د. عبدالجبار العلمي - رحلة "توكلنا" للدكتور محمد مشبال تقدم لنا المتعة والمعرفة

على سبيل التقديم :
صدر مؤخراً عن منشورات بيت الحكمة بمدينة تطوان، كتاب جديد بعنوان: "تَوَكَّلْنَا" للباحث الأكاديمي البلاغي الدكتور محمد مشبال، ويقعُفي 136 صفحة من القطع المتوسط. وقد تمَّ تجنيسه ضمن أدب (الرحلة). يتألف الكتاب من مقدمة وأحد عشر فصلاً يعنى الكاتب بوضع عناوين دالة لها (المغامرة ـ الحفل ـ توكلنا ـ جَدَّة الجديدة ـ فندق ميراج ـ عسل السِّدر ـ كسوة الكعبة ـ محاضرة في المدينة المنورة ـ الوزير الشاعر ـ التَّبعُّل ـ العشاء الأخير ). والكتاب ينزاح عن المشروع البلاغي الباذخ الذي كرَّس المؤلفُ له حياتَه، منذ كتابه "مقولات بلاغية في تحليل الشعر " (1) وهو المتمثل في تطوير الدرس البلاغي وتجديده وانفتاحه على أنواع الخطاب الجديدة المتنوعة. فالرحلة عمل إبداعي يقوم على السرد، ويتم فيه وصف الفضاءات التي يزورها الرحالة، ويسرد أحداثاً وقعت له خلالها ، ويرصد بعض الظواهر الاجتماعية الغريبة عن موطنه الأصلي، ويكشف عن عوالم كان يجهلها. ومن الرحلات المغربية التي يمكن أن نسوقها هنا أمثلةً على هذا الجنس الأدبي السردي "الرحلة المراكشية" لمحمد بن المؤقت ( 1932 م.)، فهي تتحدد "بالمفهوم التقليدي كتجوال في فضاءات غريبة يتم اكتشافها تدريجياً منذ لحظة الانطلاق، بعد اختراق الآفاق والأصقاع والممالك والمسالك والتوغل في الأقطار النائية المجهولة، مع ما يصاحب ذلك من مفاجآت" (2) . والمعروف أنَّ السرد الرِّحلي المغربي عرف حركة نشيطة في الثلاثينيات باتجاهاته المختلفة. ( 3) ومن الرحلات المغربية المتأخرة " الرحلة الخاطفة / مشاهدات ولقاءات في القاهرة " للتهامي الوزاني (4) سنة 1957 ، وهي رحلة لم تتجاوز ثمانية أيام ، وكانت بدعوة من صديق المؤلف السفير المغربي بالقاهرة الأستاذ عبد الخالق الطريس. ومن أبرز من كتب في أدب الرحلة في السنوات الأخيرة في الأدب المغربي المعاصر الأديب العربي بنجلون الذي له عدة رحلات في البلاد العربية والأوروبية وغيرها من البلدان الأسيوية كالصين مثلا، وقد جمعها في كتاب بعنوان " الأعمال الرِّحلية الكاملة" سنة 2022 .
أما الرحلة التي نحاول مقاربتها هنا لمحمد مشبال التي اختار لها عنوان " توكلنا "، فيمكن أن ندرجها في إطار الرحلة العلمية، إلا أنها لا تخلو من سمات الأدب الرِّحْلي كما عرفناه عند كتاب الرحلة السابقين كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه. إن لهذه الرحلة خصوصيتَها وظروفَها التي جعلتها تتميز عن غيرها من الرحلات، فالكاتب لم يكن يهدف بسفره إلى المملكة العربية السعودية للقيام برحلة ، بل كان السفر إليها بهدف تسلُّم جائزة أدبية كبرى تضطلع بتنظيمها السعودية تحت إشراف الملك سلمان بن عبد العزيز، وذلك صحبة رفيقه محمد كركب الذي تم استدعاؤه رسميا باقتراح الفائز لمرافقته حسب تقاليد الجائزة ، إلا أن ظروف جائحة "كورونا" التي أُقْفلتْ خلالها الحدودُ بين الدول عالمياً، اضطرته هو ورفيقه إلى الإقامة هنالك بعد انتهاء الحفل أكثر من شهر ونصف. وهكذا أقاما في فندق بجدة في انتظار فتح الحدود الجوية للعودة إلى الوطن. كان رفيقه يسافر إلى مكة يومياً في معظم أيام إقامتهما لأداء العمرة، بينما كان الكاتب يظل في الفندق يقرأ كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين، ويقدم محاضراته المتبقية لطلابه عن بعد. ثم تبين له أن يستغل فرصة إقامته في السعودية ليكتب هذا الكتاب الرحلي الذي بين أيدينا. يقول مبيناً لنا تعريفه الخاص لفن الرحلة : " الرحلة اليوم لم تعد مرتبطة بالجغرافيا حيث يكشفُ لنا الرحالة عن الأماكن المجهولة، بقدر ما هي سردٌ لعلاقة الإنسان بالمكان الذي ارتحل إليه، لهذا قررتُ أن أكتبَ رحلتي عن علاقتي بهذه الأمكنة التي زرتها ، وعلاقتي بِمن التقيتُ بهم من أشخاص، فلعلي في ذلك أعيد اكتشاف نفسي واكتشاف الآخر." (5) ستنصب دراستنا على مكونات الخطاب الرِّحلي على اعتبار أن فنَّ الرحلة عمل سردي حكائي، هي: عتبات النص، وبالتحديد : العنوان وغلاف الكتاب ـ السرد ـ وصف الفضاءات التي شاهدها المؤلف ـ الأشخاص الذين التقى بهم المؤلف خلال مقامه في بعض مدن السعودية - النصوص المضمنة .
دراسة العنوان والغلاف:
إنَّ العنوان ـ كما هو معروف سيميائياً ـ "عتبة من عتبات النص، فهو ممتلكٌ لبنية ولدلالة لا تنفصلُ عن خصوصية العمل الأدبي. " (6)، ولا بد من اجتيازها قبل الدخول إلى عالم النص، لكن علينا الحذر والاحتراس قبل ذلك. فــ"احذروا العتبات" (7) كما يقول "جيرار جونيت", فالذي يتبادر إلى ذهن المتلقي المفترض من خلال العنوان المثبت على واجهة غلاف الكتاب هو "توكلنا" وتحته على مسافة قريبة جداً ، الميثاق الأجناسي ( رحلة ) ، أي أن الكتاب ليس بدراسة أو عمل بحثي، بل عمل ينتمي إلى أدب الرحلة, إننا بإزاء رحلةٍ توكل المؤلف على الله معتزما القيامَ بها إلى بلاد الله الواسعة كشأن من سبقه من كتاب الرحلة إلى ذلك ، وأشهرهم الرحالة المغربي الطنجي ابن بطوطة في رحلته الذائعة الصيت. وما يثير انتباه المتأمل في غلاف " توكَّلنا" " صورة المؤلف الدكتور محمد مشبال الحائز على جائزة الملك فيصل في دورتها (43)، وقد احتلت أكبر حيز من الغلاف إلى أسفله،وتحتها كتب اسم دار النشر (منشورات بيت الحكمة) . ويبدو أن الصورة لوحة فنية رسمها الرسام بالحبر الصيني. وقد حرص أن يرسمها له وعلى محياه ابتسامة تنم عن الاستبشار والفرح. فالمقام يدعو إلى ذلك، فثمة فوز مستحق بجائزة عالمية لا ينالها إلا الأفذاذ من الكتاب والعلماء أضفت جمالية على الغلاف. أما خلفية الغلاف التي تبدو خلف صورة المؤلف ، فتمثل مسجداً بصومعة رفيعة ذات هندسة مشرقية. ومن الجدير بالملاحظة أن الرسام رسمها بألوان غير ناصعة ، تجعلها لا ترى بوضوح تام دِلالة على بعدها المكاني ، وربما لكي توحي إلينا بأن الرحلة ستكون إلى بلاد نائية هي السعودية التي سيرحل إليها ، متحدياً ظروف جائحة كورونا التي ستُغلق فيها الحدود الجوية وغيرها، وذلك ليتسلم الجائزة التي فاز بها بعد كفاحه المرير الطويل في عالم الكتابة والتأليف العلمي الرصين ، مشيداً مشروعه البلاغي الجديد. كما سنرى.
يقول د. محمد فكري الجزار : " إن العنوانَ ضرورةٌ كتابية، فهو بديل منْ غياب سياق الموقف بين طرفي الاتصال (المؤلف والمتلقي المفترض) إنهُ بإنتاجيته الدِّلالية أي بنِصِّيتِهِ، يؤسِّس سِياقاً دِلالياً يهيئ المستقْبِلَ لتلقي العمل." (
😎
لكن انطلاقاً من دعوة "جيرار جونيت" إلى الحذر من العتبات، نتريث قليلاً لنتأمل عنوان " توكلنا". يذهب بنا الذهن إلى توكل المؤلف محمد مشبال على العِلم الذي يدعو الرسول( ص) إلى طلبه من المهد إلى اللحد. إنَّ التفاني والإخلاص والجد والاجتهاد في تحصيله وإنفاقه لهي الضامنة لنيل ما يصبو إليه المرء من نجاح ومجد ومراتب علمية سامية، فالعنوان " توكلنا " إذن يوحي إلينا بدلالتين :
أ ـ التوكل على الله في أعمالنا وتجارتنا وأسفارنا... و"من يتوكل على الله ، فهو حسبه " ( سورة الطلاق ، آية 3 ) بمعنى تفويض العبد أمره إلى الله، وليكن ما يكون.. وهذا كان صنيع المؤلف في سفرياته. يقول الكاتب : " اعتدتُ في زياراتي لأي مدينة أن أتوكلَ على الله وأسبحَ في شوارعها ودروبها ، وكلما تهتُ أتاحَ لي ذلكَ تعرُّفاً أَكثر لخريطتها وتفاصيلها " ( الرحلة ، ص: 47 )، ومن هذه الأسفار سفره إلى السعودية بعد إعلان فوزه بالجائزة الذي صادف ظروف جائحة كورونا وإغلاق الحدود بين الدول. يقول الكاتب : " ورغم أنني توكلتُ على الله وأدركتُ حجم المغامرة التي أقبلتُ عليها عندما قررتُ السفر في فترة إغلاق الحدود، إلا أنني في قرارة نفسي لم أشعر بأي قلقٍ من مصير قد يجعلني عالقاً لفترة لا يعلَمُ بها إلا الله" ( الرحلة ، ص: 47 )
ب ـ اعتماد الدكتور محمد مشبال الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية على العلم والمعرفة والإرادة القوية والجد والاجتهاد والقدرة على تحمل الصعاب، منذ ميعة صباه كما سنرى فيما يلي. لكن المؤلف يخرق أفق انتظارنا بعد أن نقطع شوطاً في قراءتنا الرحلةَ، فالعنوان " توكلنا" استوحاه من " اسم التطبيق الإلكتروني ( توكلنا طوارئ ) الرسمي الذي اعتمدته المملكة العربية السعودية لإدارة حالات الطوارئ والحماية المجتمعية، والذي كان له دور هام في الحد من انتشار فيروس "كورونا"الفتاك، فمن خلال هذا التطبيق تعرف الجهات المسؤولة هل المعني بالأمر قد خضع للتطعيم القانوني المتكون من ثلاثة تلقيحات ضد الفيروس. ومن يُضبَطُ جهازه غير متوفر على ذلك، يتم منعه من الحركة والاختلاط والدخول إلى الأماكن العمومية. لكن هذا لا يمنعُ أن تكون دلالات العنوان " توكلنا " على النحو التالي : أ ـ التوكل على الله / ب ـ الاعتماد على العلم .. / ج ـ الأخذ بوسائل التكنولوجيا الحديثة في خدمة الإنسان والحفاظ على صحته. إنَّ عتبة العنوان ( النص الصغير ) التي لا تخلو من إثارة ومتعة التفكير والتخمين والتأمل، قبل أن ندخل إلى العوالم المتنوعة التي يزخر بها الكتاب ( النص الكبير). إنها لعبة يلجأ إليها كتاب السرد بمختلف أشكاله لإثارة المتلقي وتهييئه للدخول إلى عالم النص وخفاياه التي ينطوي عليها. وقد يكون العنوان على النقيض تماماً من الدلالة العامة للنص، فالمؤلف يقصد إلى خرق أفق انتظارنا، ويمكر بنا مكراً فنياً فيه متعة وإدهاش. يمكن أن نذكر على سبيل المثال عنوانين للدلالة على ذلك: 1 ـ عنوان رواية " أيام وردية " لعلاء الديب الذي يوحي بأننا بصدد الدخول إلى عالم تملؤه أيام مفعمة بالسعادة والهناء والصحة النفسية والعقلية، لكننا عند اقتحام عوالمه لن نجد سوى الكآبة والشقاء والإحباط والأزمات النفسية والعقلية التي يعاني منها معظم شخصيات الرواية؛ ورواية " قصر الأفراح " لمحمد عبد السلام العمري التي تدور أحداثها في نفس فضاء رحلة "توكلنا "، يوحي عنوانها للمتلقي بأنه سيصادف عالماً من البهجة والفرح ، لكنه سيفاجأُ بأنه غارق في أجواء تعمها الخيانة الزوجية والجريمة وإحراق القصر الذي يشيد طيلة صفحات الرواية لتقام فيه الأعراس والأفراح.
من الجدير بالملاحظة أن العنوان في "توكلنا " ورد بصيغة الجمع الدال على متكلمَيْن فأكثر ( ضمير نحن )، مما يعني أن المؤلف العازم على القيام بالرحلة لن يقوم بها وحده، بل برفقة شخص آخر هو صديقه الحاج محمد كركب أحد طلابه المجدين الأذكياء. رجل محنك خدوم، يعول عليه في الملمات والشدائد، وله تجربة لا يستهانُ بها في السفر إلى البقاع المقدسة في السعودية للحج أو الاعتمار، اكتسب خلالها معارف من مختلف الفئات الاجتماعية. وإذا كان العنوان صيغ بضمير الجماعة ( توكلنا) ، فإن الضمير المستخدم في السرد هو ضمير المتكلم المفرد للسارد ـ المؤلف، باستثناء بعض الفقرات السردية التي يستخدم فيها المؤلف ضمير الجمع, لا يتسع المجال هنا لإيرادها.
السرد :
إن الرحلةَ التي يسرد وقائعها ومحكياتها الساردُ ـ المؤلف، رحلة ٌ طويلة لا تقف مدَّتُها عند زمن السَّرد، بل تمتد فتراتٍ طويلةً عن طريق زمن الأحداث أو زمن القصة وعن طريق الارتداد الزمني ، فالرحلة ليس مداها الزمني تلك الإقامة التي أقامها المؤلف الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية (في دورتها الثالثة والأربعين) في السعودية، وسفره صحبةَ مرافقه "محمد كركب" في ظروف جائحة فيروس كوفيد 19 ، ليتسلَّم الجائزة في الموعد المحدد لحفل التسليم (28 ديسمبر 2021 م.)، بل إنها تبدأ في الحقيقة منذ أن توكل الكاتب محمد مشبال على العلم والجد والاجتهاد والشغف بالقراءة والكتاب في صباه وشبابه الأول، وعلى الإرادة والطموح ونكران الذات، إيماناً منه أن تحصيل العلم لا يدرك إلا ببذل الجهد والمشقة الشاقة، فطريق المعالي ليس مفروشاً بالورود. يقول الكاتب : " وهبتُ حياتي للعلم منذ شبابي المبكر، وآمنتُ بكل بحث كتبته واستغرقَ مني وقتاً طويلاً وجهداً مضْنياً، وأنني تفانيت في تحضير محاضراتي التي ألقيها على طلابي لعقود من الزمن، وأنني نَجَحتُ في تَحفيز مجموعة منهم للانخراط في الدراسات البلاغية التي أحبوها وأنجزوا فيها أعمالاً تستحقُّ التقدير.." (9) ، ويشير المؤلف إلى الطريق الذي سلكه للوصول إلى ما حققه من مجد علمي رفيع بتتويج كفاحه وجهوده بجائزة عالمية, وهو طريق صعب وعسير، فما نيلُ المطالب بالتمني ، كما قال شوقي بحق. ويتمثل فيما يلي:
ـ تكريسُ كل حياته للحقل المعرفي الذي أحبَّه ( التراث البلاغي العربي )/ شغفُه بالقراءة والكتابة وتأليف الكتب / تدبيره الوقت بطريقة غاية في التنظيم، يُذكرني بصنيع نجيب محفوظ في التنظيم الدقيق لوقته من أجل التفرغ، بعد عمله الوظيفي، لكتابة رواياته وقصصه التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. ويذكر المؤلف أن ذلك سبَّبَ له في كثير من الأحيان اعتزالَ العائلة والناس/ اختيارُه منذ فترة الخُلوَّ بنفسه في بيته القروي البعيد عن مقر سكناه العائلي بمدينة تطوان، حيث يُلزم نفسَه ببرنامجٍ صارم يبدأ من الصَّباح، وينتهي بالنوم الباكر تتخللهما قيلولة قصيرة عصية على المقاومة. ومن ضمن البرامج القاسية التي كان يلتزم بها المؤلف خلال سنوات، قضاؤه شهرَ رمضان كاملا في مُعتزله البعيد عن العائلة، مضحياً بدفء الجو العائلي في هذا الشهر، متزوداً بالعزيمة والصبر ونكران الذات. إن الرجل كان يدرك أن مثل هذه التضحيات الجسام لا مناص منها للتكوين المتين وللكتابة والتأليف وتحقيق المطامح البعيدة المنال. يقول الكاتب نفسه " إن شعوراً عظيماً ينتابني وأنا أتسلَّم الجائزة التي تحفزني على مواصلة السير في مشروعي، فليس سهلاً الفوز بهذه الجائزة المرموقة التي فازَ بها عظماءُ دارسي الأدبِ العربي والعلومِ الدقيقَة في أرجاء العالم. " (10)
ومن الجدير بالملاحظة أن زمن السرد في الرحلة لا يتخذ مساراً كرونولوجياً، بل إن السارد ـ المؤلف مثلاَ وهو في الفندق بجدة يستخدم تقنية الارتداد، ليسرد عن حياته في تطوان ، ويتحدث عن أصدقائه الذين لم يبخلوا بمساعدتهم لإعداد كتاب عن سيرته العلمية قد طلب منه من لدن لجنة الجائزة منهم الأستاذ محمد البقالي وعبدالفضيل أدراوي، ويذكر باعتزاز مبادرة عميد كلية الآداب محمد الغاشي الذي بادر بالعمل على طبع الكتاب فوراً ( ص: 13 )، كما أنه يرتد بذهنه للحديث عن طقوسه اليومية مثل ممارسة رياضة المشي في الصباح الباكر، معبراً عن حنينه إلى رؤية الطبيعة المتسربلة باللون الأخضر ، والجبال المعشوشبة التي تغطي بعض أجزائها الأشجار الخضراء الكثيفة. ونجده في العديد من المقاطع السردية ، يعقد مقارنات موضوعية بين فضاءات جدة وغيرها من هوامش المدن الأخرى ومنها مكة ، لينتهي إلى نتيجة مفادها أن ثمة تفريطاً في البنية التحتية في هذا البلد الغني. خاصة حين يصف لنا حالة مدينة جدة التي تعاد هيكلتها، فتهدم البنايات القديمة لتحل محلها بنايات وأبراج فاخرة على الكورنيش الذي يمتد على عشرات الكيلومترات. لقد أصيب السارد ـ المؤلف بخيبة أمل في مدينة جدة، فقد كان يتصورها مدينة شاطئية منظمة ، نظيفة خالية من البناء العشوائي، لكنه صدم حين أقام بها في فندق ميراج ، لقد لاحظ أن ليس بها مقاه شعبية ولا وسائل للنقل من حافلات أو تروماي أو مترو تتيح للزائر الاختلاط بالناس ( انظر: الرحلة ، ص : 72 وما بعدها )، فهو لم يكن يعرف إلا وجهها الثقافي من خلال المجلات الرفيعة المستوى، المتنوعة الاهتمامات الأدبية والقافية التي كانت تصلنا بانتظام، وهي " علامات في النقد " ـ " جذور " ـ " نوافذ " ـ " الراوي " ـ "عبقر" والأصداء الطيبة التي تأتينا عن النادي الأدبي بجدة. ( ص : 55 ). والحقيقة أن الدكتور محمد مشبال كان موضوعياً في نقده لبعض المظاهر المتناقضة التي شاهدها في المجتمع السعود، طامحاً إلى رؤية "جدة" جديدة حقاً تضاهي المدن الأخرى في منطقة الخليج ـ هجرة الطلبة السعوديون إلى أمريكا وغيرها من بلاد الغرب للدراسة ( 93 ألف طاب وطالبة ) ، واستقرارهم بها للعمل، ويرى الدكتور محمد مشبال أنه لو قدر لهذا العدد الهائل من الطلاب العودة إلى بلدهم لكان شأنها أعظم في مختلف مجالات العلم والمعرفة والتقدم التكنولوجي. ويشير الكاتب إلى أن البلاد مقبلةٌ على مشروعِ بناء مدينةِ المستقبل التي سترى النور قريباً، " نيوم " أحدث وأذكى مدينة في العالم. (انظر ص: 62)
الأشخاص الذين التقى بهم : لقد التقى الكاتب خلال إقامته بالسعودية بعدة فئات اجتماعية، أهمها فئتان : أ ـ فئة المثقفين وأساتذة الجامعة، نذكر منهم على سبيل المثال: الأمين العام للجائزة عبدالعزيز السبيل ـ الدكتور معجب العدواني ـ الأستاذة بسمة عروس (التونسية) التي تعمل بالجامعة السعودية ـ المستعرب البريطاني الأسترالي مايكل كارتر الذي درس النحو العربي باللغة الإنجليزية طيلة 50 سنة، وهو يتجاوز ثمانين سنة من عمره. وهذا الأخير هو الذي تسلم الجائزة من لدن الملك سلمان رفقة الدكتور محمد مشبال/ ب ـ فئة من رجال الأعمال الذين لهم صلة بالمغرب ومنهم: صاحب فندق ميراج بجدة الأستاذ عادل المحامي ورجل أعمال " الشيخ براء موظف سابق بشركة بترول معروفة، وهو حالياً مستثمر.
النصوص المضمنة في الرحلة: من الملاحظ أن المؤلف يُعنى بتضمين بعض النصوص التي تتعلق بالجائزة في كتابه بغية توثيقها، وأغلبها رسائل عدا نص واحد منها يتعلق بكلمته التي أعدها لإلقائها في حفل تسليم الجائزة (ص: 19 وما بعده ) أما الرسائل، فهي كما يلي :
1 ـ رسالة الإخبار بتحديد موعد حفل الجائزة ، ( الرحلة، ص: 10) / 2 ـ رسالة مديرة العلاقات العامة : تطلب فيها من الفائز بموافاة الأمانة العامة بسيرته العلمية وببعض الصور وبالإجابة عن بعض الأسئلة، قصد نشرها في مختلف وسائل التواصل للتعريف به. ( ص: 11 وما بعدها ) / 3 ـ رسالة من لدن السيد جاك لانج رئيس معهد العالم العربي ووزير الثقافة الفرنسي الأسبق. ( ص : 25 ) 4 ـ دعوة رسمية لحضور حفل تسليم جائزة الملك فيصل لعام 2020 ـ 2021 بتاريخ 26 ديسنبر. (ص:28 )
كتاب " توكلنا " الرِّحلي كتابٌ يأخذ بتلابيب القارئ لما ينطوي عليه من تشويق ووقع السارد المؤلف ورفيقه محمد كركب من ورطات يجتهدان في الخروج منها ، فقد كانت الورطة الأولى علوقهما أثناء إغلاق الحدود واضطرارهما إلى الإقامة في فندق ميراج، عرف فيها الدكتور محمد مشبال كيفَ يدبر وقته كعادته ليقرأ كتاب " تحرير المرأة" ويحلل فيه خطاب قاسم أمين عن تحرير المرأة بمنهجه البلاغي،وقد تبين له من خلال الواقع الحي أن قضية تحرير المرأة التي عالجها من سنين مازالت حية حتى يوم الناس هذا، لاسيما في البلد الذي ارتحل إليه. أما الورطة الثانية الكبرى فكانت عندما أعلن عن فتح الأجواء وانزياح الهم الذي كان جاثما على صدور العالقين وغيرهم. ومنهما حاولت أن أقدم للقراء الكرام المواقف التي وقع فيها المؤلف ورفيقه، فلن أستطيعَ أن أصفها لكم وصفاً حياً دقيقاً. ما يمكن أن أقوله أن المؤلف ورفيقه محمد كركب لم يخرجا من الورطات في مطار جدة ويصعدا الطائرة إلا بجهد جهيد ومشقة شاقة وحتى حين الوصول إلى المطار يجعلنا المؤلف نحس معه بالهلع والخيبة والندم الذي يكون بعد فوات الأوان، عندما لم تظهر حقيبته الصغيرة المحملة بشهادة "براءة جائزة الملك فيصل" والميدالية الذهبية، فكادت قلوبنا تقف من هول الموقف. ولما توقف حزام الأمتعة عن الدوران, ولما كاد ييأس، لاحت له على مسافة قريبة منه ثابتة، خرجت عن نطاق الحزام الدائر وهنا قال متنفساً الصعداء : " هل كان من الضروري أن تزهق روحي لتكتملَ فرحتي؟ " ( 160 ). والحقيقة أن الدكتور محمد مشبال لم يخرج من فندق ميراج خالي الوفاض ، بل خرج بكتابين الأول رحلته الشيقة ، والثاني عن تحليل الخطاب البلاغي لقاسم أمين في كتابه " تحرير المرأة" بمشاركة الباحثة التونسية جليلة طريطر.
يبقى أن نقول في الأخير، إن رحلة " توكّلنا"، تقدمُ لنا المُتعة والمعرفة معاً، بلاغةِ الإقناع وبلاغة الإمتاع. وليس هذا بغريب عن الدكتور محمد مشبال الذي عبَّ من معين النثر العربي القديم الثر، ونهل من كتب الجاحظ التي قال عنها ابن العميد: "إِنَّ كتب الجاحظ تعلِّم العِلمَ أولاً، والأدب ثانياً."


الهوامش:
1 ـ الطبعة الأولى ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، 1993 م.
2 ـ أحمد اليبوري ، الكتابة الروائية في المغرب / البنية والدلالة ،ط.1، شركة النشر والتوزيع المدارس ، الدار
البيضاء ، 2006 ، ص: 29 .
3 ـ نفسه، ص: 27 .
4 ـ نشر وإعداد إبراهيم الخطيب ، منشورات جمعية تطاون أسمير ، ط.1 ، 2013 م.
5 ـ توكلنا، منشورات بيت الحكمة ، ط .1 ، تطوان، 2024 ، ص: 78 .
6 ـ عبد الفتاح الحجمري ، عتبات النص: البنية والدلالة ط. 1، منشورات الرابطة ، الدار البيضاء، 1996، ص : 17 .
7 ـ الصفحة الثانية لغلاف كتاب عتبات النص المذكور أعلاه.
8 ـ العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1998 ، ص: 45.
9 ـ توكلنا (رحلة )، مجع مذكور ، ص: 42.
10 ـ نفسه ، ص: 43 .


1712009548522.png
---------------------
دراسة الكتاب الرحلي " توكلنا " للصديق العزيز الدكتور محمد مشبال المنشورة في جريدة " الشمال" الزاهرة ، عدد يوم السبت 23 مارس 2024 , كتاب يعيدنا إلى السرد الممتع والمحكيات المترعة بعنصر التشويق ، وخلال ذلك تقدم لنا المعرفة بفضاءات كنا نجهلها ، وتكشف عن كثير من المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في رحلته إلى السعودية لتسلم جائزة الملك فيصل العالمية دورة (43 ) يوم 28 ديسنبر 2021 . وقد صادف موعد حفل التسليم ، ظروف كورونا وإغلاق الحدود الجوية بين الدول .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى