حسن كشاف - احتضار ذبابة...

في ليلة باردة بعد يوم متقلب المزاج، جلس "عبيدة" إلى سريره المعتاد، يتفرس جريدة قديمة، لم يتمم قراءتها رغم أنه امتلكها مند فترة ليست بالقصيرة. لم يكن تفضيله لهذا الكرسي اعتباطيا أو عفويا، فقد كان هذا السرير مقابلا لنافدة مهترئة، تطل على أرض واسعة، كثيرا ما زرعت لكنها لم تنتج غلة يومــا، ولن تنتجها؛ ليس لأن لعنة أصابتها، بل لأنها كانت تجاور مزبلة كبيرة، صارت مع مرور الوقت مطرحا للحي بأكمله، مما أدى إلى انتشار كل أنواع الحشرات على رأسها الذباب، وخصوصا" ذبان الجيفة " كما تسميه زوجة أخيه البدينة، والتي تتكلف بطرد عدد هائل منها كل يوم، سيما إذا ظلت النافدة مفتوحة لاستقبال أشعة الشمس.
أحس ببعض البرد فرمى الجريدة من يده دون سابق إنذار، وانتفض من مكانه نحو النافدة ليغلقها بسرعة البرق وكأن أفعى لسعته، شعر بعدها بتحسن طفيف، والتقط الجريدة من الأرض وأكمل القراءة. رغم أنه أوصد النافدة أمام البرد، فقد بدأ يتزايد هذا الانزعاج و الضجيج حتى صار يشكل له نوعا غريبا من السأم.
قرر أن يستقصي الأمر لإدراك السبب، أنصت بكل جوارحه المكلومة من تجارب الحياة، والتي كثيرا ما قست عليه، كاد هذا التفكير يقوده إلى الهذيان، لكنه لم يستسلم للنوم.
وأخيرا، أدرك أن ما شكل له أرقا، لم يكن سوى طنين ذبابة مستغيثة قد أوصد النافدة عليها. قرر أن يتجاهل الأمر ومضى يقرأ دون اكتراث لتلك الحشرجات التي تحدثها. وفي لحظة من الصفاء الروحي الذي يعتري المرء ذا النفس اللوامة، بدا وكأنه يسمع أنينها وصراخها وهي تتوسل إليه لكي يطلق سراحها، وبغتة أصبح سمعه حادا، فاق بذلك قدرات الناس العاديين، حتى استغرب هو نفسه من الأمر، فكثيرا ما كان يجد صعوبة كبيرة لسماع صراخ زوجة أخيه أو أمه، احتجاجا على فتح النافدة. ثم اختفى الصوت نهائيا، فزاد من تركيزه وكأنه يريد أن يطور قدرته على تحسس صوت الذبابة، وكأنه افتقدها أو بالأحرى افتقد تلك المتعة التي استلذها حينما كانت تتألم وتتعذب وتصدر حشرجة، تَمَثَّلَهَا كأنغام ناي حزين.
لم يكن كل ذلك إلا استعراضا للعضلات، كان في قرارة نفسه يريد أن يدرك ذلك الشعور الذي يخالج كل من يعامله كحشرة دنيئة، أحس بانتشاء عظيم، امتزج بالسلطة والقدرة على إخضاع الآخرين وإخراسهم. لطالما كان هذا حلما فطريا ولد معه، إلا أنه وجده يخبو شيئا فشيئا حتى اندثر، في مقابل ذلك صار يتمنى أن يعامل باحترام لا أكثر ولا أقل، وألا ينظر إليه على أنه ذبابة.
سادت لحظات من الهدوء الذي كاد يسمع أثناءه هدير أدنيه، بدأ يتسرب إلى نفسه نوع من الذنب وتأنيب الضمير جراء فعلته، أنه سبب مباشر في خاتمة مأساوية لكائن حي.
كل ذلك الغم زال بعد هنيهات وجيزة، بعد أن تردد ذلك الصوت مرة أخـرى، إنه صوت الذبابة التي باشرت تستغيث من جديد، وكأنها أخذت مهلة لتستجمع قواها، في محاولة أخيرة للفت انتباه أحدهم إلى وضعها. شعر بفرح وغبطـــة كبيرين بعد أن تلقى هذا النبأ السار، وانتفاء صفة الذنب عنه، وبدأ يفكر جديا في تخليص الذبابة من هذا الكابوس الذي وقعت فيه، نتيجة تصرف طائش وغير محسوب، هكذا فكر.
بدأ يفكر جديا في مساعدتها، لكنه أحس أن تعب السنوات السابقة قد سقط على عاتقه في مرة واحدة فهده هدا. قاوم عبثا، محاولا أن يضع مكانها، "لماذا أضع نفسي مكانها !! أنا مثلها نتشابه في كل شيء أو لنقل أننا نتطابق إلى حد التماثل"، هكذا فكر. واسترجع عندئذ نظرات التهميش والازدراء التي يتلقاها من موظفي الملحقة الإدارية، كأحسن شيء، أما في الغالب فلا ينال إلا النهر. فقبل أسبوع بينما هو ينتظر استلام شهادة سكنى أمام مكتب موظف في الملحقة الإدارية التابع لها، دخل رجل يبدو أنه محترم، استشف ذلك من خلال هندامه المرتب ومظهره الأنيق، فلم يعر هذا الأخير اهتماما لـ"عبيدة" الذي كان جالسا القرفصاء، بينما كان الرجل المحترم يهم بالدخول عند الموظف ليقضي حاجته، دون اكتراث لمن هم قبله من المنتظرين، جعل هذا الأمر ثائرة "عبيدة" تثور لأول مرة في حياته، وخاطب الرجل المحترم بغلظة :
ــــ أرجوك يا سيدي التزم النظام " أنا قبلك " .
حملق فيه الرجل المحترم بنظرات تحمل في طياتها نوعا من الاحتقار والاستهزاء .
ــــ اعذرني لم أرك، هل كنت تقف هنا ؟
أحس كالعادة أنه مبتذل ولا قيمة له، كيف يعقل ألا يراه وهو بهذا الحجم الضخم ـ كان يريد أن يصدق موهما نفسه أن الرجل المحترم لم يره فعلا، وأن هذا التصرف لم يكن متعمدا . جعلته كل هذه الاستيهامات يتثاءب تم استسلم للنوم.
في الصباح الباكر وعلى غير عادته أفاق "عبيدة" من نومه مفجوعا مصدوما، وكأنه سمع خبر نهاية العـالم، فتذكر على الفور حادثة ليلة أمس، ونهض من سريره وكأن إناء من الماء البارد قد صب عليه، فتح النافذة بسرعة وهو يرتعد هلعا، فوجد الذبابة جثة هامدة. لم يحس بالدموع إلا وهي تنهمر على وجنتيه، تبادر إلى ذهنه أنه مجرم، ولا يستحق الحياة بعد فعلته الشنيعة، نظر إلى أسفل وكان العلو شاهقا بين النافذة الأرض، كان يفكر جديا في الخلاص من تأنيب الضمير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى