت البرجوازية بالعديد من الأطباق الكاثوليكية لكنها أدرجتها في مطبخ جمهوري متوسط يتألف من طعام وافر محضر منزليًا لمعظم السكان. أما في إنجلترا، فقد بدأت الطبقة الأرستقراطية تتناول الطعام الفرنسي الجديد”، وهذا المطبخ الفرنسي الرفيع انتشر بين النخب حتى نهاية القرن العشرين تقريبا.

يتناول الفصل السابع (المطابخ الحديثة: توسع المطابخ المتوسطة 1920م-2000) الأكلات المتوسطة المعتمدة على دقيق القمح ولحم البقر أو أنواع أخرى من اللحوم، والأطعمة الغنية بالنشويات والدهنيات، وتعتبر المؤلفة أن امتداد وتوسع هذه المطابخ بين سنوات 1880 و1914 هو أكبر تحول في تاريخ الطبخ العالمي، منذ هيمنة مطابخ القمح والحبوب وسيادة المبادئ التراتبية. فقد بدأت هذه المطابخ أولا عند الطبقة البورجوازية ثم امتدت إلى باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى، إلى الطبقة الوسطى، ثم إلى الطبقة العاملة التي تشكل أغلب الساكنة في مدن الدول الصناعية، خاصة في شمال أوروبا والمستوطنات الأوروبية وراء البحار بما فيها كندا وأستراليا ونيوزيلاندا والجزائر وأفريقيا الجنوبية؛ وقد انتشرت هذه المطابخ أيضا في الولايات المتحدة واليابان. لكن المطابخ الرفيعة والفقيرة لم تختف، فالأولى ظلت حكرا على الأغنياء والأقوياء، بينما الثانية كانت ما تزال تنشر في البوادي الفقيرة.

من الخصائص المميزة للمطابخ المتوسطة سرعة انتشارها، فقد صارت هي المهيمنة في المناطق الأغنى في العالم، وجمعتها قواسم مشتركة مع المطابخ الرفيعة، مما يعني أن المواطنين الآن أصبح بإمكانهم تناول الوجبات التي كانت قاصرة في الماضي على أقلية من الأغنياء وأصحاب النفوذ، وقد حدث هذا التحول في الطبخ جنبا إلى جنبا مع التحولات السياسية التي سمحت للمواطن بأن يدلي بدلوه في شؤون وطنه، وبالموازاة لم يعد هناك فارق كبير بين طعام الأغنياء والفقراء، لكن طرأ فارق جديد، وهو بين الدول التي لجأت إلى المطابخ المتوسطة، والدول التي ما زالت تحتفظ بالمطابخ التراتبية.

انتشرت المطابخ المتوسطة في أجزاء مهمة من العالم. وكما في الماضي، انتشرت هذه المطابخ مع توسع الدول الإمبراطورية في أوروبا وروسيا واليابان، وشارك في العملية كل من المستوطنين والمهاجرين والتجار والجنود والشركات متعددة الجنسية الناشئة. ومع مرور الزمان صارت المطابخ المتوسطة تعتبر وطنية في المناطق التي تبنتها، وإن كان هذا لا يعني اختفاء المطابخ التراتبية التي ظلت قائمة رغم ذلك.

تتوقف المؤلفة طويلا في هذا الفصل على المطابخ الإنجليزية المتوسطة المعتمدة على القمح ولحم البقر، بالنظر إلى أن بريطانيا كانت تحكم إمبراطورية عدد سكانها يقرب من 400 مليون، أي ما يقرب خمس سكان العالم حينها. كما أن عدد سكان أمريكا الشمالية في 1920 بلغ 106 مليون. فالبَلدَانِ (أي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) حكما 200 مليون من الناطقين بالإنجليزية آنذاك، وكانت نسبة النمو السكاني في أراضيهما لا تقارن بما لدى الدول الإمبراطورية الأخرى. وهذه المطابخ كانت الأسرع انتشارا في العالم. فمع بداية القرن العشرين أصبح حوالي 10% من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم ملياري نسمة يتناولون طعامًا إنجليزيا متوسطا: الخبز الأبيض واللحوم الطازجة والسكر والدهون في الكعك والبسكويت والشاي أو القهوة، والعديد من هؤلاء كانوا في الولايات المتحدة أو كانوا مستوطنين في مناطق ما وراء البحار مثل أستراليا وكندا.

يختتم الفصل الثامن والأخير (عولمة المطابخ الحديثة (1920-2000) موضوع تاريخ الطبخ العالمي من خلال تحديد ملامح عهد أطلق عليه “عولمة المأكولات المتوسطة”، تشكلت بداياته الأولى مع بداية عشرينيات القرن الماضي وأنتجت لنا في نهايته أكلة “الهامبورغر” الأمريكية التي أصبحت أكلة عالمية. فكما جعل الإنجليز من الشاي مع الخبز الأبيض والكعك وجبتهم القومية جعل الأمريكيون من البرجر بلحم البقر والخبز والبطاطا المقلية والبيض المخفوق وجبتهم الوطنية التي يتناولها الناس من جميع الأعمار والمهن والطبقات، سواء كانوا بمفردهم أو مع الأصدقاء أو العائلة. لم يكن لدى الرئيس كلينتون أي حرج في تصويره وهو يتوقف لكي يتناول الهامبرغر. في 25 يونيو 2010 دعا الرئيس أوباما الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف لتناول هذه الوجبة الأمريكية الشهية في ماكدونالدز. هذه الشركة التي تأتي غالبية أرباحها من خارج الولايات المتحدة تقدم طعما للمأكولات ولثقافة أقوى دولة في العالم، كما قدمت المطاعم الفرنسية في وقت سابق طعمًا للمأكولات الراقية وثقافة الإمبراطوريات الأوروبية. فلا عجب أن الهامبرغر أصبح هو المعيار للحكم على المطبخ الغربي الحديث وعلاقته بالاقتصاد السياسي والتغذية والدين، ولا غرابة أن “الماكدونالدية”، وهو مصطلح صاغه عالم الاجتماع جورج ريتزر، صارت مرادفة للكفاءة وصوابية التوقعات والعمل الذي يقوم به غير البشر.

إن صعود وانتشار الأكلات السريعة “وسع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وغذى وباء السمنة، ودفع بزمام القوة الإمبريالية الأمريكية إلى الخارج.”(4)، وهو ما أدى إلى قيام حركات طعامية احتجاجية تُعارض مطاعم الأكلات السريعة وتدعو لمقاطعة المطبخ الغربي الامبريالي، وهو الأمر الذي ناقشته المؤلفة لودان في هذا الفصل أيضا. كما تشير إلى نشأة مفهومين من المطابخ الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية: وهما الغربي في أمريكا وأوروبا الغربية ومستعمراتها، والاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، وقد انتشر المفهوم الاشتراكي للمطابخ المتوسطة أيضا في شرق ووسط أوروبا، حيث كانت المقاصف التي تديرها الدولة تقدم طعاما موحدا يتكون من حساء كرنب وطبق لحم وصلصة. وقد حاولت اليابان وتركيا ودول أخرى أن يُجددوا مطابخهم دون أن يتبنوا المطابخ الغربية بصفة كاملة، وكانت فلسفة الطبخ عندهم تعتمد على أخذ الأشياء النافعة من الغرب مع الاحتفاظ بالمميزات الثقافية المحلية.

فيما يتعلق بالعلاقة بين المطبخ والديانات لم يعد هناك تحالف بين الدول الإمبراطورية وبين الدين كما كان عليه الحال في السابق، حيث كانت الدول تحدد للناس ما يأكلون. ففي الغرب أصبح للأفراد مطلق الحرية في الالتزام بالقواعد الدينية في مأكلهم، وفي تنظيم طرق أكلهم. أما في الدول الاشتراكية التي كانت تعتبر الأديان أفيونا للشعب، فقد اعتبرت أن الدين لا ينبغي أن يكون له مكان ولا تأثير على الأكل. لكن ما إن تفككت الاتحاد السوفياتي حتى عاد الناس في الدول التي كانت منضوية تحت لوائها إلى الالتزام بالقواعد الدينية في الأكل من جديد.

المطابخ الرفيعة، المرتبطة بالملكيات، أصبحت مثار شك في الديموقراطيات الغربية والاشتراكية على حد سواء. ففي الولايات المتحدة والغرب تخلى الرؤساء عن الموائد الباذخة التي سادت في الامبراطوريات البائدة. وأصبح الغذاء الوفير يرسل إلى خارج الحدود الوطنية كمساعدات إنسانية، وهذا ما ساهم في التعريف بمطابخ الدول التي تقوم بإرساله. وفي التسعينيات بدأت المطابخ الاشتراكية تتراجع في الوقت الذي تصاعد فيه دور الشركات الغربية المتعددة الجنسيات، والتي تخصصت في صناعة الغذاء ومعالجته، واستطاعت بإمكانياتها الكبيرة غزو مطاعم الأكلات في روسيا والصين، لكن ومع كل هذه التحولات فإن المطابخ الوطنية عادت مجددا للانتشار محليا حيث تشتهر المطابخ الفرنسية والمكسيكية والهندية والإفريقية والإيرانية والتركية واللبنانية والمصرية وغيرها بأكلاتها الخاصة والمميزة.

يمكن القول، في ختام هذه القراءة، أن كتاب “الطبخ والإمبراطورية، الطبخ في التاريخ العالمي” مميز في مضامينه وموسوعيته، فقد استطاعت مؤلفته راشيل لودان رواية القصة الرائعة لصعود وسقوط أفضل المطابخ في العالم، منذ نشأة مطابخ الحبوب حوالي قبل عشرين ألف عام، حتى عولمة الطعام في عصرنا الحاضر مع “مطاعم الهامبرغر” وغيرها. كما ربطت المؤلفة بين التحولات التي كانت تحدث بصفة دورية في فلسفة الطهي والمعتقدات الدينية والمبادئ الصحية والتغيرات التي كانت تنشأ في الرؤى الاقتصادية والسياسية، وهو ما أدى إلى إنشاء مطابخ جديدة، وبعض منها صارت مطابخ للإمبراطوريات وهيمنت على العالم. وما يزيد الكتاب إمتاعا تضمنه لمجموعة من الخرائط والجداول والصور التي توضح توسع المطابخ وتغير طرق الطبخ عبر توالي الأزمنة وتعاقب الحضارات وسقوط إمبراطوريات وصعود أخرى.



الهوامش:

1-Reay Tannahill, Food in History, New York Crown Publishers, 1989, p XV
2-محمد حبيدة، المغرب النباتي: الزراعة والأغذية قبل الاستعمار، منشورات ملتقى الطرق، ط1، المغرب، 2018، ص9.
3-كارول كونيهان، انتربولوجيا الطعام والجسد، ترجمة سهام عبد السلام، المركز العربي للترجمة، القاهرة، ط1، 2013.
4-Eric Shlosser , Fast Food Nation, Mariner Books, 2012, p.270

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى