(إلى هذا الشيخ الجاثم في حفرة بين القابرة كما يجثم العقاب
الهرم، وإلى وحيدته فاطمة الراقدة تحت أطباق الثرى، وإلى
هذه الكلاب التي ترفل في نعيم الدنيا، وإلى الصعاليك من بني
آدم أهدي هذه القصة)
ع. ح
- 1 -
كان البدر يتألق في صفحة السماء، وكان الليل مشرق الجبين فتهلل وجه الطبيعة، وانقشعت غياهب يومنا العابس المطير
وكأن صحو هذه الليلة ولإشراقها قد أشاعا الدفء في الأرجاء فنسينا أننا في ليلة من ليالي الشتاء
وكنت مع صاحبي ليلتئذ - في داري التي اخترتها لسكناي بالضاحية النائية على حافة الصحراء - نطوف بالذكريات في ركب الأيام ومواكب الأعوام، وطال بنا الجلوس فمللنا البقاء وهممنا بالخروج ننشق نسيم هذه الليلة التي تشبه ليالي الربيع، وكنا نسير إلى غير قصد معلوم
قال لي صاحبي:
- ألك في رحلة قصيرة نجتاز بها هذا الجانب من الصحراء إلى تلك القرية الصغيرة عل سيرة ربع ساعة ننعم في خلالها بالبدر يسطع فوق رمالها البيضاء، وبالليل نبدد سكونه بما يحضرنا من حديث؟
وكان تألق البدر في الصحراء يغري بالمضي إلى حيث شاء صاحبي فأجبته إلى ما أراد ونعمنا في طريقنا إلى القرية بسكون الليل وفتنة القمر ما شاء الله أن ننعم. ثم أراد صاحبي أن نسلك في عودتنا طريقاً أخرى. . .
- وماذا نبغي من هذه الطريق؟
- لنمر بمقابر هذه القرية لعلنا نجد الشيخ الكفيف المسلوب العقل في صحوة من صحواته هناك فأريك منظراً عجباً، وأحدثك حديثاً أعجب من العجب. . .
- شيخ كفيف مسلوب العقل يسكن هذه المقابر وهو حي؟
- أجل، وفي حفرة عميقة تشبه الجب لا يبرحها ليلاً أو نهاراً إلا إذا ثارت ثائرته فنهض منها ينفض عن بدنه وثيابه ترابها، ويمتشق عصاه فيلوَّح بها في الفضاء صائحاً:
كلاب! كلاب. . .
- وما شأن هذا الشيخ؟
- إن أكثر سكان الضاحية يعرفون خبره ومصرع ابنته فاطمة. إنهم يمرون به في طريقهم إلى السوق فيحسنون إليه بإلقاء بعض الطعام في حفرته دون أن يدنو منه أحد. إنه على ضعفه وكبر سنه وذهاب بصره وتخاذل قواه يفتك بمن يقترب منه. إنه يعاف ما يلقي إليه من الطعام فيظل أياماً لا يأكل منه شيئاً، كأنه يريد أن يعجّل في أجله فنأبى عليه الأقدار العاتية إلا أن يتعذب. . .
- وما خطبه صنع الله له؟
وكنا في مسيرنا قد أشرفنا على مقابر القرية، فبدت لأعيننا في وحشة الليل وجلال الصحراء كالأشباح المترامية بين الوهاد والآكام
لزم صاحبي الصمت، وسرت بجانبه مأخوذاً برهبة الموت، فلا هو استطاع أن يسترسل في حديثه عن الشيخ ولا أنا أصررت على أن يجيب
وكنا كلما اقتربنا من هذه المقابر الجاثمة في الفضاء زادت وحشتنا من سكون الليل الرهيب
- 2 -
الآن نحن على حافة الحفرة العميقة التي اتخذها شيخنا المسكين مقراً، وهاهو ذا ملقى على ترابها في ثيابه المهلهلة بغير غطاء، وتلك عصاه التي حدثني عنها صاحبي يقبض الشيخ عليها وهو في غفوته ساكن لا يتحرك، وتلك أنفسه المتقطعة كأنها حشرجة الموت لا نسمع سواها في وحشة الليل وسكونه
إنه الآن يتململ في ضجته، لقد أيقظه السعال!! - ما أشد وقع هذه اللحظات الرهيبة على نفسي - هاهو ذا يئن متهالكاً على نفسه. . . إنه يعتمد على عصاه فيقف وكأنه ميت قام يجرجر أكفانه. . . وهاهو ذا يتحسس الطريق إلى الأرض المستوية
. . . إنه يمد عنقه، ويتسمع بأذنه، ويتشمم الهواء. كأنه أحس أنفاساً غريبة في جو المقبرة. وهاهو يتمتم بكلمات متقطعة
لقد ابتعدنا عن حافة حفرته حين صعد إلى الأرض المستوية. لكنني غالبت الخوف والرهبة فبقيت على مقربة منه أنظر إلى وجهه على ضوء القمر الساطع. . .
ما أروع هذا الوجه وما أحفله بالأسرار والمعاني. عينان أطفأ نورهما فعل السنين وجبين خطت فيه الشيخوخة سطوراً متعرجة من الغضون والتجاعيد، وأنف أشم أقنى، ورأس ضخم جلله المشيب، وجسم ناحل ضامر
وقف يجمجم بكلمات لا تبين، ثم لم لبث على هذا الحال كثيراً، وكأن قوة عاتية سرت في خذا الجسم النحيل الذاوي، فانتفض كالأسد الهصور يلوح بعصاه ويعدو في الفضاء
كان المسكين يحارب الهواء، وينازل الأصداء، وكنت في هذه اللحظة أحبس أنفاسي، وأتحاشى مواضع جولاته ومطارح عصاه. وكان في هذه الثورة الجارفة يكرر كلمة واحدة بصوت قاصف كالرعد: كلاب!! كلاب. .
ثم خارت قواه وانطفأت جذوة غضبه فراح يتهالك على نفسه ويجر قدميه يتمس مكان الحفرة التي صعد منها، وما زال كذلك حتى أحست إحدى قدميه مكانها فألقى بنفسه فيها فإذا هو جاثم كما يجثم العقاب الهرم لا حركة ولا نأمة
ودنا مني صاحبي - وكنت أستند إلى جدار مقبرة نائية كالمسحور لا أقوى على الحركة أو الكلام - فاجتذبني من يدي لنواصل السير، فمشيت بجانبه مأخوذاً من هول ما رأيت ذاهلاً عن كل شيء. وما زلنا حتى ابتعدنا عن هذه المقبرة وجوِّها المفزع لرهيب، ثم بدأ صاحبي يقول:
- يوم رأيت هذا الشيخ أول مرة تولاني من الفزع مثل ما تولاك. أما اليوم فقد ألفت مرآه، وإن كنت لا أزال أرثى لحاله وأجزع عليه أشد الجزع كلما تذكرت مأساته الدامية. .
- وهل للمسكين مأساة غير ذهاب بصره وعقله وارتمائه في هذه الحفرة بين الأموات؟
- إن هذه الحال الأليمة التي شاهدتها إنهما هي آخر مأساته. أما أولها فهو آلم وأوجع مما شاهدت. . .
- 3 -
. . . ومضى صاحبي يتحدث عن هذا الشيخ فقال:
كان المسكين وجيهاً في قومه وأحد أغنياء قريته، مرموقاً بين أهلها بالتجلة والاحترام، واستنار في صباه بما قرأ من كتب الأقدمين والمحدثين، واستطاع بما وهبه الله من بصيرة نِّيرة وإحساس مرهف مشبوب أن يدرك مقدار ما يعاني فقراء قريته وعمالها المكدودون، وأرَّقه همُّ التفكير في شأن هؤلاء المساكين وما يعانون من ظلم الأغنياء وتحجر قلوبهم، فوهب حياته وماله في سبيل نصرتهم وحثهم على إدراك ما لهم في أعناق أولئك العتاة من ذوي النعمة واليسار، فراح يجمعهم حوله وينادي فيهم بمبادئه السامية. وكان عمدة القرية رجلاً عاتياً ظالماً فجمع لمحاربته كل قواه، وأخذ يكيد له من الجهر والخفاء ويوقع به في كل فرصة. وما زال الرجل يتلقى ضربات هذا الطاغية فيصمد لها مرة ينهزم أخرى حتى أوشك ماله أن ينفذ
وظل المسكين يجالد الأيام ويناضل العتاة من أهل قريته، وينفق من صبابة ماله على مواساة ذوي الحاجة والمعوزين حتى نضب معين ثروته فتنكرت له القرية بأسرها، وشمت به أعداؤه، ونفر من حوله أنصاره الذين أنفق في سبيلهم ماله وشبابه وجاهه. واسترسل عمدة القرية في النكاية به فألب عليه هؤلاء الأنصار الذين نعموا بثروته، واستناروا بآرائه، وجرَّد منهم جيشاً للتنكيل به وإيذائه
وأصبح المسكين؛ فإذا هو في القرية البائس اليائس الذي لا يملك من حطام دنياه غير دار صغيرة لا يفي ثمنها بما هي مثقلة به من الديون
وفي ذات مساء جلس الرجل في داره حزيناً كئيباً يتحدث إلى زوجه الوفية الحنون وينفض بين يديها جملة حاله، وقد جدعت الحاجة أنف العزة، فكاشفها بما آل إليه أمره، وكان يخفي عنها كثيراً مما أصابه من الخيبة والفشل. . .
ورأى آخر الأمر أن يرحل عن قريته تحت ستار الليل تاركاً داره دون أن يشعر بهجرته أحد، واستقر رأيه على أن بصحب زوجه وابنته فاطمة التي كان قد رزق بها في آخر أيامه
وكانت الأيام قد غالته في بصره، فأصبح كفيفاً يدب على عصاه، وتألبت عليه الكوارث، فألحت علة الصدر على زوجه لوفيه، وأعوزه المال، فلم يجد منه ثمن الدواء!
خرج المسكين في جنح الظلام يحمل بعض الثياب والزاد. . . وخرجت معه زوجه تقوده إلى ظاهر القرية، وابنته الصغيرة تدرج إلى جواره، وهي لا تعرف من شأن هجرة أبيها وأمها شيئاً
وكان قد أجمع الرأي على أن يقصد العاصمة علة بحد بين أغنياءها محسناً كريماً يدفع عنه غائلة الحاجة فيمد إليه يد الرحمة بقية أيامه
وليست العاصمة بقريبة من قريته، فالشقة بعيدة والزاد قليل والبرد قارص، وزوجه المريضة يتولاها السعال، وتقسو عليها علة الصدر. كلما جد بهم السير. . .
لكن الشيخ إبراهيم مجاهد - وهذا اسمه - رجل غالب الأيام وصبر على أذاها، فهو لا يزال رغم ذهاب بصره وماله وشبابه الرجل القوي الشكيمة، وقد أراد أن يصل إلى العاصمة، فلا بد أن يصل. . .
ورأى الشيخ إبراهيم أن يجعل مسيره ليلاً ليتقي بالمسير غائلة البرد، ولكيلا يراه سكان القرى القريبة في غدوهم ورواحهم نهاراً، فظل يسير الليل ويستريح النهار حتى صار قريباً من العاصمة. . .
لكن العلة كانت قد اشتدت وطأتها على زوجه، وأنهك السير وحيدته لطفلة، وهو لا يزال - مع ذلك - يسكب في آذانهما كلماته العذبة الرقيقة يغريهما باقتراب العاصمة ويمنيهما بالراحة الدائمة في كنف المحسنين من سكانها العظماء!!
وكان قارص البرد يوغل في القسوة والشدة يوماً بعد يوم، واحتمال الزوج المريضة والطفلة الناعمة ينفد يوماً بعد يوم. . .
- 4 -
في ليلة من تلك الليالي الجاهدة كان الشيخ إبراهيم وزوجه ووحيدته قد أشرفوا على قرية من قرى القليوبية. وكان السائر في طريق تلك القرية يرمي في هجعة الليل وإغفاءة الفجر ثلاثة أشباح تترنح في الظلام الدامس من فرط الإعياء والجوع والبرد. أولئك هم التعساء الثلاثة في طريقهم إلى القرية
وقال الشيخ لزوجه: اسمعي يا عائشة!! هذا صوت المؤذن يجلجل: الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أن الفجر يوشك أن ينبثق. سنصل إلى هذا المسجد القريب فأدرك الصلاة الصبح، وهناك نحتمي من هذا المطر المنهمر وننعم بدفء الشمس في الصباح هيا يا عائشة انهضي، اعتمدي علي منكبي فقد أوشكنا أن ندرك الغاية. .
وكانت المسكينة قد أخذتها نوبة السعال، والمطر ينهمر، والرعد يقصف، والسماء غاضبة، والليل موحش. وتهالكت على نفسها فنهضت تخفي بين جوانحها ما تعاني من ألم وضعف وتخاذل ومشت إلى جواره خطوات، ثم اشتدت عليها وطأة الداء، وأعياها المسير فسقطت تحت أقدام زوجها الضرير وظلت تئن وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. والزوج يتحسس مكانها ولا يراها، ويتشمم أنفاسها الخافتة، ويتسمع دقات قلبها الموجع. . .
وفي هذه اللحظات الرهيبة دوَّي صوت المؤذن مرة أخرى: (الله أكبر. الله أكبر) وكانت الزوج قد لفظت آخر أنفاسها وأصبحت جثة ملقاة في وحل الطريق، طريق العاصمة. . .
وأدرك الشيخ أن زوجه قد ماتت فألهبت الفجيعة رأسه وراح يتخبط كالمجنون، ويصيح فتذهب صيحاته في سكون الليل بدداً. . .
وكان المؤذن لا يزال يدعو الناس إلى الصلاة فاختلط صوته بصوت ذلك المفجوع الذي وقف في الطريق يدعو الناس إلى عونه في مصابه
وظل الشيخ الضرير يتشمم جثة زوجه الوفية ويبلل وجهها بدموعه. أما وحيدته فاطمة فقد كان منظرها في سواد الليل وإلى جوار جثة أمها تصطك أسنانها من شدة البرد وتبكي من ذوب قلبها دموعاً - منظراً يذيب قلب الحجر. . .
. . . ثم مضى الليل! فوا رحمتاه! كيف مضى؟!
وكان الصباح. . .
وبكر فلاحو القرية بالماشية إلى مزارعهم، وانتشروا على ظاهر الطريق يتلاقون على تحية الصباح، ثم رأوا ذلك الشيخ الضرير يحنو على جثة زوجه، ورأوا وحيدته الطفلة وقد ارتمت في أحضان أمها خائرة تبكي وتئن واجتمع أهل القرية على فعل الخير فأعانوا هذا الضرير المرتحل فواروا جثة زوجه التراب. وظل الشيخ مع ابنته في مقبرة القرية أياماً طوالاً لا يبرحها ولا يكف عن النحيب، ووجد زاده من جود أهل القرية، فكانوا يمدون إليه يد الإحسان يوماً بعد يوم
ثم رأى الشيخ أن يرحل عن المقبرة إشفاقاً على وحيدته الطفلة، وأن يمضي بها إلى غايته، فقد أصبح على مقربة من العاصمة. . . فليعش من أجل هذه الطفلة الغريرة، وليجد لها سبيل العيش في كنف رحيم من ذوي اليسار هناك
- 5 -
وصل الشيخ إلى ضاحيتنا على حافة الصحراء، واقترب من المدينة الآهلة بذوي البر والثراء وأصبحت منه على بضعة كيلو مترات، وجلس يستريح من وعثاء الطريق، وراحت ابنته تلعب من حوله وتطفر في دفء الشمس لاهية
ونظرت الطفلة فرأت قصراً كبيراً تحيط به حديقة غناء ذات سور من القضبان الحديدية، وكان أبوها قد أحس ببعض الراحة وبعض الدفء فأغفى إغفاءة المتعب المكدود، وعدّت الطفلة نحو سور القصر تنظر من بين قضبانه لترى أشياء وأشياء لم تكن رأت مثلها من قبل، وأطلت على الحديقة، فلم يكد نظرها يقع على ما في ادخلها حتى عادت إلي أبيها تعدو فأيقظته - وقد راعها ما رأت - ثم راحت الكلمات تتناثر من فمها الصغير في غير ترتيب
- قم يا أبي، قم ولا تنم، تعال انظر ما في هذه الحديقة، وكأن المسكينة نسيت أن أباها لا يستطيع أن ينظر. . . تعال يا أبي لأريك دنيا غير دنيانا. نظرت هنا يا ألبي من بين القضبان في حديقة هذا الدار الكبيرة فرأيت الأرض كلها مفروشة بشيء أخضر يشبه الزرع الذي نزرعه في بلادنا، لكنه ناعم ملتصق كله بالأرض، ورأيت الأرض التي يمشي عليها الناس مفروشة بشيء أصفر يشبه الدقيق لكن الدقيق أبيض، ورأيت رجالاً كثيرين يذهبون إلى آخر الحديقة من الجهة الأخرى ويفتحون أبواباًُ صغيرة فتخرج منها كلاب تجري في الحديقة. . . أي والله إنها كلاب يا أبي تشبه كلاب بلدنا، إنها كثيرة جداً أكثر من كلاب بلدنا جميعها؛ إن الناس هنا يا أبي يلبسون الكلاب ثياباً خضراً من القطيفة كالتي كنت ألبسها وأنا صغيرة ويصغون في رقابها أطواقاً تلمع مثل الذهب كالتي كانت أمي تلبسها في رقبتها. إنها كثيرة جداً يا ألي، إنها كلاب حقيقية، لقد سمعتها تنبح مثل كلابنا تماماً. تعال يا أبي نطلب من هؤلاء الرجال طعاماً من الذي وضعوه الآن لهذه الكلاب، إنني رأيتهم يحملون آنية كبيرة وفيها الثريد وعليها الحم ودخان الثريد يتصاعد في الفضا، اللحم هنا يا أبي كثير جداً، لقد سممته بأنفي ورأيته بعيني. قم يا أبي، قم ولا تنم إن الدنيا هنا جميلة والأكل كثير. . .
تناثرت هذه الكلمات - في لهفة - من فم فاطمة الصغيرة وأطرق أبوها عند سماعها ما شاء الله أن يرق، ثم حاول أن يصرفها عن ذكر هذا الذي رأت بمختلف الأحاديث ووعدها أن يقوم بعد قليل ليحضر لها الطعام
أما هذا القصر فهو قصر (عظيم) من عظماء العاصمة بناه في ضاحيتنا النائية ليقضي به بعض أيام الشتاء. وقد ورث عن أبيه العظيم مالاً وعقاراً وضياعاً. وكان مما نزعت إليه نفسه أن ينتقي أكبر مجموعة من كلاب الصيد وكلاب الحراسة وكلاب الزينة فاجتمع لدينه منها ما يزيد على المائة. وقد عني ببناء أوْ جرة نظيفة مفروشة تأوي إليها هذه الكلاب، وجعل لها غذاء في اليوم خمسين أقة من اللحم!!!
ورأت فاطمة الصغيرة ما رأت - وكان الجوع والإعياء قد فعلا بها فعلهما - فعادت إلى أبيها - في براءة الطفولة الغريرة - تستحثه على النهوض ليطلب لها من خدام الكلاب لحماً وثريداً مما يحملون. . .
أما أبوها الضرير فقد ظل مكانه مطرقاً، وأما وحيدته الجائعة فلم يستقر لها من الجوع قرار. . .
- 6 -
تركت الطفلة أباها في إطراقته الحزينة، وتسللت من جانبه نحو سور الحديقة، وكان الحراس والخدم لا يزالون يحملون اللحم والثريد إلى الكلاب. . . وطغى الجوع على الإنسانة الصغيرة وسال لعابها، فاندفعت من بين القضبان دخل السور الحديد، وعدت إلى قصعة من القصاع، فمدَّت إليها يدها تأخذ قطعة من اللحم، ولم تكد الجائعة الضاوية تمد إلى الحم يدها، حتى أطبق عليها كاب ضار من كلاب الحراسة، فأعمل أنيابه الحادة في بطنها، فتفجر دمها الإنساني وخرجت أمعاؤها. . . ودّت في الفضاء صرخة واحدة وصلت إلى أذن أبيها الضرير، فعرف صوت وحيدته وأيقن أن مكروهاً أصابها، فنهض يعدو متخبطاً يسأل الغادين والرائحين عن مصدر الصوت، فلا يجيبه أحد. . .
كانت الصرخة التي دوّت في الفضاء صرخة واحدة، وكان الوالد الضرير يرقب صرخة أخرى. . . علَّه يهتدي لها إلى مكان ابنته. . . لكن الأقدار العاتية أبت عليه، حتى هذا الرجاء، فظل يعود هنا وهناك بقلب مفجوع وكبد تتمزع. . .
وكان مصرع الطفلة بين أنياب كلب العظيم الضاري قد أثار ضجة بين الحراس والخدم، وتسمع الوالد المفجوع إلى هذه الضجة فقصد إلى مكانها. . .
لكن الأسوار شاهقة منيعة!!. . .
صاح الرجل صيحات مدويّة جمعت الناس حوله. . . ثم راح يستنجد بهم أن يدلوه على مكان ابنته. . . وتطلَّع الناس إلى داخل الحديقة، فرأوا الطفلة ملقاة على الحشائش ينزف دمها، والخدم من حولها يتصايحون. . .
قال أحدهم:
- يجب أن نلقي بها خارج الأسوار قبل خروج الباشا حتى لا نتعرض لغضبه وعقابه، إنه سيوقع بنا العقاب لأننا غفلنا عن العناية بالكلاب وحراسة طعامها من أيدي المتسللين!
وقال أخر:
- يجب أن تبقى علّ الباشا يرق لحالها فيواسي أهلها المساكين. ثم قر الرأي بعد هذا الخلاف على أن يلقي بالطفلة خارج الأسوار. . .
وعرف الوالد الضرير مصرع وحيدته وراح يتشمم جثتها، ويذرف فوقها الدمع فيختلط بدمائها القانية
واجتمع أهل الضاحية فأعانوا الغريب المرتحل على مصابه. لكن الغريب المرتحل كان قد ذهب عقله. . فلم يدرك لصنيعهم معنى، ولم يعرف بعد ذلك شأن الدنيا إلا أن يتبع جثة فاطمة إلى المقبرة وأن يرتمي في تلك الحفرة العميقة بجوارها إلى آخر أيامه
وهو كما رأيت الليلة لم يبق على لسانه غير هذه الكلمة الواحدة يكررها ثم يكررها: كلاب!!! كلاب!. . . .
- 7 - كان البدر - أول الليل - يتألق في صفحة السماء، وكان إشراق الطبيعة في تلك الليلة يغري بالحركة والنشاط
ولم يكد صاحبي يحدثني ذلك الحديث الدامي خلال عودتنا إلى ضاحيتنا حتى تجاوبت أصداء الرياح في الأرجاء، وغام على البدر المتألق سحاب متكائف فزمجرت السماء، وانهمرت الأمطار، وصارت الطرقات مظلمة خرساء
وآويت إلى مضجعي مطرقاً حزيناً ثائر النفس مضطرم الجوانح أرقب طلائع الصباح!. . .
عبد الله حبيب
مجلة الرسالة - العدد 353
بتاريخ: 08 - 04 - 1940
الهرم، وإلى وحيدته فاطمة الراقدة تحت أطباق الثرى، وإلى
هذه الكلاب التي ترفل في نعيم الدنيا، وإلى الصعاليك من بني
آدم أهدي هذه القصة)
ع. ح
- 1 -
كان البدر يتألق في صفحة السماء، وكان الليل مشرق الجبين فتهلل وجه الطبيعة، وانقشعت غياهب يومنا العابس المطير
وكأن صحو هذه الليلة ولإشراقها قد أشاعا الدفء في الأرجاء فنسينا أننا في ليلة من ليالي الشتاء
وكنت مع صاحبي ليلتئذ - في داري التي اخترتها لسكناي بالضاحية النائية على حافة الصحراء - نطوف بالذكريات في ركب الأيام ومواكب الأعوام، وطال بنا الجلوس فمللنا البقاء وهممنا بالخروج ننشق نسيم هذه الليلة التي تشبه ليالي الربيع، وكنا نسير إلى غير قصد معلوم
قال لي صاحبي:
- ألك في رحلة قصيرة نجتاز بها هذا الجانب من الصحراء إلى تلك القرية الصغيرة عل سيرة ربع ساعة ننعم في خلالها بالبدر يسطع فوق رمالها البيضاء، وبالليل نبدد سكونه بما يحضرنا من حديث؟
وكان تألق البدر في الصحراء يغري بالمضي إلى حيث شاء صاحبي فأجبته إلى ما أراد ونعمنا في طريقنا إلى القرية بسكون الليل وفتنة القمر ما شاء الله أن ننعم. ثم أراد صاحبي أن نسلك في عودتنا طريقاً أخرى. . .
- وماذا نبغي من هذه الطريق؟
- لنمر بمقابر هذه القرية لعلنا نجد الشيخ الكفيف المسلوب العقل في صحوة من صحواته هناك فأريك منظراً عجباً، وأحدثك حديثاً أعجب من العجب. . .
- شيخ كفيف مسلوب العقل يسكن هذه المقابر وهو حي؟
- أجل، وفي حفرة عميقة تشبه الجب لا يبرحها ليلاً أو نهاراً إلا إذا ثارت ثائرته فنهض منها ينفض عن بدنه وثيابه ترابها، ويمتشق عصاه فيلوَّح بها في الفضاء صائحاً:
كلاب! كلاب. . .
- وما شأن هذا الشيخ؟
- إن أكثر سكان الضاحية يعرفون خبره ومصرع ابنته فاطمة. إنهم يمرون به في طريقهم إلى السوق فيحسنون إليه بإلقاء بعض الطعام في حفرته دون أن يدنو منه أحد. إنه على ضعفه وكبر سنه وذهاب بصره وتخاذل قواه يفتك بمن يقترب منه. إنه يعاف ما يلقي إليه من الطعام فيظل أياماً لا يأكل منه شيئاً، كأنه يريد أن يعجّل في أجله فنأبى عليه الأقدار العاتية إلا أن يتعذب. . .
- وما خطبه صنع الله له؟
وكنا في مسيرنا قد أشرفنا على مقابر القرية، فبدت لأعيننا في وحشة الليل وجلال الصحراء كالأشباح المترامية بين الوهاد والآكام
لزم صاحبي الصمت، وسرت بجانبه مأخوذاً برهبة الموت، فلا هو استطاع أن يسترسل في حديثه عن الشيخ ولا أنا أصررت على أن يجيب
وكنا كلما اقتربنا من هذه المقابر الجاثمة في الفضاء زادت وحشتنا من سكون الليل الرهيب
- 2 -
الآن نحن على حافة الحفرة العميقة التي اتخذها شيخنا المسكين مقراً، وهاهو ذا ملقى على ترابها في ثيابه المهلهلة بغير غطاء، وتلك عصاه التي حدثني عنها صاحبي يقبض الشيخ عليها وهو في غفوته ساكن لا يتحرك، وتلك أنفسه المتقطعة كأنها حشرجة الموت لا نسمع سواها في وحشة الليل وسكونه
إنه الآن يتململ في ضجته، لقد أيقظه السعال!! - ما أشد وقع هذه اللحظات الرهيبة على نفسي - هاهو ذا يئن متهالكاً على نفسه. . . إنه يعتمد على عصاه فيقف وكأنه ميت قام يجرجر أكفانه. . . وهاهو ذا يتحسس الطريق إلى الأرض المستوية
. . . إنه يمد عنقه، ويتسمع بأذنه، ويتشمم الهواء. كأنه أحس أنفاساً غريبة في جو المقبرة. وهاهو يتمتم بكلمات متقطعة
لقد ابتعدنا عن حافة حفرته حين صعد إلى الأرض المستوية. لكنني غالبت الخوف والرهبة فبقيت على مقربة منه أنظر إلى وجهه على ضوء القمر الساطع. . .
ما أروع هذا الوجه وما أحفله بالأسرار والمعاني. عينان أطفأ نورهما فعل السنين وجبين خطت فيه الشيخوخة سطوراً متعرجة من الغضون والتجاعيد، وأنف أشم أقنى، ورأس ضخم جلله المشيب، وجسم ناحل ضامر
وقف يجمجم بكلمات لا تبين، ثم لم لبث على هذا الحال كثيراً، وكأن قوة عاتية سرت في خذا الجسم النحيل الذاوي، فانتفض كالأسد الهصور يلوح بعصاه ويعدو في الفضاء
كان المسكين يحارب الهواء، وينازل الأصداء، وكنت في هذه اللحظة أحبس أنفاسي، وأتحاشى مواضع جولاته ومطارح عصاه. وكان في هذه الثورة الجارفة يكرر كلمة واحدة بصوت قاصف كالرعد: كلاب!! كلاب. .
ثم خارت قواه وانطفأت جذوة غضبه فراح يتهالك على نفسه ويجر قدميه يتمس مكان الحفرة التي صعد منها، وما زال كذلك حتى أحست إحدى قدميه مكانها فألقى بنفسه فيها فإذا هو جاثم كما يجثم العقاب الهرم لا حركة ولا نأمة
ودنا مني صاحبي - وكنت أستند إلى جدار مقبرة نائية كالمسحور لا أقوى على الحركة أو الكلام - فاجتذبني من يدي لنواصل السير، فمشيت بجانبه مأخوذاً من هول ما رأيت ذاهلاً عن كل شيء. وما زلنا حتى ابتعدنا عن هذه المقبرة وجوِّها المفزع لرهيب، ثم بدأ صاحبي يقول:
- يوم رأيت هذا الشيخ أول مرة تولاني من الفزع مثل ما تولاك. أما اليوم فقد ألفت مرآه، وإن كنت لا أزال أرثى لحاله وأجزع عليه أشد الجزع كلما تذكرت مأساته الدامية. .
- وهل للمسكين مأساة غير ذهاب بصره وعقله وارتمائه في هذه الحفرة بين الأموات؟
- إن هذه الحال الأليمة التي شاهدتها إنهما هي آخر مأساته. أما أولها فهو آلم وأوجع مما شاهدت. . .
- 3 -
. . . ومضى صاحبي يتحدث عن هذا الشيخ فقال:
كان المسكين وجيهاً في قومه وأحد أغنياء قريته، مرموقاً بين أهلها بالتجلة والاحترام، واستنار في صباه بما قرأ من كتب الأقدمين والمحدثين، واستطاع بما وهبه الله من بصيرة نِّيرة وإحساس مرهف مشبوب أن يدرك مقدار ما يعاني فقراء قريته وعمالها المكدودون، وأرَّقه همُّ التفكير في شأن هؤلاء المساكين وما يعانون من ظلم الأغنياء وتحجر قلوبهم، فوهب حياته وماله في سبيل نصرتهم وحثهم على إدراك ما لهم في أعناق أولئك العتاة من ذوي النعمة واليسار، فراح يجمعهم حوله وينادي فيهم بمبادئه السامية. وكان عمدة القرية رجلاً عاتياً ظالماً فجمع لمحاربته كل قواه، وأخذ يكيد له من الجهر والخفاء ويوقع به في كل فرصة. وما زال الرجل يتلقى ضربات هذا الطاغية فيصمد لها مرة ينهزم أخرى حتى أوشك ماله أن ينفذ
وظل المسكين يجالد الأيام ويناضل العتاة من أهل قريته، وينفق من صبابة ماله على مواساة ذوي الحاجة والمعوزين حتى نضب معين ثروته فتنكرت له القرية بأسرها، وشمت به أعداؤه، ونفر من حوله أنصاره الذين أنفق في سبيلهم ماله وشبابه وجاهه. واسترسل عمدة القرية في النكاية به فألب عليه هؤلاء الأنصار الذين نعموا بثروته، واستناروا بآرائه، وجرَّد منهم جيشاً للتنكيل به وإيذائه
وأصبح المسكين؛ فإذا هو في القرية البائس اليائس الذي لا يملك من حطام دنياه غير دار صغيرة لا يفي ثمنها بما هي مثقلة به من الديون
وفي ذات مساء جلس الرجل في داره حزيناً كئيباً يتحدث إلى زوجه الوفية الحنون وينفض بين يديها جملة حاله، وقد جدعت الحاجة أنف العزة، فكاشفها بما آل إليه أمره، وكان يخفي عنها كثيراً مما أصابه من الخيبة والفشل. . .
ورأى آخر الأمر أن يرحل عن قريته تحت ستار الليل تاركاً داره دون أن يشعر بهجرته أحد، واستقر رأيه على أن بصحب زوجه وابنته فاطمة التي كان قد رزق بها في آخر أيامه
وكانت الأيام قد غالته في بصره، فأصبح كفيفاً يدب على عصاه، وتألبت عليه الكوارث، فألحت علة الصدر على زوجه لوفيه، وأعوزه المال، فلم يجد منه ثمن الدواء!
خرج المسكين في جنح الظلام يحمل بعض الثياب والزاد. . . وخرجت معه زوجه تقوده إلى ظاهر القرية، وابنته الصغيرة تدرج إلى جواره، وهي لا تعرف من شأن هجرة أبيها وأمها شيئاً
وكان قد أجمع الرأي على أن يقصد العاصمة علة بحد بين أغنياءها محسناً كريماً يدفع عنه غائلة الحاجة فيمد إليه يد الرحمة بقية أيامه
وليست العاصمة بقريبة من قريته، فالشقة بعيدة والزاد قليل والبرد قارص، وزوجه المريضة يتولاها السعال، وتقسو عليها علة الصدر. كلما جد بهم السير. . .
لكن الشيخ إبراهيم مجاهد - وهذا اسمه - رجل غالب الأيام وصبر على أذاها، فهو لا يزال رغم ذهاب بصره وماله وشبابه الرجل القوي الشكيمة، وقد أراد أن يصل إلى العاصمة، فلا بد أن يصل. . .
ورأى الشيخ إبراهيم أن يجعل مسيره ليلاً ليتقي بالمسير غائلة البرد، ولكيلا يراه سكان القرى القريبة في غدوهم ورواحهم نهاراً، فظل يسير الليل ويستريح النهار حتى صار قريباً من العاصمة. . .
لكن العلة كانت قد اشتدت وطأتها على زوجه، وأنهك السير وحيدته لطفلة، وهو لا يزال - مع ذلك - يسكب في آذانهما كلماته العذبة الرقيقة يغريهما باقتراب العاصمة ويمنيهما بالراحة الدائمة في كنف المحسنين من سكانها العظماء!!
وكان قارص البرد يوغل في القسوة والشدة يوماً بعد يوم، واحتمال الزوج المريضة والطفلة الناعمة ينفد يوماً بعد يوم. . .
- 4 -
في ليلة من تلك الليالي الجاهدة كان الشيخ إبراهيم وزوجه ووحيدته قد أشرفوا على قرية من قرى القليوبية. وكان السائر في طريق تلك القرية يرمي في هجعة الليل وإغفاءة الفجر ثلاثة أشباح تترنح في الظلام الدامس من فرط الإعياء والجوع والبرد. أولئك هم التعساء الثلاثة في طريقهم إلى القرية
وقال الشيخ لزوجه: اسمعي يا عائشة!! هذا صوت المؤذن يجلجل: الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أن الفجر يوشك أن ينبثق. سنصل إلى هذا المسجد القريب فأدرك الصلاة الصبح، وهناك نحتمي من هذا المطر المنهمر وننعم بدفء الشمس في الصباح هيا يا عائشة انهضي، اعتمدي علي منكبي فقد أوشكنا أن ندرك الغاية. .
وكانت المسكينة قد أخذتها نوبة السعال، والمطر ينهمر، والرعد يقصف، والسماء غاضبة، والليل موحش. وتهالكت على نفسها فنهضت تخفي بين جوانحها ما تعاني من ألم وضعف وتخاذل ومشت إلى جواره خطوات، ثم اشتدت عليها وطأة الداء، وأعياها المسير فسقطت تحت أقدام زوجها الضرير وظلت تئن وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. والزوج يتحسس مكانها ولا يراها، ويتشمم أنفاسها الخافتة، ويتسمع دقات قلبها الموجع. . .
وفي هذه اللحظات الرهيبة دوَّي صوت المؤذن مرة أخرى: (الله أكبر. الله أكبر) وكانت الزوج قد لفظت آخر أنفاسها وأصبحت جثة ملقاة في وحل الطريق، طريق العاصمة. . .
وأدرك الشيخ أن زوجه قد ماتت فألهبت الفجيعة رأسه وراح يتخبط كالمجنون، ويصيح فتذهب صيحاته في سكون الليل بدداً. . .
وكان المؤذن لا يزال يدعو الناس إلى الصلاة فاختلط صوته بصوت ذلك المفجوع الذي وقف في الطريق يدعو الناس إلى عونه في مصابه
وظل الشيخ الضرير يتشمم جثة زوجه الوفية ويبلل وجهها بدموعه. أما وحيدته فاطمة فقد كان منظرها في سواد الليل وإلى جوار جثة أمها تصطك أسنانها من شدة البرد وتبكي من ذوب قلبها دموعاً - منظراً يذيب قلب الحجر. . .
. . . ثم مضى الليل! فوا رحمتاه! كيف مضى؟!
وكان الصباح. . .
وبكر فلاحو القرية بالماشية إلى مزارعهم، وانتشروا على ظاهر الطريق يتلاقون على تحية الصباح، ثم رأوا ذلك الشيخ الضرير يحنو على جثة زوجه، ورأوا وحيدته الطفلة وقد ارتمت في أحضان أمها خائرة تبكي وتئن واجتمع أهل القرية على فعل الخير فأعانوا هذا الضرير المرتحل فواروا جثة زوجه التراب. وظل الشيخ مع ابنته في مقبرة القرية أياماً طوالاً لا يبرحها ولا يكف عن النحيب، ووجد زاده من جود أهل القرية، فكانوا يمدون إليه يد الإحسان يوماً بعد يوم
ثم رأى الشيخ أن يرحل عن المقبرة إشفاقاً على وحيدته الطفلة، وأن يمضي بها إلى غايته، فقد أصبح على مقربة من العاصمة. . . فليعش من أجل هذه الطفلة الغريرة، وليجد لها سبيل العيش في كنف رحيم من ذوي اليسار هناك
- 5 -
وصل الشيخ إلى ضاحيتنا على حافة الصحراء، واقترب من المدينة الآهلة بذوي البر والثراء وأصبحت منه على بضعة كيلو مترات، وجلس يستريح من وعثاء الطريق، وراحت ابنته تلعب من حوله وتطفر في دفء الشمس لاهية
ونظرت الطفلة فرأت قصراً كبيراً تحيط به حديقة غناء ذات سور من القضبان الحديدية، وكان أبوها قد أحس ببعض الراحة وبعض الدفء فأغفى إغفاءة المتعب المكدود، وعدّت الطفلة نحو سور القصر تنظر من بين قضبانه لترى أشياء وأشياء لم تكن رأت مثلها من قبل، وأطلت على الحديقة، فلم يكد نظرها يقع على ما في ادخلها حتى عادت إلي أبيها تعدو فأيقظته - وقد راعها ما رأت - ثم راحت الكلمات تتناثر من فمها الصغير في غير ترتيب
- قم يا أبي، قم ولا تنم، تعال انظر ما في هذه الحديقة، وكأن المسكينة نسيت أن أباها لا يستطيع أن ينظر. . . تعال يا أبي لأريك دنيا غير دنيانا. نظرت هنا يا ألبي من بين القضبان في حديقة هذا الدار الكبيرة فرأيت الأرض كلها مفروشة بشيء أخضر يشبه الزرع الذي نزرعه في بلادنا، لكنه ناعم ملتصق كله بالأرض، ورأيت الأرض التي يمشي عليها الناس مفروشة بشيء أصفر يشبه الدقيق لكن الدقيق أبيض، ورأيت رجالاً كثيرين يذهبون إلى آخر الحديقة من الجهة الأخرى ويفتحون أبواباًُ صغيرة فتخرج منها كلاب تجري في الحديقة. . . أي والله إنها كلاب يا أبي تشبه كلاب بلدنا، إنها كثيرة جداً أكثر من كلاب بلدنا جميعها؛ إن الناس هنا يا أبي يلبسون الكلاب ثياباً خضراً من القطيفة كالتي كنت ألبسها وأنا صغيرة ويصغون في رقابها أطواقاً تلمع مثل الذهب كالتي كانت أمي تلبسها في رقبتها. إنها كثيرة جداً يا ألي، إنها كلاب حقيقية، لقد سمعتها تنبح مثل كلابنا تماماً. تعال يا أبي نطلب من هؤلاء الرجال طعاماً من الذي وضعوه الآن لهذه الكلاب، إنني رأيتهم يحملون آنية كبيرة وفيها الثريد وعليها الحم ودخان الثريد يتصاعد في الفضا، اللحم هنا يا أبي كثير جداً، لقد سممته بأنفي ورأيته بعيني. قم يا أبي، قم ولا تنم إن الدنيا هنا جميلة والأكل كثير. . .
تناثرت هذه الكلمات - في لهفة - من فم فاطمة الصغيرة وأطرق أبوها عند سماعها ما شاء الله أن يرق، ثم حاول أن يصرفها عن ذكر هذا الذي رأت بمختلف الأحاديث ووعدها أن يقوم بعد قليل ليحضر لها الطعام
أما هذا القصر فهو قصر (عظيم) من عظماء العاصمة بناه في ضاحيتنا النائية ليقضي به بعض أيام الشتاء. وقد ورث عن أبيه العظيم مالاً وعقاراً وضياعاً. وكان مما نزعت إليه نفسه أن ينتقي أكبر مجموعة من كلاب الصيد وكلاب الحراسة وكلاب الزينة فاجتمع لدينه منها ما يزيد على المائة. وقد عني ببناء أوْ جرة نظيفة مفروشة تأوي إليها هذه الكلاب، وجعل لها غذاء في اليوم خمسين أقة من اللحم!!!
ورأت فاطمة الصغيرة ما رأت - وكان الجوع والإعياء قد فعلا بها فعلهما - فعادت إلى أبيها - في براءة الطفولة الغريرة - تستحثه على النهوض ليطلب لها من خدام الكلاب لحماً وثريداً مما يحملون. . .
أما أبوها الضرير فقد ظل مكانه مطرقاً، وأما وحيدته الجائعة فلم يستقر لها من الجوع قرار. . .
- 6 -
تركت الطفلة أباها في إطراقته الحزينة، وتسللت من جانبه نحو سور الحديقة، وكان الحراس والخدم لا يزالون يحملون اللحم والثريد إلى الكلاب. . . وطغى الجوع على الإنسانة الصغيرة وسال لعابها، فاندفعت من بين القضبان دخل السور الحديد، وعدت إلى قصعة من القصاع، فمدَّت إليها يدها تأخذ قطعة من اللحم، ولم تكد الجائعة الضاوية تمد إلى الحم يدها، حتى أطبق عليها كاب ضار من كلاب الحراسة، فأعمل أنيابه الحادة في بطنها، فتفجر دمها الإنساني وخرجت أمعاؤها. . . ودّت في الفضاء صرخة واحدة وصلت إلى أذن أبيها الضرير، فعرف صوت وحيدته وأيقن أن مكروهاً أصابها، فنهض يعدو متخبطاً يسأل الغادين والرائحين عن مصدر الصوت، فلا يجيبه أحد. . .
كانت الصرخة التي دوّت في الفضاء صرخة واحدة، وكان الوالد الضرير يرقب صرخة أخرى. . . علَّه يهتدي لها إلى مكان ابنته. . . لكن الأقدار العاتية أبت عليه، حتى هذا الرجاء، فظل يعود هنا وهناك بقلب مفجوع وكبد تتمزع. . .
وكان مصرع الطفلة بين أنياب كلب العظيم الضاري قد أثار ضجة بين الحراس والخدم، وتسمع الوالد المفجوع إلى هذه الضجة فقصد إلى مكانها. . .
لكن الأسوار شاهقة منيعة!!. . .
صاح الرجل صيحات مدويّة جمعت الناس حوله. . . ثم راح يستنجد بهم أن يدلوه على مكان ابنته. . . وتطلَّع الناس إلى داخل الحديقة، فرأوا الطفلة ملقاة على الحشائش ينزف دمها، والخدم من حولها يتصايحون. . .
قال أحدهم:
- يجب أن نلقي بها خارج الأسوار قبل خروج الباشا حتى لا نتعرض لغضبه وعقابه، إنه سيوقع بنا العقاب لأننا غفلنا عن العناية بالكلاب وحراسة طعامها من أيدي المتسللين!
وقال أخر:
- يجب أن تبقى علّ الباشا يرق لحالها فيواسي أهلها المساكين. ثم قر الرأي بعد هذا الخلاف على أن يلقي بالطفلة خارج الأسوار. . .
وعرف الوالد الضرير مصرع وحيدته وراح يتشمم جثتها، ويذرف فوقها الدمع فيختلط بدمائها القانية
واجتمع أهل الضاحية فأعانوا الغريب المرتحل على مصابه. لكن الغريب المرتحل كان قد ذهب عقله. . فلم يدرك لصنيعهم معنى، ولم يعرف بعد ذلك شأن الدنيا إلا أن يتبع جثة فاطمة إلى المقبرة وأن يرتمي في تلك الحفرة العميقة بجوارها إلى آخر أيامه
وهو كما رأيت الليلة لم يبق على لسانه غير هذه الكلمة الواحدة يكررها ثم يكررها: كلاب!!! كلاب!. . . .
- 7 - كان البدر - أول الليل - يتألق في صفحة السماء، وكان إشراق الطبيعة في تلك الليلة يغري بالحركة والنشاط
ولم يكد صاحبي يحدثني ذلك الحديث الدامي خلال عودتنا إلى ضاحيتنا حتى تجاوبت أصداء الرياح في الأرجاء، وغام على البدر المتألق سحاب متكائف فزمجرت السماء، وانهمرت الأمطار، وصارت الطرقات مظلمة خرساء
وآويت إلى مضجعي مطرقاً حزيناً ثائر النفس مضطرم الجوانح أرقب طلائع الصباح!. . .
عبد الله حبيب
مجلة الرسالة - العدد 353
بتاريخ: 08 - 04 - 1940