دلور ميقري - مَراكش... واحَة المسرّة

"مَراكش؛ ساحَة الحُبّ
مَراكش؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
غلَسُ الليل، الأدكن، يتحوّلُ في"ساحة الفناء" ألواناً مونقة ـ كأزهار تعريشة البوغنفيلا (المجنونة)، الموزعة بين الأحمر والأصفر والأبيض والنهدي والتركوازي؛ هذه الناشرة حسنها في كلّ زاوية من المدينة. الساحة عرسٌ مستمرّ، أزليّ وأبديّ. عُمْر المسرّة هنا من عمر "مراكش"، الألفيّة الأعوام. كلّ الجهات تؤدي إلى واحة المسرّة هذه، التي كانت في مبتدأ خبرها مجرّد واحة نخيل، منزوية بوداعة ـ وليس بدون قلق ـ على طرف البيداء : إلى أسواقها، العامرة، المفتوحة المداخل على المكان المُبارك بحظوة الجامع الأكبر، يأتي أهلُ الجنوب بالزرابي، المُصنعة بدقة ومهارة نسائهم؛ من النمارق والبسط والأنماط.. إلى ميدانها هذا، يَقدِمُ بربرُ المشرق صحبَة أغانيهم ومعازفهم الموسيقية، الفريدة.. إلى هنا، أيضاً، يحط الصحراويون مع أمتعتهم وتجارتهم، في طريقهم لـ "سوق الجمال"، الكائن خارج المدينة والمُعدّ الأهمّ على مستوى القارة السمراء.. إلى نجمة عاصمة "لموحدين"، الألِقة، التي تسمو بمنارتها الأكثر شهرة، يزحف السياحُ من جوانب الأرض، المختلفة، توقاً لإجتلاء أعاجيب موجوداتها ومغامض كائناتها : بدوري، كان لا بدّ أن أخوضَ كذلك في ليل المدينة، المُهراق نبيذه أقداحاً نجوماً؛ أن أخوضه لبرهةٍ برفقة القمر الصديق، ثمّ وحيداً في آخر الأمر.
لعربة quot; الحنطور quot; تسْرَجُ اللواحظ الحُوْرُ، المكحولة بإثمد العتمة. البهجة المراكشية، تكاد لا تكتمل دونما جولة في هذه العربة، الكلاسيكية، المنذورة لساعة من الزمن بخبب جيادها وتلويحة سوط سائقها وتنهدات العشاق من راكبيها. مساومة السائس، للحقيقة، كانت لهدفٍ خفيّ، تنأينَ عن النقود ولجاجتها : كان في وارد التفكير الإبتعاد، قدر المستطاع، عن الأماكن المأهولة ومرتاديها الفضوليين. فكلّ بقعةٍ في هذه المدينة عينٌ مفتوحة على الغريب، تحاصِرُ إنفراده بمن يُحبّ مضيّقة ًعلى الأنفاس والهمسات سواءً بسواء. منذ البدء يجدر بي التنويه، إلى أن هيئتي ـ وربما سحنتي أيضاً؟ ـ قد إستفزّت العابرين أحياناً؛ بما أوحته بشبهٍ أفرنجيّ (أو"كَاوريْ " بالمحكية المغربية : وهيَ كلمة ـ ويا للعجب! ـ نستعملها نحن الكرد أيضاً للدلالة على النصرانيّ). إنها صحبة مستنكرة، إذاً، من لدن الدهماء أولئك؛ تماماً كما هوَ حال السماح للأوربيين بتملك الدور التقليدية، الرفيعة (الرياض)، وتحويلها إلى نزل أو غاليريات. ولكنّ خيول عربتنا، التي تجهلُ إعتباراتٍ كهذه، تمضي بنا في الدرب، الرخيّ، سعيدة ومطمئنة. من جهتي، ومذ لحظة إمتطائي العربة، مُردفاً على المقعد الفاره، القائم خلف مجلس السائس مباشرة ً، خامَرَ نفسي شعورٌ غريبٌ؛ فرأيتني أشبَهَ بالساري في منام عذب، لا نهاية له.
ـ "المغرب جنة للسيّاح، لا لأهله!ّ
قالها أحدُ الفتية بسخرية مريرة، مُعقباً على تأكيدي بأنّ هذه البلاد مثل فردوس، أرضيّ. كان الشابّ واحداً من كثيرين أمثاله، رأوا أنفسهم على قارعة درب البطالة بعيد إتمام الدراسة الجامعية. كلماته المؤسية، التي سمعتها قبلئذٍ في "ساحة الفناء"، إستعدتها حينما كنتُ على الطريق الأنيق، الموصل مركز المدينة القديمة بحيّ "گيليز"، الراقي، المتميز بالحضور الأوروبيّ، الغالب على قاطنيه. ينسابُ الحنطورُ هنا خلل شوارع جميلة، منارة بمصابيح مزخرفة، تترامى على حدّ أرصفتها العمارات الرحبة والفيلات الفخمة، علاوة على المحلات التجارية، الحديثة، الموشاة واجهاتها بالإعلانات الإستهلاكية، المستوردة. وها هوَ إعلانٌ من نوع آخر، يحملُ إسماً أسمى وأرفع "شارع محمد الخامس". كلّ شيء يُرحّب بالعابر في حفاوة؛ من الأنوار الساطعة إلى النافورات الرائعة، الموفورة المياه، والمتسلسلة الواحدة بإثر الاخرى على طول الطوار الطويل، الذي يتوسّط هذا الشارع المُعتبَر، الملوكيّ. ثمّ تتهادى العربة، أخيراً، في إيابها نحوَ أسوار المدينة القديمة، المنتصبة بأنفة وجلال. أتأملُ هذه المعالم الآبدة، المبنية من مادة اللبن، المتوهّجة حُمْرَة، والمُحتفظة برونقها رغم القرون الطويلة، الماضية، الحافلة بالكوارث التاريخية والطبيعية. وأعتقدُ، على رأيٍ شخصيّ، أنّ أسوارَ "مراكشّ" لا مثيل لها في معمورتنا؛ لجهة تزاوج القِدَم والجدّة في بنيانها، وكذلك لإمتدادها البالغ الطول، المطوّق المدينة القديمة بأسرها.
ـ "إنه باب أغمات"
يخاطبني سائقُ سيارة الأجرة مُشيراً نحوَ ذلك المبسَم الواسع، المنبثق من السور، والذي إجتزناه تواً. أتبسّم عندئذٍ في سرّي؛ ما دامَ الرجل لا يعلمُ أنني قادمٌ مباشرة ً من تلك الجهة، المُنارة بالقمر المُحاق، المُكتمل الصورة. ولكنني بدوري، ما كنتُ أعلم أنّ هذه الليلة، المُحاذية منتصفها، ستشهدُ تيهي في أزقة "باب دُكالة"، الذي يضمّ بأحد دروبه ذلك النزل (الرياض)؛ أين أحلّ مُستأجراً. في طلبي للسائق أن يمضي بي إلى "ساحة الفناء" بدلاً عن الرياض، كنتُ أتوسّمُ تمضية سويعة من الزمن تبديداً للضيق المُعتلج بصدري، إثرَ مفارقة الصحبَة الحبيبَة. هناك، كانت حشودُ البشر، المتدفقة للمكان دونما تمهّل أو إعتبار للوقت المُتأخر، تنبي عن خلود المسرّة في هذه المدينة، الفاتنة. الأنغامُ المُدندنة، المهيمنة على الأجواء جميعاً، هيَ الدليلُ إلى الساحة الكبرى، الحافلة بالغرائب؛ فلنمض إذاً إلى الجهة تلك!
هنا في الساحة، كانت عشراتُ الحلقات تستقطِبُ النظارة من سيّاح وأهلين، فتوزعهم بقليل من العدل بين ممتهني الطرَب والرقص والقول والتهريج والسّحر وغيرهم : القوّال، العجوز، ذو السحنة الغابرة والغامضة، كان مقتعداً الأرض مع عدد من العازفين غلى الأدوات الموسيقية، الكلاسيكية. إنه يجمَعُ إلى حكاياته المطوّلة، الفلكلورية، جمهوراً من الناس الواجمين، الذاهلين كليّة، المسحورين بوقع كلماته. لحظتُ أنهم طفقوا على حالهم هكذا لبرهةٍ مديدة، فلم يستفيقوا إلا حينما صرخ بهم المُنشِدُ على حين فجأةٍ بمفردةٍ ما، حماسية، لم تلبث أن أصدَتْ فيهم سيلاً من مفردات الإستحسان والتشجيع. ولصعوبة فهمي لهجته المحلية، أغادرُ هذا القوّالَ (الشبيه بحكواتي بلاد الشام) بإتجاه إحدى الفرق الموسيقية، الأمازيغية، التي تلمّ حولها المريدين التائقين للكلمة المُطربَة واللحن البديع. كان أفراد الفرقة شباناً بمقتبل العمر، يتنكّبُ كلّ منهم أداته الموسيقية، الخاصّة به؛ سواءً التقليدية ـ كالطبل أو الدربكة أو الناي أو الصنج أو المزهر، أم الحديثة ـ كالغيتار أو الكمان أو الجاز. وأجزمُ هنا، أنه من كلماتٍ ـ مهما أوتيتْ من حظ التعبير ـ لقادرة على وصف مشاعر المرء، المُنصِتِ لهذه الألحان الشجية والأصوات العذبة، القادمة مُحَلِقة ً من أعالي جبال "الأطلس" الحالقة، الأسطورية. بيْدَ أنني، هنا أيضاً، سأحملُ نفسي على مغادرة هذا المكان البهيج؛ ولسببٍ لا يمتّ لإختلاف اللهجة، بل لطبعي الخجول نوعاً : فبحسب العادة، الطريفة، المتأثلة مسلك الفرق الشعبية، أنّ على أحد شبابها أن يقطع وصلة الغناء بين حين وآخر، داعياً بلطف دراهمَ الجمهور الزهيدة إلى التهاطل في قبعته. أما وأنّ المبلغ الذي رميته ثمة، قد وجده ذلك الشاب سخياً، فإذا به يلتفتُ مُشيراً نحوي بصوت مسموع على الملأ، مع سيل من مفردات الشكر، إختلط فيها الثناءُ بالدعاء. ولكنّ إعتيادي فيما بعد على حضور الوصلات المديدة، المُطربَة، لتلك الفرقة البربرية، جعل وجهي مألوفاً لدى أعضائها؛ فكنت ترى بعضهم أحياناً يتناهض مرحباً بي، حدّ أن يتخلى عن كرسيه لي.
منارة جامع "الكتبيّة"، السامقة، بمثابة رفيق للساري؛ مترصّدة خطوَهُ بعوذة عينيها الخضراوين، المُتألقتين. في إيابي للنزل، عليّ كان أن أمرّ أولاً على إحدى الدكاكين الصغيرة، الساهرة، كيما أطفيء ظمأي بزجاجة من المياه المعدنية، التي تحمل إسمَ عين مشهورة؛ "سيدي علي". أجدني من ثمّ أجتازُ تقاطع الطرق، المُفضي إلى الشارع المُكنى بإسم أكثرَ شهرة وقداسة؛ "فاطمة الزهراء"، يَمِتُّ للأسم الأول بقرابة النبوّة وآلها : ومن هذه السلالة، كما هو معروف، تتحدّر الأسرة العلوية، الحاكمة، في المغرب. وكان أحدُ الفتية، الذين إلتقيتهم ليلتئذٍ في الساحة بالقرب من الحلقة الموسيقية تلك، الأمازيغية، قد دخل معي في نقاش وديّ، مستطرف، حول ذلك الموضوع. "العلويون، في الأصل، هم بربر مهاجرون من الجزيرة العربية..!" أكّدَ لي هذا الشاب، الذي كان قد أنهى حديثاً دراسة الهندسة الكهربائية في "الدار البيضاء"؛ أو "كازا بلانكا"، بنعتها الأوروبيّ. هذه المدينة، الكبرى ـ التي يختصرون إسمها هنا ببساطة إلى"الكازا" ـ لكأنني كنتُ الليلة على موعدٍ معها : إذ سألتقي بعد قليل بفتى آخر من أبنائها، حينما كنتُ أخوضُ في متاهة الدروب العديدة، المُتشعبة، الكائنة في الجهة المقابلة لمقام "سيدي دُكالة".
وكانَ قد أُشكِلَ عليّ تماماً، أثناء وصولي حذاء المقام ذاك. فرأيتني أتابع طريقي بدلاً عن الإنعطاف يساراً، نحو الجادّة الضيقة، المُكتنفة ذلك الدرب الذي يضمّ بدوره نزلنا. لنصف ساعة، تقريباً، خضتُ في الدروب والزنقات، الشبيهة ملامحها بعضها البعض والمهيمنة عليها جميعاً ظلالُ العتمة؛ اللهمّ إلا بصيص المصابيح الشاحبة، القائمة فوق أبواب البيوت النائمة، المعتقة القِدَم. محتاراً، فكرتُ أن الأجدى لي العودة من حيث أتيت؛ إلى بداية الشارع العام، لكي أحاول الإهتداء لمسكني عن طريق إحدى سيارات الأجرة، العابرة. عندئذٍ وعلى حين غرة، فُتِحَ بابُ أحد البيوت عن طلعة شابّ، ممشوق القامة طويلها. هُرعت نحوه بلهفة، ملوّحاً بعنوان الرياض، المطلوب، فإستقبلني ببشاشة ولطف ثمّ مضى بي إلى جهة الجادة، الرئيسة: "خالي سائقُ تاكسي، وهوَ يعرف جيداً هذه الأماكن". هكذا، وبعد الحصول على المعونة اللازمة، كنتُ على الدرب المألوفة، الصحيحة، المُحتبية ذلك الرياض وبرفقة الفتى الشهم، الذي رفض أن يتركني قبل تأكّده من وصولي بالسلامة. الحقّ، فإنّ المتاهة هذه، الليلية، كان عليها أن تبصّرني بمدى الأمان في مدينة "مراكش" طالما أنني خضتُ حواريها وأزقتها، الأكثر عزلة، دونما أن يطرأ لي أيّ منغص أو إزعاج. "في "الكازا " لا يستطيع المرءُ، مقيماً كان أم غريباً، أن ينعمَ بالأمان نفسه"، إتجه إليّ بالكلام ذلك الشاب، بينما كان يودّعني. ولكنّ هذه الليلة، الحافلة، ما أُجيزَ لها أن تنتهي دونما مفاجأة ضافيَة. فمنذ لحظة ولوجي الدّرب، متوجهاً نحو باب الرياض، وصخب مكبّر صوت ولا ريب، كان يتناهى من مكان ما في هذه الأنحاء، محملاً بالموسيقى والغناء، التقليديين. قال لي مسيّرُ شؤون النزل ضاحكاً، فيما هو يمدّ لي يده بمفتاح شقتي "إنه عرسٌ؛ وسيستمرّ بحسب العادات هنا، حتى الصباح. أعاننا الله، إذاً!"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى