إدمون صبري - ضَاعت الفُرْصَة ــ قِصَّة قَصِيرَة ــ

... كان أحمد يمضي في سبيله عبر الأزقة الغائصة في الوحل ، فاضطر حفاظاً على سرواله الوحيد من التلوث إلى رفعه بكلتا يديه ، مما جعل سيره مترنحاً مهدداً كل لحظة بالانكفاء على الأرض .

كان يقصد صديقه مصطفى وهو فراش دمث الخلق يعمل فراشاً في وزارة الأشغال له بعض الدالة على مرموق يعمل مديراً في إحدى الشُعب ، كان حامي مصطفى وشفيعه في الوزارة ، وقد التمسه غير مرة أن يحشر صديقه في وظيفة كتابية متواضعة تناسب ثقافته وتحصيله دون الثانوي .

وحال أن بلغ أحمد الوزارة أرتقى درجاتها العراض الضحلة ، ومضى في اتجاه صديقه مصطفى وهو على شبه يقين أن وعداً جديداً سيضاف إلى الوعود الماضية ، وأن تسويفاً آخر سيلحق بالتسويفات التي خلت ، رغم إنه أمرؤ عاطل منذ ستة أشهر يعاني برحاء البطالة بكل ثقلها ومحنتها ، قال مصطفى في تأمل :
ــ انتظر قليلاً إنني سأتحدث إلى المدير كرة أخرى .
وهمّ أحمد أن يوقفه ويوصيه بشيء ما ، إلا أنه ما عتم أن تلعثم وصمت ، ولاحظ مصطفى حيرته وتردده فأخذه الإشفاق على صديقه ، جالت في خاطره فكرة إلا أنه كتمها مخافة أن يجرح عواطفه ، فغاب بضع دقائق عاد بعدها وعلى محياه سيماء التفاؤل والارتياح .
ــ وعداً مفعولاً بعد بضعة أيام ستحصل الشواغر ، إنك من غير ريب ستنال أفضلها .

تردد أحمد مرة أخرى ، وهمّ أن يقول شيئاً فتلعثم وأرتج عليه ، ولاذ بالصمت على مضض ، كان يود أن يُفهِمَ صديقه إنه يقبل وظيفة فراش ، غير أنه لم يجرؤ ، حاسباً أن صديقه سيدهش لهذا التنازل الفجائي الدال على الاتضاع والمسكنة ، فمصطفى فراش بسبب أميته وجهله وافتقاره إلى أي من الشهادات، بينما هو في الصف الثالث المتوسط يقرأ ويكتب فالوظيفة أجدر به وأليق ، تنهد أخيراً :
ــ ماكو شاغر ، ربما يكتشفون علاجاً للسرطان والسل ، ولن يكتشفوا علاجاً لماكو شاغر ، هذهِ البصقة السرمدية يقذفونها دوماً في وجه طالب العمل .

غلبه الحزن وذهب بمزاجه ، فحاول مصطفى أن يرفه عنه ولم يفعل في هذا السبيل سوى أن دس درهماً في جيب صديقه قائلاً في ثقة وعزم :
ــ تريث إن الأمور تنتهي إلى الأحسن .
وهمّ مصطفى أن يضيف شيئاً ما إلى كلماته فتردد ولاذ بالصمت مثلما فعل صديقه قبل دقائق ، وقال في آخر الأمر بنبرة حزينة مواسية :
ــ مستقبلك أفضل من مستقبلي ، إنك أمرؤ متعلم تحمل شهادة ما ، وتقرأ وتكتب كما يقرأ ويكتب العلماء ، وثمة ألوف في دواوين الدولة يتناولون خبزهم عن طريق الوظائف تسندهم الوساطات ، كل الأمور تجري على هذا الوجه .
في المساء لقي صديقه مصطفى في المقهى ، كان الأسى قد بلغ بأحمد حد الألم ، ولم يعد في قوس صبره منزع ، واعتزم أن يصارح صديقه بقبول عمل فراش ، وجد مصطفى مقتعداً إحدى مصاطب المقهى يقرقر بنارجيلة موضوعة أمامه ، وينشر من فمه الدخان ، كان مهندماً بعض الشيء ، ولم تكن عليه بذلة الفراشين ، تدانى أحمد قليلاً ثم استجمع أطراف شجاعته وقال :
ــ قل للمدير إنني أقبل وظيفة فراش .
فانشده مصطفى وألقى النارجيلة جانباً هاتفاً في شبه غيظ :
ــ هكذا إذن ، لما لم تقل ذلك في هذا الصباح ، كان بإمكانك أن تتعين هذا اليوم ، شغرت وظيفة فراش ، ولكنني استحيتُ أن أجابهك لئلا تتكدر ، فترددتُ وأثرتُ الصمت .
غمغم أحمد في يأس :
ــ استحيتُ أن تهزأ بي .
هتف مصطفى في ندم :
ــ هممتُ أن أقول ولكن ؛ خيطاً غير منظور اعتقل لساني وأسكتني ، ربما قد يكون سوء الحظ نفسه .
ردد أحمد في شبه ذهول وهو يتخذ سبيله عبر الأوحال التي تهدده بالانكفاء على الأرض :
ــ أجل إنه سوء حظ .

ــ انتهت ــ


ادمون صبري


(عَنِ المَجْمُوعةِ القِصَصِيَّة ـ خُبْزُ الحكُومَة ــ لادمون صبري ، ص 50 ــ ص 52)[/HEADING]


===============
إدمون صبري
(1921 ـ 28 مارس 1975)
قاص وكاتب مسرحي عراقي، برز في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
ولد إدمون صبري عام 1921 في بغداد، وتعرف في بواكير حياته على أدب جبران والمنفلوطي وعبد الرحمن بدوي، وقرأ بالإنجليزية لكبار الأدب العالمي أمثال هيجو، زولا، غير أن غوغول، غوركي، دوستوفسكي وسواهم كان لهم الأثر الأكبر في منهج إدمون صبري وأسلوبه.

عمل إدمون صبري في الصحافة العراقية بضع سنوات قبل أن ينشر أولى قصصه بعنوان (ماكو شاغر) عام 1948 . ثم حصل على ليسانس التجارة والإقتصاد من جامعة بغداد عام1951 . نشر أول مجموعة قصصية عام 1952 بعنوان حصاد الدموع، لتتعاقب خلفها المسرحيات والقصص. نشر عام 1957 قصة (شجار) المأخوذ عنها فيلم سعيد أفندي المختار كأفضل فيلم عراقي، أخرجه كاميران حسني قام ببطولته يوسف العاني وعبد الواحد طه وأعقبها عام 1958، بقصة فيلم (من المسؤول). كان صبري يغطي نفقات الطبع (أو بعضها) من الإعلانات التي ينشرها داخل كتبه.

في شباط 1963، تعرض إدمون صبري للاعتقال والفصل من وظيفته في البنك المركزي العراقي على يد السلطة الحاكمة، وتوقف عن النشر حتى عام 1967، حيث تناول تجربة «البطالة الإجبارية» التي فُرضت عليه وأمثاله في مسرحية بعنوان (أيام العطالة)، التي عُرضت لاحقاً على قاعة المسرح القومي في بغداد، بعد أن عاد إلى العمل في قسم الترجمة في وزارة الإعلام. توفي في 28 آذار عام 1975.

- (حكايات عن السلاطين) المنشورة على جزأين عام 1969 و1973.

* مجموعاته القصصيَّة

-حصاد الدموع (1952): وهي مجموعته الأولى.
- المأمور العجوز (1953)
- قافلة الأحياء (1954)
- كاتب وارد (1955)
- خيبة أمل (1956)
- شجار (1957)
- الخالة عطية (1958): قصة طويلة
- في خضم المصائب (1959)
- هارب من الظلم (1960)
- ليلة مزعجة (1960)
- خبز الحكومة (1961)
- زوجة المرحوم (1962): قصة طويلة
- عندما تكون الحياة رخيصة (1968)
- حكايات عن السلاطين (1969)
- أقاصيص من الحياة (1970)
- إدمون صبري: دراسة ومختارات: مجموعة مختارة من قصصه صدرت بعد وفاته عن دار الحرية ببغداد.

مسرحياته

هارب من المقهى (1955): مجموعة مسرحيات قصيرة، تعد أقرب إلى القصص الحوارية منها إلى العمل المسرحي.
الست حسيبة (1959)
محكوم بالإعدام (1960): مسرحية طويلة
أديب من بغداد (1962): مسرحية طويلة.




1711834905790.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى