د. محمد عبدالله القواسمة - حول مسايرة الأديب في نظرته إلى أعماله

كثيرًا ما يتكلم الأدباء على أعمالهم، فيحكمون عليها غالبًا بالجودة، ويروجون لها، ويدعون المتلقي إلى الاهتمام بالجوانب التي أشاروا إليها في حكمهم. وفي بعض الأحيان لا يرضى الأديب عن عمله فيمزقه، أو يحتفظ به ولا ينشره، وقد يوصي أهله أو أصدقاءه، بتمزيقه وحرقه بعد موته.

إن ما يقوم به الأديب في الحكم على عمله بالجودة، أو في التوصية بحرقة وإتلافه نوع من النقد، أو لنقل نوع من التطفل على النقد. فهو ليس بناقد؛ لهذا فإنه لا يستطيع أن يحكم على عمله أو يقرر مصيره إلى الإهمال أو النشر؛ إنه يرى جميع أعماله جيدة، مثل الأم ترى أن أولادها كلهم جيدون، ولا يوجد من يماثلهم في الجمال والقيمة.

أما الأديب الذي يرى بأن عملًا له رديء، أو لا يستحق الاهتمام والنشر؛ بل الرمي في سلة المهملات أو التمزيق، أو الاحتفاظ به للذكرى فهذا إما إنه يسعى إلى أن يكون عمله كاملًا جسدًا وروحًا، أو على مستوى أعماله التي يعدها متميزة، وإما إنه وصل إلى فهم أن ما كتبه غير مكتمل أو جدير بالنشر والبقاء؛ لأنه كما يرى لن يساعد على تغيير المجتمع، وتحسين رؤية الناس للحياة؛ لهذا فمن الأفضل أن يئده قبل أن يرى النور، أو يغيبه في ثنايا النسيان.

هكذا رأينا الشاعر الروماني فرجيل (70ق.م- 19ق.م) يوصي بحرق ملحمته "الإنيادة" بعد وفاته؛ لأنه كان يعدها غير كاملة، وحال مرضه في أواخر حياته عن تصحيحها ومراجعتها. ثم يأتي فرانز كافكا رائد الكتابة العجائبية صاحب روايات: "المسخ"، و"المحاكمة"، و"القلعة" ليوصي صديقه وناشر أعماله ماكس برود بحرق كتبه كلها؛ لما تحمله من رؤية كابوسية للعالم. وكذلك كانت وصية الروائي فلاديمر نابوكوف بحرق مخطوط روايته "أصول لورا"، ولكن ابنه نشرها بعد رحيله. ومثل هؤلاء نرى ماركيز صاحب نوبل 1982م ومؤلف روايات:" "مئة عام من العزلة “و"الحب في زمن الكوليرا"، وخريف البطريرك" وغيرها، يوصى ولديه بتدمير روايته الأخيرة" حتى أغسطس" التي لم ينشرها في حياته لعدم تميزها ولكنهما لم يهتما بالوصية ونشرا الرواية هذا العام بعد عشر سنوات من رحيله.

من الواضح أن الأديب لا يوفق في نقد أعماله أو معرفة قيمتها الحقيقية، وإدراك ردود النقاد عليها إلا إذا كان هو نفسه ناقدًا. إنه مثل من في الغابة لا يقدر أن يراها كلها وهو في داخلها. وكثيرًا ما يلفت النقاد الأديب إلى جوانب من عمله لم ينتبه إليها، ولم يدرك أهميتها في تميز عمله؛ لهذا من الأخطاء التي يقترفها النقاد أنهم يسلمون أحيانًا بما يقوله الأدباء عن أعمالهم، وينطلقون منها في التحليل والتفسير والحكم؛ فيأتي نقدهم في غاية الضعف والقصور.

ثم ليس من الصواب أن نتبع وصايا الأدباء بحرق أعمالهم أو إخفائها، أو الاستهانة بها حتى ولو كانت من البواكير التي(كما أرى) تعد اللبنات الأولى التي تستند إليها أعمال الأديب اللاحقة. فقد غدت تلك الأعمال منذ وجودها من التراث العام للمجتمع، ولها أهميتها في الحركة الثقافية وتطورها، وفي كشف الجوانب الخفية من حياة أصحابها. فأي خسارة يتكبدها الأدب لو أحرقت الإنيادة، ولم ينشر برود أعمال كافكا، وأهمل ابن نابكوف رواية "أصول لورا"، ولم يصدرها في كتاب، ودمر ابنا ماركيز رواية "حتى أغسطس"؟ لا شك ستكون الخسارة كبيرة على مستوى الثقافة والفكر العالميين.

استنادًا إلى ما سبق فإننا نرى أن مسايرة الأديب في نقده عمله قد يشتت الناقد والقارئ في فهم العمل وتحليله، وأن التماشي مع رغبته المناهضة لعمله قد يهدد وجود العمل نفسه. كما أننا لا نستطيع اتهام الذين نشروا أعمال أدباء أوصوا بحرق أعمالهم وإهمالها بعد موتهم بأنهم ضلوا الطريق، وأنهم لجأوا إلى ذلك طمعًا في المال والشهرة، ولا نستطيع وصفهم بالخروج عن الأخلاق والمبادئ الإنسانية، بل نرى أنهم خدموا أصحاب تلك الأعمال، وحافظوا على جزء مهم من التراث الإنساني من الضياع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى