مهدي عيسى الصقر - بيتنا الذي في بغداد...

بسام يا أوفى صديق!
تذكرتك مساء البارحة، في الحقيقة انا ما نسيتك، و لا لحظة .. صدقني، لكن البارحة، من دون باقي الأيام، اشتقت اليك حد البكاء اردتك بجانبي، والعائلة تحتفل بعيد ميلادي السابع عشر، أنا أشكرك جدا جدا جدا ، على البطاقة .. نهر دجلة وقوارب الصيادين والجسر، وطيور فوق الماء، وكلماتك الحلوة مثلك، بطاقتك أنعشت روحي، لكنها أحزتني، أشعلت نار الذكريات في قلبي، قل لي كيف حصلت على العنوان ؟!
سفرنا كان سريعا، أردت أن اودعك، لكن واحدا من الأولاد، في محلتكم، قال لي أنك ذهبت، مع والدك، الى الحلة، لماذا في هذا اليوم؟
الحفلة كانت عائلية صغيرة .. بلا ضيوف، و من أين يأتي الضيوف، لا أحد يعرفنا هنا، والجيران كلهم أجانب، هذه نكتة .. لأننا نحن الأجانب، في البلد، وهكذا يا عزيزي لم يشاركني غير الوالد، الذي يحس بالذنب، وكان يحاول أن يلطف الجو، برواية نكات قديمة، وأمي المنفعلة، كأن ابنها حقق انتصارا لا يقدر عليه أحد غيره، ببلوغه السابعة عشرة من عمره، وأختي الكبيرة سها، الحزينة لابتعادها، عن صديقاتها، وعن كليتها، وصاحبتك الصغيرة، صفاء (فوفو) التي لا يهمها شيء مما يجري.
عندما أخذت الأصوات الثلاثة تتردد، في فراغ شقتنا " سنة حلوة يا جميل!" وانحنيت اطفئ شموع عمري الذي انقضى طفرت الدموع من عيني، مسحتها براحة يدي، وتمنيت من الله ان لا يسألني أحد شيئا، أو ينظر في وجهي، في تلك اللحظة، لكن أمي شهقت "أنت تبكي!" عندئذ تناثر صاحبك، يا فحل، انهار تماما، لم استطع أن أمسك نفسي أجهشت مثل طفل، و ركضت الى غرفتي.
ماذا اقول لك عن دراستنا، أختي سها طلبوا منها أن تحصل أولا، على شهادة نجاح، في خمسة مواضيع اساسية، قبل أن ينظروا، في تسجيلها، في أحدى الكليات، يعني سنتين من الدراسة الاضافية، غير السنوات، التي ضاعت عليها! اما صديقك فعليه ان يقوي لغته الانجليزية، وبعد ذلك يشوفون الأفندية، في أية مرحلة يقبلونه، ماذا افعل قل لي !؟
أنا ، الآن أدرس اللغة، في المعهد .. أذهب اليه، في المساء .. وأحاول ان اتعلم من الناس، في الأسواق، وفي وسائط النقل، لكن أكثر شيء من التلفزيون، بدأت أفهم كل ما يقولون ( لهجتهم تختلف عن الطريقة التي يلفظ بها الاستاذ ناجي كلماته الانجليزية عندما كان يدرسنا) الافلام هنا تعرض بدون ترجمة، بالطبع، قبل يومين عرضوا فيلما للممثل (بيتر سلرز) فيلم مضحك، لكن انا ما عندي مزاج للضحك.
الوحيدة التي تذهب الى المدرسة بانتظام هي (فوفو)، ابي سجلها في روضة أطفال قريبة، بعد أيام، من دوامها في الروضة، بدأت الكلمات العربية تتساقط، من ذاكرتها، فهي الآن اذا تريد برتقاله مثلا، تقول لأمي ( أريد أورنج) وامي عقلها يطير! تصيح بها تكلمي بالعربي!
أخرج أحيانا، في ساعات الضحي، اذا كان الجو صحوا، أتنزه في الشوارع والأسواق .. أتفرج على الناس، والأشياء، أشاهد، في بعض الأوقات، مناظر عجيبة غريبة، مجموعة من الشباب سرحوا شعر رؤوسهم على شكل عرف الديك، أو ذيل البطة، أو ظهر قنفذ، أو سفينة شراعية .. وصبغوه أخضر على أزرق على أحمر على برتقالي على كركمي .. أي لون يخطر ببالك، هؤلاء يسمونهم (بنكس)، لا تسألني ماذا تعني هذه الكلمة، لأنني لا أعرف، مجموعة ثانية حلقوا شعر رؤوسهم درجة صفر، على طريقة الممثل المرحوم ( يول براينر)، هؤلاء شرسون وعدوانيون .. ويتجاوزون على الناس، وينهبون أي شيء، يعني زبالة تمام، يطلقون عليهم أسم (سكن هيذر) .. أصحاب الجلدية.
أبي يغادر الشقة في الصباح ويعود بعد الظهر، ولا يخرج بعد ذلك، قدم عددا من الطلبات، الى الشركات، أو المؤسسات .. لا أدري، هو لا يتكلم أمامنا، يخبر أمي، أكيد وهي لا تقول شيئا، لكنني أرى، من نظراتها أنها ليست مرتاحة.
الفتيات هنا جميلات (ليس كلهن بالطبع) عيونهن ملونة، وشعرهن أكثره أشقر، بكل التدرجات اللونية، الى أن تصل الى اللون الفضي، ( أنا أطفر من موضوع الى موضوع، لا باس أريد أفتح لك قلبي .. لا احد هنا أفتح له قلبي)، لكن تعرف، بسام، ان بناتنا أحلى، وأكثر أناقة ،، صدقني، أحلى مليون مرة ... خصوصا أم الضفيرة، في محلتنا، أنت تعرفها.
كنت أحلم أن أتزوجها، عندما أتخرج، لكن الآن ضاع كل شيء .. ان طيفها يزورني .. أنا نائم أو مستيقظ أمام التلفزيون، أو تائه في الدروب، ويزيدني حزنا على حزن، ليلة البارحة جاءتني، كنت متمددا على السرير، في حجرتي، وقفت تنظر الى وجهي، لم تبق غير لحظة، قالت " أنا لا استطيع أن أعيش هنا، الجو، في هذا المكان يقتلني" ثم استدارت، وانصرفت، صحت وراءها "انتظري لحظة لا تذهبي" لكنها اختفت عندئذ ظهرت أنت، قلت لي " أطمئن، سوف آخذك اليها" أمسكت بيدي، وطرنا الى بغداد.

قصص ( شواطيء الشوق )



1712201460974.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى