أدب السجون صنع الله إبراهيم - تلك الرائحة...

قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان. تطلَّع إليَّ في دهشة: إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟ قلت: لا أعرف، ليس لي أحد. قال لي الضابط: لا أستطيع أن أترككَ تذهب هكذا. قلتُ: لقد كنتُ أعيش بمفردي. قال: لا بد أن نعرف مكانكَ لنذهب إليكَ كل ليلة، ليذهَبْ معك عسكري. وهكذا خرجنا إلى الشارع أنا والعسكري، وتلفتُّ حولي في فضول، هذه هي اللحظة التي كنتُ أحلم بها دائمًا طوال السنوات الماضية، وفتَّشتُ في داخلي عن شعورٍ غير عادي، فرحٍ أو بهجة أو انفعالٍ ما، فلم أجد، الناس تسير وتتكلَّم وتتحرَّك بشكلٍ طبيعي كأنني كنتُ معهم دائمًا ولم يحدُث شيء. وقال العسكري: لنأخذ تاكسي. وقلتُ في نفسي إنه يريد أن يتَنزَّه على حسابي. وذهبنا إلى بيت أخي، وقال لي أخي على السلم إنه مسافر ولا بد أن يُغلِق الشقة. ونزلنا وذهبنا إلى صديقي، وقال صديقي: أختي هنا ولا أستطيع أن أَقبلَك. وعُدنا إلى الشارع، وبدأ العسكري يتَبرَّم، وبدت الشراسة في عينَيه، وقلت في نفسي إنه يريد العشرة قروش. وقال: لا يمكن أن نظل هكذا، بنا إلى القسم. وفي القسم كان هناك عسكريٌّ آخر، وقال: أنتَ مشكلة ولا يمكن أن نتركك. جلستُ أمامه ووضعتُ حقيبتي على الأرض وأشعلتُ سيجارة. وجاء الليل وقال إنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا. ونادى على عسكريٍّ ثالث وقال له: ضعه في الحجز. واقتادوني إلى حجرةٍ مغلقة يقف عسكريٌّ رابع ببابها. وفتَّشَني العسكري وأخذ نقودي ووضعها في جيبه، وأدخلَني حجرةً واسعة تدور بجدرانها عارضةٌ خشبية مرتفعة عن الأرض، وجلستُ على العارضة، وكان هناك رجالٌ كثيرون، وفي كل لحظة كان الباب يُفتح ليدخل آخرون. وأحسستُ بوخز في رقبتي، ومدَدتُ يدي إلى رقبتي فشعرتُ ببلل، ونظرتُ إلى يدي فوجدتُ بقعةَ دمٍ كبيرة على إصبعي. وفي اللحظة التالية شاهدتُ عشرات من البَقِّ على ملابسي، ووقفت. ولأول مرة رأيتُ بُقَع الدم الكبيرة تُلوِّث جدران الحجرة في كل مكان، وضحك أحد الموجودين وقال لي: تعالَ هنا. وكان هناك بعض الذين جلسوا على الأرض، وفرش أحدهم بطانيةً ممزقة على الأرض، ووجدتُ مكانًا صغيرًا في حافتها جلستُ فوقَه وأسندتُ ذقني إلى ركبتي. وقال لي صاحب البطانية: لماذا لا تنام؟ لكن لم يكن هناك مكانٌ لجسدي، وقلتُ: أنا أفضل الجلوس هكذا. وسألني آخر: مخدرات؟ قلتُ: لا. قال: سرقة؟ قلتُ: لا. قتل؟ لا. رشوة؟ لا. تزييف؟ لا. وسكَت الرجل حائرًا وجعل ينظر لي نظرةً غريبة، وبدأتُ أرتجف من البرد فقمتُ أتمشَّى قليلًا، وعُدتُ أجلس، وتعبتُ من جلستي فاتخذتُ وضعًا آخر، وأخرج أحدهم بطانية كان يطويها تحته وجعل يستعد للنوم، وأخذتُ أتَسلَّى بتَصيُّد البَقِّ الذي يجري على الأرض وأقتلُه، وأحنيتُ رأسي فجأةً على صدري؛ فلم أكن أريد منهم أن يَروْا وجهي. وكانوا قد بدءوا يستسلمون للنوم. وأمامي رقَد عجوز على العارضة، وفتَح العسكري الباب ونادى عليه قائلًا: هناك من يسأل عنك. وعاد العجوز يحمل بطانيةً ووسادةً وتمدَّد فوق العارضة، وتغطَّى بالبطانية وأسند رأسه إلى الوسادة وسرعان ما نام وهو يتنفس بصوتٍ عالٍ ولم يعبأ بالبَق. وبجواره جلس رجلٌ يُحدِّق في وجهي وقد دسَّ يدَيه في جيبَي مِعطفِه المفتوح الذي كشف عن صدره العاري؛ فلم يكن يرتدي شيئًا تحت المعطف. وأطلَق هذا الرجل فجأةً عُواءً غريبًا مروعًا، ثم قام واقترب مني وهو يترنَّح، وضحك في وجهي ثم جلس بجواري، وتطلَّع أمامه في ذهول، ثم عوى. وقام إليه شابٌّ ضخم الجثة فضربه على وجهه، وقال المجنون وهو يرفع ساعده ليحمي وجهه: لا تضربني. وانهالت ضرباتُ الشاب عليه، وسمعتُ صوت عظامه تُطقطِق، وسقط في مكانه وهو يلهث، وضحك الآخرون. وجذب صاحبُ البطانية البطانيةَ فوقه وبسطَها بيده على صبيٍّ ممتلئ ينام إلى جواره، ورأيتُ وجه الصبي قبل أن تُغطِّيه البطانية، كانت له بشرةٌ خمرية وشفتان ممتلئتان، وكان غارقًا في النوم وقد ثنى ركبتَيه، وأحاطه الرجل بساعده أسفل البطانية، وجعل يتحرك حتى التصق به، وراحت ذراعه تحت البطانية وهي تتحرَّك على جسد الصبي تنزعُ بنطلونه، والتصق ساقا الرجل بظهر الصبي. وبجوار الصبي جلس الشاب الضخم الذي ضرب المجنون، وكان يُتابِع ما يجري أسفل البطانية ويرفع عينَيه كل لحظة فتلتقيان بعينَي، وهدأَت الحركة أسفل البطانية بعد قليل، واهتَزَّ الغطاء. وقام الصبي جالسًا وهو يمسح عينَيه ليُفيق من النوم، وجعل يتطلَّع بين ساقيه، وغفوتُ قليلًا وأنا جالس ثم تنبَّهتُ، ولم أَرَ الشابَّ الضخم ثم لمحتُ ساقَيه من تحت البطانية، كان ينام محتضنًا الصبي، وقمتُ أتمشى. واهتزَّت البطانية، وجذَبها الشابُّ من فوق الصبي والتفَّ بها كلِّها، ورقد الصبي عاري الفخذَين. وبدأ الظلام ينجلي، وراقبتُ نور الفجر وهو ينتشر، وفتحوا لنا أخيرًا لنغتسل، وأخذوا الصبي ليُنظِّف الفِناء. وأحضر الباقون طعامًا وأفطروا، وظهر الصبي عند الباب وسأل: ألم تتركوا لي شيئًا؟ وقال الشاب الضخم: لا. وجعل العسكري ينادي أسماء، وسمعتُ اسمي، وحملتُ حقيبتي وخرجتُ. وعند عسكري الأمس وجدتُ أختي، وسلَّمني دفترًا صغيرًا يحمل اسمي وصورتي. وخرجنا أنا وأختي إلى الشارع، وقالت: أتريد أن تشرب شيئًا؟ قلتُ: أريد أن أمشي. وأخذَتني إلى حجرة في مصر الجديدة، وأخذتُ ملابسَ نظيفة ودخلتُ الحمَّام، وأغلقتُ الباب خلفي. وخلعتُ ملابسي ووقفتُ عاريًا تحت الدش، ثم دعكتُ جسمي بالصابون وفتحتُ الدش فوقي، ورفعت رأسي إلى أعلى وحدَّقتْ عيناي في عيون الدش الصغيرة، وسالَت منه المياه وأجبَرتْني على أن أُغمِض عيني، وأَحنيتُ رأسي وتابعتُ الصابون وهو ينحدر على جسمي مع المياه ثم يجري على الأرض حتى البالوعة. ودعكتُ جسمي بالصابون مرةً أخرى، ومن جديد تابعتُ مياه الدش وهي تأخذ الصابون وتجري به حتى البالوعة. وأغمضتُ عيني ووقفتُ تحت الماء بلا حَراك، ثم أغلقتُ الصنبور، وتناولتُ الفوطة وجفَّفتُ بها جسمي في بطء، ثم ارتديتُ ملابسي وغادرتُ الحمَّام، وأشعلتُ سيجارة. وقالت أختي: نذهب إلى السينما. وذهبنا، وكان فيلمًا عن طيور يزداد حجمها وعددها حتى تتوحَّش وتُطارِد الناس وتفترسُ الأطفال. وشَعَرتُ بصداعٍ حادٍّ، وعُدنا إلى الحجرة، وانهمكَت أختي في تنظيفها. وأخذتُ أتنقل بين الصالة والمطبخ والحجرة وأنا أُدخِّن وأتحاشى الاقتراب من النافذة، وخلَعتُ ملابسي وتمدَّدتُ على السرير، ودقَّ الجرس فقمتُ أفتح. كان العسكري هو الطارق، وقلت له: دقيقة واحدة. وأسرعتُ إلى الحجرة فجئتُ بالدفتر وأعطيتُه له، فكتَب اسمَه أمام اليوم وانصَرف. وعُدتُ إلى السرير فاستلقيتُ فوقه، وأشعلتُ سيجارة، وجعلتُ أتأمَّلُ السقف. وجاء العسكري مرةً أخرى، وظللتُ ممدَّدًا على السرير دون أن أنام، ودخَّنتُ كثيرًا. وجاء الصباح فقمتُ واغتسلتُ وارتديتُ ملابسي وخرجتُ، وتناولتُ ساندويتشًا، وابتعتُ صحف الصبح كلَّها، ثم ركبتُ المترو، وراقبتُ أبواب العربة وهي تنغلق. ووقفتُ بجوار حجرة السيدات، وجعلتُ أتأملهن واحدةً واحدة، كانت شعورهن مصفَّفة بأشكالٍ معقَّدة، ووجوهُهن مُثقَلة بالأصباغ. ونزلتُ في الإسعاف، وكان هناك رجل على الرصيف بجوار الحائط وقد غطَّته جرائدُ مُلوَّثة بالدماء، وعلى الرصيف وسط الشارع تجمَّعتْ عدة نساء بملاءاتٍ سوداء جعلن يُلوِّحن بأيديهن ناحية الرجل وهن يُولوِلن. وركبتُ الأتوبيس إلى بيت منى، وقابلَتني أمها، وقبَّلتُ يدَها. ولم تعرفني في البداية، وجلسنا نتحدَّث، وكان لا بد أن أحدِّثها عن زوجها، وقلت لها إني كنتُ معه إلى آخر لحظة.

«كنتُ أجلس إلى جواره ويدي مقيَّدة إلى يده، وكنا في مؤخرة السيارة وخلفَنا بقية السيارات. وكان هو يعرف ما سيحدُث لكنه لم يقُل شيئًا، وكان يُردِّد في صوتٍ خافت مقطعًا من أغنية حُبٍّ قديمة. وكان الهواء لاذعًا ولم يكن من شيءٍ يقينَا برودتَه، وأخذتُ أرتجف وأسناني تَصطَك. ولم نكن نرى شيئًا من الطريق، وجعلنا نتحدَّث عن هيمنجواي. وفي الظلام رأيتُه يُخرِج مشطًا من جيبه ويُمشِّط شعره الذي امتلأ بالبياض، وكنت أعرف أنه يصبغُه ليُخفي بياضه. وكان الصمت يسود العربة، وأمامنا لفَّ أحمد رأسه بفوطة وهو يتأوَّه، كان الصداع يفترس رأسه عندما يرتجف داخله. وعندما وصلنا كان ذلك في الفجر، وأنزلونا بالعصي، وجلسنا على الأرض، وكنا نرتعش من البرد والرهبة. وكان هو أطولَنا، وسمِعتُ صوتًا يقول: ها هو. وضربوه على رأسه، وقالوا له: اخفِض رأسكَ يا كلب. وأخذوا ينادون علينا، ثم نادَوْا عليه، وكانت هذه هي آخر مرة رأيتُه فيها.»

وقالت لي: تصوَّر جاءني منه خطاب قبلَها يقول فيه إن الأمر لن يستمر طويلًا. وقلتُ لها إنه كان يقول لي دائمًا إنه لم يحدث أن نام بالليل ومنى بين ذراعَيه. وكان يُصفِّق بيدَيه ويقول: سأنطلق قبلكم. كان يَودُّ الانطلاقَ بأي ثَمن. وتطلَّعتْ أم منى بإعياءٍ حولَها وهبط جفناها المنتفخان فوق عينَيها، وغاص رأسُها في جسَدِها المترهِّل القصير، وأشارت لي أن أقترب منها وهمست: هل كان يُحبُّني حقيقة؟ وقلتُ لها: بالطبع.

«فماذا أقولُ لها؟ وما الفائدة أن نُحقِّق الأمر على وجه الدقة بعد أن انتهى كل شيء، ثُم مَن ذا الذي يعرف على وجه الدقَّة ما يدور داخل إنسانٍ آخر؟ ويقولون إن بعض الناس خُلق للحب، والبعض الآخر لم يُخلق له. ويقول آخرون إن الحب لا يُوجَد إلا في الروايات. أما هو فقد حكى لي مرةً حكايةَ واحدةٍ طارده أهلُها بالنبابيت لأنه لم يكن من دينها، ثم كانت هناك واحدةٌ أخرى لكنها ماتت فجأة، وثالثةٌ اكتشف أنها اتفقَت مع زوجها على ضرورة إنجاب طفلٍ بأي طريقة، وكان قد تعدَّى الخامسة والأربعين ويقترب من الخمسين، وكان يريد طفلًا. وفي يومٍ كنا نقف في الشمس سويًّا وكان شاردًا، وكنتُ أُثرثِر بينما هو مُستسلِم لشروده، ولم يكُن يُصغِي لي، وربما كان يحسبُ الأمر في ذهنه .. لكني في مرةٍ كنتُ أهبط السلَّم بجواره، وكنا نقترب من الطابق الأرضي، وسمعنا صوت دقٍّ سريع متلاحق على السلَّم، ثم ظَهرتْ أمامنا فتاةٌ طويلة توقفَت أمام باب المِصعَد، وكان ضوء الشمس يسقط من نوافذ السلَّم الزجاجية على وجهها، وتطلَّعتْ نحونا، كانت تضحك لسببٍ ما وشعرها ثائر وخدَّاها أحمران، ولم تكن تستقر في مكانها، وكان يهبط بجواري وعيناه عليها، وسَمِعتُه يُصعِّد تنهيدةً حارة.»

وقامت إلى حجرتها وعادت بحافظةٍ صغيرة أخرجَت منها بعض الأوراق وناولَتني ورقةً بالية وقالت: هذه قصيدة كتبَها لي قبل أن نتزوَّج.

«وكانت شاردةً بنظراتها دائمًا، وعندما يسألها فيما تُفكِّر تقول: في الحياة والموت. وكتب هو:
أنا حزينٌ يا طفلتي؛ حزين ووحيد.
في فراشي أرقُد،
بلا أحدٍ أتحدَّث إليه،
بالكُتب كلها وقد قرأتُها
بلا أحدٍ أضحك معه،
بلا دموعٍ أذرفُها.
إنه الموت،
بل أفظع؛
فعندما تموت لا تستطيع أن تفكِّر،
إلا إذا كان الدود يفكِّر.
وعندما تكون وحيدًا، تفكر،
تتوق وتتطلَّع وتسعى،
ولا تعرف ما تسعى إليه.
إنها الحياة والموت.
إنها ليست حياةً على الإطلاق،
سوى أني لم أمُت بعدُ.

لكن صه! ها هي بعض الخُطى؛
خُطًى بشرية.
إنهم آتون، إنهم يقتربون.
أهم حقًّا؟ أجل! كلا! ربما! أجل! ها هم يدقُّون الجرس.
أسمع خُطًى بشرية،
أسمع أصواتًا بشرية،
تسطع بالضحك.
صديق؟ كلَّا، أكثر.
إنهم أصدقاءُ يا طفلتي.

لستُ حزينًا بعدُ يا طفلتي،
لكني خائف،
فهم سيرحلون ويتركونَني من جديد،
للحياة والموت!»

ودقَّ الجرس ودخل صخر، وكان قد حلَق شاربه ومشَّط شعره وحمل كل صحف الصباح تحت إبطه، ودقَّ الجرس مرةً أخرى ودخل شابٌّ أنيق، وقالت له السيدة مشيرةً إلى صخر: هذا صديق زوجي. وقال الشاب: أعرفه. وقام صخر على الفور ولبس نظَّارته، وجعل يتمشَّى في الحجرة، وكانت هناك بعض الكتب بالإنجليزية والفرنسية على الرف فجعل يقلِّب فيها ثم وضع يدَه في خاصرته، وحمل كتابًا منها إلى النافذة ففتَحه، وجعل يقلِّب في صفحاته وهو ينظُر للشاب الأنيق من فوق نظَّارته بين اللحظة والأخرى.

«لا بد أنها كانت من أَسعَد لحظاته؛ إذ يشعر أن ثمَّة شخصًا يعرفه لسببٍ ما؛ ففيما مضى كان يعتقد أن الجميع يعرفونه ثم اكتشَف الحقيقة تدريجيًّا. وعندما رأيته لأول مرة كان عاري الصدر يمشي بخطواتٍ بطيئة ويرفع إصبعه كل لحظةٍ ليُداعبَ شاربه. وفي تلك الأيام كان الزعماء يحتفظون بشواربَ مختلفة الأشكال، ولم تكن صدفةً أن كل واحدٍ منهم كان له شاربٌ متميز عن الآخر، ثم اكتشف أن هذه الشوارب كانت خدَّاعة؛ فقد ذهب أصحابها وذهبَت مُوداتها، ولم يَبقَ شيء في القلب، ولم يكن قد امتلأ مرة. وفي الباب الحديدي جعل يضرب رأسه حتى كاد ينشَق، وكان يبكي.»

ومن النافذة رأيتُ فتاةً في المنزل المقابل تحتضن فتاةً أخرى وتُقبِّلها في شفتَيها. ودخلت فتاةٌ عوراء وبكت، وأخذ صخر يمسح على شعرها بيده وهي تبكي. وقالت السيدة إن الفتاة هكذا، ما إن ترى رجلًا حتى تبكي. وعادت منى أخيرًا من المدرسة، وقلتُ لها: أنا صديق بابا. فنظَرتْ إليَّ في عداء، وأخذتُها إلى النادي، وكان هناك أطفالٌ آخرون، وقلت لهم أن ينزلوا معها إلى المياه لأني لا أعرف السباحة. وأخذوها ونزلوا، وجعلَت تجري وتلعب وهي سعيدة، وكان هناك خشبة تساعد على العَوْم، فتعلَّقتْ بها. لكنَّ طفلةً أخرى سمينة جذَبتْ منها الخشبة لتعُوم فوقها. وتشبَّثتْ منى بالخشبة، وأمسكَتْها الطفلة السمينة من شَعَرها وجذَبتْها في عنف لتُبعِدها عن الخشبة، وأخذَت الخشبة ونامت فوقها. كانت منى الآن بعيدةً عن حافة الحوض، وأَسرعتُ أجري ناحيتها على الأرض، كانت ترتفع وتهبط في الماء وهي تلهَث في قوة، وقد اتسعَت عيناها في رعب، وناديتُ عليها. لكنها هبطَت تحت الماء ولم تظهر ثانية، وأسرع أحد السباحين إلى نجدتها وجذبها إلى أعلى، وحملها إليَّ، وأخذتُها إلى بيتها، وقالت لي ونحن نصعد السُّلم: عندما يكون هناك أحد سأقول إنك أبي فلا تقُل لا. ودخلنا المنزل، كانت أمُّها ترتدي ملابسها فانتظرتُها، ثم وقعَت عيني على ساعة الحائط فقفزتُ واقفًا، وأسرعتُ إلى الباب وقفزتُ إلى الشارع. لم يكن هناك وقت على موعد مجيء العسكري، ووصلتُ حجرتي وأنا ألهث، ووجدتُ خطابًا ينتظرني، وبحثتُ عن اسم المُرسِل فوجدتُه من نجوى. قرأتُ الخطاب في بطء، ثم أشعلتُ سيجارة وتمدَّدتُ على السرير، وقرأتُ الخطاب من جديد، كانت تتساءل عما إذا كنا سنلتقي من جديد بعد كل هذه السنين. وأغمضتُ عيني على ما أمكنني استرجاعه من صورتها؛ عينَيها الحانيتَين وفمها الممتلئ. ودَقَّ الجرس فقمت أفتح، كان العسكري، واستمهلتُه حتى عُدتُ إلى الحجرة، فأحضرتُ الدفتر وأعطيتُه له، فوقَّع اسمه، وانصرف، واحتفظتُ بالدفتر في جيبي إلى حين عودته. ودقَّ الجرس ثانية، وعندما فتحتُ الباب وجدتُ نجوى أمامي، احتضنتُها وضمَّتني هي بعنف وألصقَت جسمها كله بجسمي. لكني لم ألتصق بها، وأبعدتُها عني، وجعلتُ أتأمَّلُها، ثم اقتدتُها إلى الحجرة وأطفأتُ النور، وجلستُ على السرير وأجلستُها بجواري، ثم جذبتُها ناحيتي وقبَّلتُها في شفتَيها. أبعدَت وجهها وقالت: احكِ لي. لم تكن عندي رغبة في الحديث، ومررتُ بيدي على وجهها، ووضعتُ يدي على فمها، وجذَبتُ رأسها إليَّ وقبَّلتُها، وأمسكتُ بشفتَيها بين شفتَي، وعضَّتني هي بنفس الطريقة الفجَّة غير المدرَّبة ثم ابتعدَت عني.

«هذا ما كان يحدُث دائمًا، في أول مرة قبلَّتُها كانت خجلى، وكنتُ أجلس بجوارها والضوء يسقط على خدِّها. وتوقَّفنا عن الكلام وأسندتُ رأسي إلى كتفها ولم تعترض، وقبَّلتُها في خدِّها، ثم شفتَيها، وعندما تشجَّعنا قليلًا، أمسكَت بشفَتي التحتية وعضَّتها بقسوة. كنتُ أريد أن أُحِس بشفتَيها ناعمة في فمي، ولم أكن أشبعُ منها، ولو استطعتُ أن أظل محتضنًا إياها طول اليوم لفعلتُ. كانت هناك سخونة في وجهها وفي ساقَيها، وعقب كل مرة كنت أجعلها تقف عاريةً وأتأمل ساقَيها، كانا ينسابان في جمال ونعومة وسمرة. وكُنتُ أطلب منها أن تُعرِّي ساعدَيها لأُقبِّلَهما وأُحسَّهما على جسدي، لكنها كانت تتردَّد، وفي الظلام كنا نرقُد، ونلصق ببعضٍ في عنف لننسى العالم وكل شيء ولا نعود نفكِّر في أي شيء أو نخاف من أي شيء. وعندما يكون خدِّي لِصقَ خدِّها وأنفانا متلامسَين ورأسانا متجاورَين وعيوننا تُحدِّق إلى نفس المكان من السقف، لا تُصبِح هناك أهمية لأي شيء. وفي اللحظة التالية يتحرك رأسي وتزحف شفتاي إلى شفتَيها، ونتبادل القبل، أحيانًا في رقة وأحيانًا في عنف، ثم تبتعد برأسها وتتنهَّد. وفي أول مرة احتضَنَتني في عنف وقالت: أين كنتَ من زمان؟ وفي المرة الثانية قالت: يا حبيبي. وظللتُ صامتًا والكلمة تتردَّد في أذني للمرة الأولى في حياتي وأنا لا أُصدِّق نفسي، لكنها سرعان ما كانت تستدير وتقول: أريد أن أنام. وأظل راقدًا على ظهري، وعيناي على السقف بمفردهما، وأتمنى أن تستدير فجأةً وتحتضنَني، لكني لا ألبث أن أشعُر بتنفُّسها المُنتظِم، تنفُّس النائم الراضي القانع. وأستدير برأسي وأهُبُّ قليلًا لأراها، وقد أحنت رأسها إلى أسفل وأسندَته إلى ساعدها وراحت في النوم وقد تناثَر شعرها حول عنقها وتمدَّد ساعدها الآخر فوق جانبها، وأَمُر ببصري على جسَدها كله ثم أعود إلى مكاني.»

تمدَّدتْ بجواري وأسندَت خدها إلى يدها، وأعطَتني وجهها الذي أضاءه جانب من ضوء القمر، قالت: سأحكي لك أنا. تكلَّمتْ كثيرًا ثم سكتَتْ، وقلتُ لها إني متعب، وإني كنت أتشوَّق لها دائمًا. وجذبتُها ناحيتي، لكنها ابتعدَت، وطلبتُ منها أن تُعرِّي ساعدَيها، قبَّلتُ ساعدها وكتفها في ضوء القمر، لكنها ما لبثَت أن قالت: الدنيا برد. وغطتهما، ثم تمدَّدت على ظهرها، ولا بد أنها كانت تفكِّر في نفس الشيء الذي أفكِّر فيه. هناك شيءٌ ما ضاع وانكسر، وقالت: أريد أن أنام. وجذبتُها ناحيتي وقبَّلتُها، وطُفتُ بشفتيَّ على خدِّها حتى أُذنها فقبَّلتُها وسكنتُ هناك حتى ارتعشَت، ورفعَت عينَيها إليَّ وابتسمَت وقالت: وهذه أيضًا، من أين تعلَّمتَها؟

«كيف ظلَّت تذكُر وأنا قد نسيتُ؟ عندما صَعِدتُ بشفتيَّ على ساقها، وقبَّلتُها هناك لأول مرة، ونظَرتْ لي بمزيجٍ من السرور والدهشة والخجل، وقالت: من أين تعلَّمتَ هذا؟»

مددتُ يدي إلى صدرها، لكنها أبعدَت يدي، وقالت: لا. وتركتُها، وتمدَّدتُ بجوارها، وانتظرتُ أن تستدير فجأةً وتحتضنَني، لكنها لم تفعل. وظللتُ مستيقظًا، ثم شعرتُ بألمٍ بين ساقَيَّ، فقمتُ إلى الحمام، وتخلَّصتُ من رغبتي، وعُدتُ فتمدَّدتُ إلى جوارها، ونمتُ واستيقظتُ، ونمتُ مرةً أخرى. وعندما فتحت عينيَّ في الصباح وجدتُها قد ارتدَت ملابسها، وقالت سأخرج الآن. قلت: متى سأراكِ؟ قالت: سأمُر عليك. وظللتُ ممددًا فوق الفراش، ثم قمتُ أخيرًا فاغتسلتُ، وجمعتُ ملابسي القذرة، ووضعتها في إناءٍ من الماء بعد أن أضفتُ إليه مسحوق الصابون، وحرَّكتُه حتى كوَّن رغوةً كبيرة. وجاءت أختي وخطيبها، وارتديتُ ملابسي وخرجنا، وابتعتُ صحف الصباح. وفي مدخل المنزل التقينا بصديقة أختي وخالها، وذهبنا إلى الكازينو. وقال خطيب أختي: نريد أن نفرح بك. وقلتُ له: هذه المسائل تستغرق وقتًا. وقال: لماذا؟ قلتُ: الحب ليس سهلًا. هَزَّ كتفه وقال: اسمع نصيحتي؛ الحب يأتي بعد الزواج. وقال الخال: لقد تزوَّجتُ خمس مرات. وتركتُهم وذهبتُ إلى سامي في بيته، وأدخلوني إلى حجرة الصالون، وانتظرتُه طويلًا. ودخلَت الحجرةَ طفلةٌ أدركتُ أنها ابنتُه، ووقفَت بجانبي. وكنتُ متعبًا وأُريد أن أذهب إلى دورة المياه، وأطلَقتُ من ظهري رائحةً شمَّتها الطفلة، وقالت: رائحة كاكا. وتجاهلتُ الأمر. لكنها عادت تردِّد: رائحة كاكا. فجعلتُ أتشمَّم حولي وأقول لها أين؟! حتى اختفت الرائحة. وأخيرًا يئستُ من مجيء سامي فقمتُ وانصرفتُ. وكان الزحام شديدًا، وذهبتُ إلى المجلَّة فلم أجد أحدًا. وفي الشارع كان الراديو عاليًا، وسمعتُ أغنيةً إنجليزية عن الأطفال، واكتشفتُ أنها نفس الأغنية الجديدة التي يغنِّيها محمد فوزي. وركبتُ المترو، وكان الزحام فظيعًا وكدتُ أختنق، وراقبتُ وجوه السيدات المتعبة وقد ساح الكُحلُ عليها. وذهبتُ إلى بيت سامية، ووجدتُهم يأكلون. ابتسمَت سامية عندما رأتني وقالت إنها انتظَرتْني طويلًا قبل أن تأكُل، وكِدتُ أسألها: صحيح؟ وسألتُها عن طفلها فقالت إنه نائم. وشَعَرتُ بنفسي أبتسم، وكانت ابتسامتها بسيطةً صريحة، ولم أكن أتصوَّرها بهذه البساطة والرقَّة.

«ماذا بعد؟ عندها زوجُها وطفلُها ولا مكانَ لأحدٍ آخر في حياتها وسرعانَ ما سأنصرف، وسيكون هذا هو نهاية كل شيء.»

وكانت تتنهَّد بين الحين والآخر تنهيدةً حارة وتقول: يا رب. وقلتُ لها: لو سمعكِ فرويد لقال لكِ شيئًا. فقالت: بل أشياء. وفرغنا من الأكل وقامت، كانت ترتدي قميصًا خفيفًا على اللحم، ورأيتُ من تحت إبطها جانبًا من ثَديها عند انطلاقه من الصدر، ودُهِشتُ لأنه لم يكن متهدلًا، وكان أبيض كاللبن. وأدرتُ بصري بسرعة، وتطلَّعتُ إلى عينَيها الصريحتَين المباشرتَين، ودخلَت هي لتنام، ونمت أنا أيضًا.

وعندما قمتُ بحثتُ عنها وذهبتُ إلى غرفتها، وكان السرير في أقصى الغرفة. وكانت ترقد على ظهرها ومؤخرة رأسها ناحيتي وعيناها على الحائط المواجه لي، وطفلها جالس إلى جانب صدرها يتطلَّع حوله مدهوشًا من أثَر النوم. وكانت ساقها عارية — بيضاء كاللبن — وغطَّتها بسرعة، وقامت وارتدت فستانًا برتقاليًّا، وجلسنا في الشرفة، وقالت لي إن طفلها يحبني. عشِقتُ صوتها الهادئ الواثق وحركاتِها التي لا تتكلَّف شيئًا، وقلت لها إني أشعر أني عجوز. نادرًا ما أبتسم أو أضحك. كل الناس أراهم في الشارع وفي المترو متجهِّمين دون ابتسام، ولأي شيء نفرح؟ وتكلمنا عن الكتب، وقالت إنها كفَّت عن القراءة منذ مدة، منذ أن جاء الطفل. وسألتُها: هل قرأتِ رواية الطاعون؟ وشعرتُ أن شيئًا كثيرًا يتوقَّف على الإجابة، لكنها قالت: لا. وفكَّرتُ أن أقول لها إني أحسدُها على بساطتها ورقتها. وقلتُ أفعل هذا عندما نفترق. وتطلَّعتُ إلى الساعة، كان لا بد أن أذهب. ووقفَت هي أيضًا، قلتُ لها في صوتٍ خافت: تعرفين؟ أنت غريبة حقًّا. وتطلَّعتْ إليَّ بدهشة، قلتُ: لقد اكتشفتُكِ اليوم. وانحنَت على طفلها وانهمكَت في إصلاح ملابسه، ولم أرَ عينَيها جيدًا. وجاء زوجها، وودَّعتُهما، وسارا في أثَري إلى السلم. وعند باب الحديقة تطلَّعتُ خلفي، كانت تدخل المنزل الهادئ الرطب، وراقبتُ رداءها البرتقالي وهو يختفي خلف الباب. ومشيتُ إلى البيت، ورأيت فتاةً حلوة تسير بجوار قضبان المترو في بطء كأنما تجد صعوبةً ما مع حذائها. ودخلتُ المنزل، ووجدتُ الغرفة الخشبية في مدخله مضاءة وبابها مفتوحًا، واختلست النظر داخلها فوجدتُ حسنية صديقة أختي. وصَعِدتُ إلى غرفتي، وجاءت أختي، قلتُ لها: سامية لطيفة. وسألتُها: هل هي سعيدة مع زوجها؟ قالت: أجل. وقلتُ: أُراهن أنها لا تُحبه. قالت: مستحيل، أين ستجد رجلًا مثله في الشخصية والمركز؟ وقالت إنهما كانا يتقابلان قبل الزواج.

«وماذا لو كانا يتقابلان قبل الزواج .. كانت في السابعة والعشرين، وانتظَرتْ فارس الأمل طويلًا دون جدوى .. وفي البيت لم تكن لها حجرةٌ خاصة، كانت تنام في غرفةٍ أشبه بالصالة. لم تُغلِق على نفسها باب غرفتها أبدًا، وتنفرد بنفسها، وتخلع كل ملابسها مثلًا. لم تقبل جسمها أمام المرآة، ولم يعُد من الممكن أن تحتمل نظراتِ أبيها وأمها كلَّ ليلة. لم يكن هناك من موضوعٍ للحديث غير الزوج المنتظر، وتُلام لأنها لم تستطع أن تحصُل لنفسها على واحد. وذات ليلة التقت به عند إحدى صديقاتها، وفي اليوم التالي قالت لها صديقتُها إنه يريد أن يتزوَّجها. وبعد عشر دقائقَ من المسير حتى باب المنزل، وأمام باب المسكن الذي تآكل طلاؤه، قالت لصديقتها: ولِم لا؟ ربما كان الحبيب الذي تنتظره، ربما لم يكن كل هذا الحديث عن الحب والتقاء الأعين ورعشة الأرواح غير كلام روايات، ربما وجدَت السعادة معه؛ ربما الكلمة المعلَّقة فوق كل زواجٍ جديد، ربما كان هذا هو الرجل المنتظر، ربما جاء الحب، وبعد سنةٍ واحدة جاء الطفل. ها قد تم تقييدها إلى الأبد، وليس أمامها إلا الاستسلام .. وتلك المرة التي كان الراديو دائرًا فيها ولمحتُ نظرةً ساهمة في عينَيها، وقد اكتسى وجهها طابعًا حزينًا .. ماذا حدث بعد الزواج؟ وتصوَّرتُهما بجوار بعضهما على الفِراش، وأحدهما ملولٌ ساخط، أحدهما سيظل طول عمره يشعُر أن جانبًا فيه لم يتحرَّك، أن جزءًا من لحمه ودمه لم يهتَز، أن بئرًا في أعماقه لم تُكتشَف.»

قلتُ: هل تعرفين ما هو الحب؟ وتطلَّعتْ إليَّ بدهشة. كان سؤالي سخيفًا وساذجًا، قالت: بالطبع. وقلتُ: هل تُحبين خطيبكِ؟ قالت: أجل. وقالت: عندما خطَبني لم أكن أُطيقه ثم مع الزمن أحببتُه. وكان صوتها مرتفعًا، قلتُ لها: لماذا تزعقين؟ قالت: صوتي كده. وقالت إنها تريد أن تستحم، ولكنها لو فعلَت سيتلَف شعرها وتُضطَر للذهاب إلى الحلاق مرةً أخرى. ودقَّ الجرس، فحملتُ الدفتر وذهبتُ أفتح، لكنه كان خطيب أختي، وخلفه جاءت صديقتُه حسنية، وقالت حسنية لأختي: تصوري أن خطيبي يغير من خالي! وقالت: إنه يقول إني أقضي الوقتَ كلَّه مع خالي. وقال خطيب أختي إنه كان يبحث طول اليوم عن السَّخان، وإنه اشترى الثلاجة. وقال: هل يعرف أحدكم شخصًا مسافرًا ليأتي لي بريكوردر؟ وجاء خال حسنية وأخذَهم جميعًا إلى السينما. وبقيتُ بمفردي أمام المكتب، وحاولتُ أن أكتب، ودق الجرس، فأسرعتُ إلى الباب وأنا أتمنى أن يحدُث شيء، أن يأتي أي أحد، ووجدتُ الكواء. ودقَّ الجرس مرةً أخرى، وعندما فتحتُ الباب فوجئتُ بنهاد وأبيها، ودخلا حجرتي على الفور، وقالا: لا بد أن تأتي عندنا غدًا. وقلت لنهاد: لقد تغيرت كثيرًا. فقالت باسمةً في رقَّة: آخر مرة رأيتَني فيها كنتُ صغيرة جدًّا. ورفضا أن يجلسا وقالا إن أمها تنتظر في السيارة. وودَّعتُهما إلى الخارج ثم عُدتُ إلى حجرتي، وأخذتُ أدخِّن في شراهة وأنا أفكِّر ولا أستطيع الكتابة. كانت تتأمَّلُني بدقة، وفكَّرتُ أنها سمعَت عني كثيرًا ولا بد أنها مبهورة. ودق الجرس مرةً ثالثة، وكانت الدقة طويلةً قوية، وحملتُ الدفتَر وذهبتُ إلى الباب ففتحتُه، وأعطيتُ الدفتر للعسكري ثم عُدتُ إلى حجرتي وأطفأتُ النور واستلقيتُ على الفِراش، ورحتُ في النوم، ثم استيقظتُ فجأةً على صوت الجرس. وعندما فتحتُ الباب لم أجد أحدًا، وعُدتُ إلى الحجرة وتركتُ بابها مفتوحًا، ونمتُ من جديد. وقمتُ في الصباح الباكر وحلقتُ ذقني وارتدَيتُ ملابسي وحملتُ قميصًا نظيفًا إلى الكوَّاء، وعُدتُ فارتديتُه ثم نزلتُ. وأخذتُ أبحث عن مكان أُلمِّع فيه الحِذاء، واشتريتُ الصحف. وأخيرًا ركبتُ المترو، وتوقَّف السائق في الطريق ليضع قطعة أفيون في فمه ويشرب الشاي. وفكَّرتُ أنه محظوظ؛ فقد وجد طريقةً يستعين بها على مواجهة الحياة. ومضى يسوق في بُطءٍ وأنا أتمنى أن يسرع كي لا أتأخر ويُفسِد الغُبار أناقتي. ونزلتُ بعيدًا عن البيت، وركبتُ تاكسي، وتوقَّفتُ به أمام البيت، وتطلَّعتُ إلى شرفاته فلم أجد أحدًا بها. وصعدت إلى الطابق الأعلى ووجدتُ نهاد مع أمها أمام مائدة، ولم تُشاهِدا التاكسي، وجلَستُ بجوارهما. كانت نهاد تُذاكر، وتأمَّلتُها في دقة، كانت شفتاها كما أتمنى؛ السفلى مقوَّسة وأسنانها بارزة قليلًا، وكان صوتها هادئًا رقيقًا. وسألَتني أمها عما أفعل الآن، وكانت تتكلم بصوتٍ عالٍ، قلتُ لها إني أكتب. قالت: هل تكتب قصصًا؟ قلتُ نعم. قالت: من الكتب؟ قلتُ: لا، من رأسي. وقالت نهاد: إذن أنتَ شخصية. وأشعلتُ سيجارة، وقالت أمها: يجب أن تستقر. وقالت نهاد: أمريكا رائعة، ما رأيُكَ؟ وقلتُ: أُعجبُ بأشياء وأشياء لا. وقالت: اترك كل هذا والتفِتْ لنفسِكَ. وقالت: ساعدني في المذاكرة، وكان صوتها خافتًا، وأنا قد تعبتُ من الأصوات العالية. وقالت: تصوَّر ماذا فعلوا بأبي. طَردُوه من شركته بعد أن أخذوها. وقالت إنهم تآمروا عليه واتهموه بأنه يتلاعب. وقالوا: نأكل. ونزلنا إلى الطابق الأسفل، وجلسنا إلى المائدة، وأخذتُ السلطة ثم الأرز في طبقي. وسألَتني نهاد: ورك أم صدر؟ وكانت أختي قد حذَّرتْني، وقالت حذارِ أن تأخُذ الوركَ لأنكَ لن تعرف كيف تأكله بالشوكة والسكين. لكني لم أَدرِ كيف اندفعَت وقلتُ لها أعطيني الورك. ووضَعتْه أمامي وأمسكتُ بالشوكة والسكين، وعندما غرزتُ فيه الشوكةَ قفز من صحني في الهواء وسقط في إناء السلطة. وقالت نهاد بهدوء: الفراخُ لا تؤُكل هكذا، كلها بيدَيك. وقلتُ لها إن أختي حذَّرتْني لكني لم أستمع إلى تحذيرها. وقالت الأم إنهم في أوروبا يأكلون الورك بالشوكة والسكين. ولم أعرف كيف آكل بعد ذلك، وتعثَّرتُ في المكرونة والبطيخ. وقالوا: أَتُعجبكَ الحال؟ وقال الأب إنه قابل ناسًا قادمين من روسيا وإن الفقر هناك شديد. وقال إن الرأسمالية أفضل. وقالت نهاد في حماس: هل يستطيع أحد أن يجادل في هذا؟ وقالت: هل تؤمن بربنا؟ وقمتُ وغسلتُ يدي وجفَّفتُها في فوطة. وصَعِدنا إلى الطابق الأعلى، وقدَّموا لي السجائر، لكن لم تكن لديَّ رغبةٌ في التدخين. وتحدَّث الأب في التليفون، كان يريد أن يشتري الأرض المجاورة، ووضعَت الأم يدها على خدِّها وسَرحَت، ودخل الأب لينام. وقالت نهاد: هل أنت متعَب؟ قلتُ: لا. وعُدنا نستأنف المذاكرة، وقام الأب من النوم وجاء فبسَط سجادة الصلاة أمامنا وصلى، ثم جلس بجوارنا وجاءوا بالشاي، وقال: كيف حال نهاد؟ قلت: كويس. وأداروا التليفزيون خلفَنا بصوتٍ عالٍ، وجاءت الخادمة والطباخة والدادة وجلَسنَ على الأرض يتفرَّجن، وكانت نهاد تُغافِلني وتُتابِع الفيلم. وقالت: أحمد رمزي لذيذ. وبدأتُ أشعر بالتعب، وقامت وجلست بجواري، وكان ساعدها عاريًا بجواري، وكانت حريصة على ألا نتلامس. وسمعَتْني الأم أشرح لها كلمةً إنجليزية، فقالت: لا، ليس هذا هو المعنى. وتدخَّل الأب ولم يكن يعرف غير الفرنسية، وقال إن الكلمة بالفرنسية لها معنًى آخر. ولم أتكلم. واختلف الأب والأم، وطلبت مني الأم تأييدها، وقلت: غالبًا هذا هو المعنى. وقال الأب: لا. ونظر إليَّ، فقلتُ: تقريبًا. وأَصبحَت الضوضاء عنيفة. وقالت نهاد إن مُخرجًا رآها في الصباح وقال إنها تشبه لبنى عبد العزيز. ودخل بعض الزائرين، وقامت نهاد تُرحِّب بهم وجلسَت بجوارهم في نهاية الغرفة. وكانت تُحادِثهم في حرارة وشوق ثم تُغافِلهم لتتابع أحمد رمزي. وأحسستُ بالصداع يُحطِّم رأسي، وقمتُ لأنصرِف، ونظَرتْ إليَّ إحدى الزائرات متسائلة، وقلتُ: أنا ابن فلان. وضحِكَت وأشارت إلى أنفها وبرمَت شاربًا وهميًّا ورفَعتْه إلى أعلى، وقالت: أهو ذلك الذي كان بشاربٍ ضخم؟ قلتُ: نعم. وصاحت الأم: أنا عاوزاك. وفكَّرتُ: هل ستنحني عليَّ وتعطيني خمسة جنيهات؟ وأشارت لي أن أتبعَها إلى حجرتها، وكانت وصيفتها تجلس على مقعد، وهي فتاةٌ سمراءُ ممتلئة، وقلتُ: هذه طبقتي. وفكرتُ أني لو كلَّمتُ الأم لأمكَن أن أتزوَّج هذه الفتاة، وسيقولون إنهم خدَموني ووجدوا لي زوجةً طيبة على قدي. وناولَتني الأم لفافة ورق وقالت إنها قطعةُ قماش. ولم أعرف ماذا أقول. وكنتُ قرَّرتُ أن أرفُض لو أعطَتني نقودًا، ولم أحسب حساب القماش. وتضايقتُ ورفضتُ، لكنها أصرَّت وقالت: أنت مثل ابني. ولم أعرف كيف أتصرَّف، فأخذتُها وأنا أقولُ في نفسي: ها نحن قد كسبنا بذلة. وعُدتُ إلى الصالة، ورافقَتني نهاد إلى السلم. وخرجتُ من البيت، ولم أنظر إلى أعلى، ومشيتُ، وامتلأ حذائي بالغُبار ولم أهتَم. وركبتُ المترو، وكان الزحام رهيبًا، وتكرمشَت ملابسي، ولم أقاوم. وفي إحدى المحطات هجم على المترو عشراتٌ من العمال العائدين إلى منازلهم، وشقُّوا طريقهم بين الزحام، ووقف أحدهم أمامي، وكانت عيناه محمرتَين، واستند آخر على مَسنَد مقعد، وسرح من النافذة، وبدأ ينام. وعندما تطلَّعتُ إليه بعد لحظة كان رأسه يهتَز مع حركة المترو ويصطدم بالمسنَد كل مرة وهو غارق في النوم. وعندما نزلتُ من المترو شاهدتُ نفس الفتاة التي رأيتُها من قبلُ تسير بجوار قضيب المترو في بطء. وصَعِدتُ إلى حجرتي، ووضعتُ المفتاح في القفل، نفس الباب والمفتاح في نفس الأُسر التي من طبقَتنا. ودخلتُ وخلعتُ ملابسي ووضعتُ البنطلون في الشماعة وعلَّقتُها على الحائط، ثم استحممتُ، وعُدتُ فجلستُ أمام المكتب، وأدرتُ الترانزستور. ورأيتُ لفافة القماش أمامي ففتحتُها، ووجدتُها قماش بيجامة لا بذلة، وأشعلتُ سيجارة. وجاءت أختي وقالت: كم بقي من الخمسين قرشًا؟ حسبتُ المواصلات ولم أجسُر على أن أذكُر لها القروش العشرة أجرة التاكسي. وجاء خطيبها وقال إنه وقف ساعتَين أمام الجمعية ليشتري اللحم. وقال إن الحالة لا تُطاق. وقال: أنتم تريدون أن تنشُروا الفقر. وقال: ليست أمامي فرصةٌ للثراء. لو كوَّنتُ أي شيء ستأخذه الحكومة. وجاء عادل وزوجته، وقدَّمتُ له سيجارة فقال: أنا لا أدخن ولا أشرب القهوة. وقال إنه في الصباح فقط يتناول فنجانًا من الشاي في البيت، ومع ذلك يصل حسابه في المكتب إلى ثلاثين قرشًا طلبات للآخرين. وقال إنه بعكس الموظَّفين الآخرين لا يرتشي. وقالت زوجته: خيبة. وقالت: إن العمال لم يعُد أحد يعرف كيف يُكلِّمهم، وقال عادل إن سائقَ خالِه فهمي بيه لا يستيقظ قبل العاشرة صباحًا، بينما يقوم فهمي بيه من الفجر. وقال لخطيب أختي: سأدلُّك على أحسن مكان تشتري منه صبَّانة. وقال خطيبها إنه أوصى على ولَّاعة رونسون ستأتيه من بيروت. وقالوا: لا بد أن نذهب الآن. وانصرفوا، وظللتُ جالسًا أمام المكتب أُدخِّن، ثم قمتُ وأطفأتُ النور، ووقفتُ في النافذة أتشمَّم الهواء. وكانت نافذتي تُطِل على مؤخراتِ عدةِ منازل، ولم يكن يبدو لي من الشارع غير جانبٍ صغير. ومِلتُ برأسي إلى الخارج، ولويتُ رقَبتي لأرى المحلَّات المضاءة والناس وهي تروح وتجيء. وتعبتُ فتراجعتُ برأسي إلى الوراء، وأسندتُ ساعدي إلى حافة النافذة. وكانت هناك نافذةٌ مظلمة أمامي، وإذا بها تُضاء فجأةً، ومن خلالها ظَهرتْ فتاةٌ جعلَت تخلع ملابسها ببطء، ووقفَت أخيرًا عارية تمامًا، ثم ارتمَت على سريرٍ في ركن الغرفة، ورقدَت على وجهها وظهرها للضوء، ورأيتُ استدارة جسمها والظلال الداكنة التي تركَها الضوء في ثناياه. وفجأةً دق الجرس، فتناولتُ الدفتر وتلكَّأتُ قليلًا حتى أشعلتُ سيجارة وأخذتُ علبة السجائر معي، ودقَّ الجرس مرةً أخرى، وأسرعتُ إلى الباب، وفتحتُ للعسكري وأعطيتُه الدفتر وأنا أُخرِج علبة السجائر، وأعطيتُه سيجارة، وانصرف. وعُدتُ إلى الحجرة فألقيتُ الدفتر على المكتب وتطلَّعتُ إلى النافذة المقابلة فألفيتُها مظلمة. استلقيتُ على الفِراش أُدخِّن حتى انتهت السيجارة، فقذفتُ بها من النافذة ونمت. وفي الصباح خرجتُ واشتريتُ الجرنال وزجاجةَ لبنٍ صغيرة وخبزًا. وعُدتُ فغلَيتُ اللبن ووضعتُ فيه السكر ثم غمستُ الخبز في اللبن. وقرأتُ الجرنال، ثم خرجتُ، وركبتُ المترو، وتوقَّف المترو قبل محطة الإسعاف، ونزل الركاب، ووجدتُ عرباتِه مقلوبةً على جانبها بجوار القضبان، وقد بَرزَت أحشاؤها الداخلية السوداء. وسِرتُ إلى المقهى الذي يجلس فيه مجدي، وكان يجلس في ركنٍ بمفرده، وقال: يجب أن نُثبِت وجودنا. وتأمَّلتُ التجاعيد التي حفرتْ خُطوطَها في كل مكانٍ بوجهه، وقال: الجميع أولاد كلاب. وقال: أنتَ قوي بالناس، أما بمفردكَ فأنتَ ضعيف. وتقلَّصتْ عضلاتُ وجهه.

«فإذا نظرتَ إليه لا تعرف ما إذا كان يحقد أم يتألم، وهل يُوجَد إنسانٌ لا يحقد ولا يتألَّم؟ من الرغبة في السيطرة ومن الضعف في مواجهة العالم، من الافتقاد للحب ومن العجز عنه، من احتقار الناس ومن الحاجة إليهم، من الإحساس بالقهر ومن ممارسة الاضطهاد، من معاناة الألم ومن الاستمتاع بإيلام الآخرين، من الثقة الكاملة ومن الشعور بالفشل، من التغَني بحب الناس ومن استغلالهم كقِطَع من الطوب تبني بها بيتك، من الاعتقاد بأن الجميع يحبونك ويؤمنون بك، ومن رؤيتهم يتخلَّون عنك .. وكان الأمر في البداية نبلًا وأصبح الآن لعنة، وجفَّ النبع الذي كان يتألم للآخرين .. وعندما وقَف وظهره يقطر دماء كان صامدًا لا يهتز، يستعذب قدرته على الصمود. لكن الناس لم تعُد تعبأ بهذا اليوم؛ فقد تغيَّرتْ روح العصر. وليس صدفةً أن الكلماتِ التي يستخدمها قد تغيَّر مدلولها منذ زمن، وبعضها كاد يصبح بلا مدلول على الإطلاق .. وكان مشتركًا في اللعبة ويفهم قواعدها ويسير عليها، لكنهم طبَّقوا القواعد عليه، وسالت الدموع على مقعد وحيد، وأفظع شيء أن تبدأ في البحث عن نفسك متأخرًا .. وقال إنه لم يحب أبدًا. وهو يؤمن بأنه أفضل من الآخرين — وربما كان ولا يجد ما يمنع من ذلك وقد قدَّم كل شيء لديه — لكنه مهزوم في لعبة لا تعرف الرحمة وليس لها في الحقيقة أية قواعد، ولا يمكنك فيها أن تُقرِّر الصح من الخطأ، وليس المنتصر هو المصيب بالضرورة، إنما هو أمهر وأمكر وأكثر حظًّا.»

تركتُه وذهبتُ إلى المجلة، وسرتُ في ممرٍّ طويل وأنا أنظر في كل غرفة ولا أجد أحدًا، وكانت هناك غرفةٌ أمامي في نهاية الممر، وعندما اقتربتُ منها رأيتُ امرأةً تجلس إلى مكتب وقد أسندَت خدَّها إلى يدها، ولمحتُ دموعًا في عينَيها، واستدرتُ عائدًا من حيث جئتُ، وسرتُ في اتجاه المترو ثم ركبتُه، وجلستُ بجوار النافذة. وعندما تركنا ميدان رمسيس سار بجوارنا قطارٌ في نفس الاتجاه، وكان ممتلئًا بالجنود العائدين من اليمن، وكانوا يُهلِّلون من النوافذ ويهتفون ويلوِّحون بأيديهم. وعندما أصبح المترو في حذائهم، ازداد حماسهم وهم يتطلَّعون إلى ركابه، وتأمَّلَهم هؤلاء في جمود ولامبالاة. وشيئًا فشيئًا هبَط حماس الجنود، وكان المترو قد سبق القطار الآن. وأدرتُ رأسي إلى الخلف، كانت أيدي الجنود تتدلَّى من نوافذ القطار، ولمحتُ أحدهم يرمي بغطاء رأسه إلى الأرض. ونزلتُ أمام البيت ورأيتُ الفتاة الجميلة التي تسير بجوار قضيب المترو كل يوم، واكتَشفتُ أنها عرجاء. واشتريتُ طعامًا وصَعِدتُ السلَّم، ووجدتُ باب الشقة مفتوحًا وجاري فيها يُصلِح قفل باب غرفته. دخلتُ وأكلتُ، ثم دخَّنتُ ونمتُ، وقمتُ لأجد أختي قد جاءت. ودخلتُ الحمام وخلعتُ ملابسي وفتحتُ الدش على جسمي، وسمِعتُ صوت مقبض بابٍ يقع على البلاط. وأغلقتُ الدش وجفَّفتُ جسمي وارتديتُ ملابسي ثم خرجتُ من الحمام. وكان هناك قرعٌ مستمر على شيءٍ ما، ووقفتُ أتكلم مع أختي وأنا أمشِّط شعري. وسمعتُ القرع مرةً أخرى، وتبيَّنتُ فيه قرعًا على الجدار، وقلتُ لها إننا كنا نفعل هذا دائمًا عندما نريد أن نكلِّم بعضنا أو نحذِّر بعضنا.

«وكان ذلك يحدُث كل صبح، ونفتَح عيوننا على صوت القرع الرتيب على الجدران ونهبُّ واقفين ونحن نُرتِّب كل شيء ونُحاوِل أن نتذكَّر حتى لا ننسى شيئًا، ولا زال النوم في عيوننا، ثم نجلس القرفصاء بجوار الحائط ونحن نرتجف من البرد. ويسكُت القرع، وننتظر، ثم نسمع صوتَ أقدامِهم على البلاط وشخشخة السلاسل والمفاتيح. ونقفز في أماكننا عندما يصطدم المفتاح بالقفل، ثم يدخلون، وتلتصق عيوننا بعيونٍ جامدة لا تنطق، وتصطدم آذاننا بأصواتٍ سريعة باترة لا تتمهَّل، وتتعلق قلوبنا بأيدٍ سمينةٍ ثقيلة لا تفكِّر، وحولَنا الجدران تلتقي في أربعة أركان، والباب مغلق، والسقف قريب، لا منجاة.»

خرجتُ إلى الصالة، وحانت مني نظرةٌ إلى حُجرة جاري، كان بابها الزجاجي مغلقًا، ولمحتُ ظله من وراء الزجاج ويده تخبطُ عليه بعنف، ووجدتُ مفتاح الباب مُلقًى على الأرض. تناولتُ المفتاح ووضعتُه في الباب وفتحتُه له، وقال لي وهو يبكي إنه نسي المفتاح عندما دخل وإنه يخبط لي منذ ساعة. وقالت أختي يجب أن تزور حسنية وستَرى خطيبها. وذهبنا، ورحَّبتْ أمها بي، وقالت يجب أن تستقر. وقالت لأختي: زوِّجيه وهو يهدأ. وجاء خطيب حسنية وقال إنه نظَّم مكتبه في الوزارة تنظيمًا رائعًا؛ فهناك لوح من الزجاج السميك يُغطِّيه، وعلى اليمين أجندةٌ فخمة من الخارج، وفي الوسط مِحبَرة من العاج لا يُوجد مثيل لها الآن، وإلى اليسار بعض الملفَّات العاجلة، وفوق رأسه علَّق لفظ الجلالة. وقلتُ إن الشمسَ أوشكَت أن تختفي ويجب أن أنصرف. وتركتُهم وأسرعتُ إلى المنزل، وقابلتُ العسكري على السلَّم. وقال: تأخرتَ. وأخرجتُ علبة السجائر لكنه هز رأسه وقال: من الممكن أن تقضي هذه الليلة في الحبس. وأخرجتُ عشرة قروش، وصحبَني إلى الشقة فدخلتُ وأحضرتُ الدفتر، ووقَّع فيه وانصرف. وخلعتُ ملابسي في بطء، وغسلتُ وجهي، ثم أعددتُ فنجانًا من القهوة، ورتَّبتُ المكتب ومسحتُ الغبار الذي تراكَم فوقَه، وأمسكتُ القلم لكني لم أستطيع أن أكتُب. وتناولت إحدى المجلات، وكان بها مقال عن الأدب وما يجب أن يُكتب. وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلق عالمًا أكثر جمالًا وبساطة من عالمنا. وقال إن الأدب يجب أن يكون متفائلًا نابضًا بأجمل المشاعر. وقمتُ واقفًا وذهبتُ إلى النافذة وتطلَّعتُ إلى نافذة الأمس، لكنها كانت مغلَقة، وأغمضت عيني. تصوَّرتُ فتاة الأمس بجسمها الأبيض أمامي على الفراش، ممتلئة وشعرها طازج، وأنا أقبِّل كل جزءٍ منها، وأمرُّ بخدِّي على فخذها وأسندُه إلى نهدها، وامتدَّت يدي إلى ساقي، وجعلتُ أعبثً بجسمي. وأخيرًا تنهَّدتُ، وارتميتُ على مقعدي متعبًا وأنا أُحدِّق في الورقة بنظرةٍ فارغة. وبعد قليلٍ قمتُ وعبرتُ في حذَر فوق الآثار التي تركتُها على البلاط أسفل المقعد، وذهبتُ إلى الحمام وغسلت جواربي وقميصي وعلَّقتُها في النافذة. وأطفأتُ النور بعد أن تركتُ باب الحجرة مفتوحًا لأسمع العسكري عندما يأتي، وأشعلتُ سيجارة وتمدَّدتُ على السرير، ونمتُ. وفي الصباح ذهبتُ إلى منزل أخي، وكانت التجاعيد قد زحفَت على وجهه وامتلأ جلده ببُقعٍ بيضاء، وقال: تلف كل شيءٍ منذ أصبح العمال في مجالس الإدارات. وقالوا نصعد إلى الطابق الأعلى لنرى ابنته الكبرى.

«وكان أخي قد بنى الفيلَّا منذ خمس عشرة سنة، وقال إن زوجته هي التي اشترت الأرض. وكانت أول مرة يعلم أن معها نقودًا. وكان أبي وقتها حيًّا، وكان يأتي كل يوم ليراقب البناء، وكنا نسكُن في حجرةٍ ضيقة. وأكمل أخي البناء، وأجَّر الدور الأول وسكن في الثاني، ثم زوَّج ابنتَه الكبرى وأجَّر لها الدور الثالث. وعندما تزوَّجتِ ابنتُه الصغرى أخلى الدور الأول وأجَّره لها، وظل في الوسط مع زوجته. وفي البداية كان يقضي ساعة كل يوم في الحديقة يقصُّ أعشابها وهو يدخِّن البايب.»

وسألَتني عما إذا كنت أقرأ لزوجها، وقال زوجها إن الشيخ عبد الباسط قال له: إن الصلاة في المسجد الأقصى تُحسب بألف ثواب. وقالوا ننزل إلى الطابق الأسفل لنرى الابنة الصغرى. واستقبلتنا على الباب وهي تحمل طفلَها على ساعدَيها، وكانت عيناه قريبتَين من بعضهما، وقالت: أليس ابني جميلًا؟ وضحكَت، ومدت في ضحكتها لتُثير زوجها، وكان يقف بجوارها وهو يداعب نجوم بذلته العسكرية بأصابعه. وقال إن العسكري إذا فتح فمه لطمه على وجهه فيصمت. وقال: آن لك أن تتزوج. وقال: افعل مثلي. المهم في البنت هو الأصل. وأداروا التليفزيون، واعتدل أخي في عباءته وابتسم وقال: شوفوا هذا الفيلم. وكان يروي قصة فتاة تركت شابًّا في سنها وأحبَّت كهلًا. وعندما انتهى الفيلم تطَّلع أخي إلينا مزهوًّا، وأخذَني إلى حجرته، وأغلَق الباب، ثم أخرج عدة ملفاتٍ قديمة، وجلس إلى المكتب وأشعل البايب، وأراني قصصًا كتبها وقصصًا ترجمَها، ومقالات بعنوان «لك يا سيدتي» وكتابًا له عن بناء الأجسام وآخر عن معارك الحرب العالمية الثانية، وثالثًا عن الأمير عمر طوسون، وصورة قديمة له بالقبَّعة والبايب في حديقة المنزل، وصورةً أخرى مع فتاةٍ ألمانية، وقال إن ذلك كان في أيام اقتراب روميل من الإسكندرية، وكان قد بدأ يتعلم الألمانية. وأراني صورةً ثالثة في مكتب شركةٍ أمريكية، وصورةً رابعة في شركةِ استيرادٍ مصرية، وقال: نفسي في فتاةٍ صغيرة. وقال إنه لم يُحبَّ أبدًا. وقال إنه بالأمس أراد أن ينام مع زوجته، لكنها رفضَت لأنه كان قد جعلها تشتري الفاكهة من نقودها وعندما أعطاها جنيهَين فتحَت له ساعدَيها. وجمَع الأوراق المصوَّرة وأعادها إلى ملفَّاتها، وقال: أنا الآن انتهَيت. سأُربي أرانب. ونادَوْا علينا لنأكل، ثم خرجتُ وذهبت إلى المجلة وقابلتُ سري، وقال لي إنه يريد أن يساعدني لكن الظروف لا تُمكِّنه. وقال: هل قرأتَ مقالاتي؟ أنا الوحيد الذي يكتب هذا الآن. وقال: فؤاد رجلٌ تافه، تصوَّر أنه قال عني إني تلميذه. وتركتُه وذهبتُ إلى حجرة سامي في آخر الممر، وفي هذه المرة وجدتُه، وقال لي: ليست عندي أي فكرة عما كتبتَه. ووقفتُ بجوار مكتبه وهو يكتب، ورفع رأسه إليَّ فجأةً وقال: ما نعطَّلكْش، مُرَّ عليَّ بعد يومين. وخرجتُ إلى الشارع، ومشيتُ إلى المترو، ورأيتُ فتاةً رائعة الجمال من زجاج شركة الطيران. وركبتُ المترو إلى البيت ولم أجد مقعدًا خاليًا لي، ووقفتُ أتأمل الناسَ من حولي. وفي حُجرة السيدات لمحتُ جانبًا من وجه امرأة، كانت تُطِل من النافذة، وكانت ترتدي فستانًا أبيض بغير أكمام، وتبدو نظيفةً جدًّا، ولا شك أنها استحمَّت قبل أن تخرج. وكان شعرها طويلًا ناعمًا، ولا يمكن أن تكون قد فردَته عند الحلاق، ولمحتُ بجوارها طفلة. واضطَرب صدري عندما تحوَّلتْ بوجهها كله ناحيتي ورأيتُ سمارها الخمري، وكان وجهها بلا كحل أو أصباغ، وألفيتُ نفسي فجأةً في مواجهة عينَيها، كانتا واسعتَين صافيتَين، وللحظةٍ ضعتُ.

«كانت عيناها نجمتَين في فضاءٍ ساكن، وكنتُ سابحًا في الفضاء، ضائعًا، وكان بالليل عندما التقَت عيوننا، وكانت عيناها تلمعان في الضوء، رأيتُ صورتي في بياضهما الواسع ورأيتُها في سوادهما العميق. وكان ساعدُها عاريًا بجواري، وبشرتها مشربة بالحمرة وتبدو ساخنة. واشتقتُ أن أمُد إصبعي وألمسَ ساعدها عند استدارته الممتلئة قبل الكتف. وكانت بلوزتها بيضاءَ خفيفة، ولم تكن ترتدي مشدًّا؛ فقد كنتُ أرى نقطتَي ثديها على البلوزة، في المكان الذي تستريحان فيه على الحرير. وكانت بشرة وجهها ناعمة، وشفتاها ممتلئتَين، والسفلى دائمًا منفصلة قليلًا عن العليا ومقوَّسة، داكنة اللون كأنها ملتهبة من شيءٍ ما. وعندما كانت تنظُر إليَّ وتبتسم، كانت نظرتها تتعلَّق بي وأحار، وعندما احتضنتُها أول مرة سكَنتْ لحظةً ثم أبعدَتْني عنها، وكنا نجلس في الظلام، ثم مدَّت يدها إلى رأسي وجعلَت تعبَث بشَعري، ثم تسلَّلتْ يدها إلى حافة قميصي، ثم ظهري، وجعلَت تتحسَّسه بكفها؛ عندئذٍ احتضنتُها ودفنتُ رأسي في رقبتها، واستمتعتُ لحظةً بنعومة جلدها على خدِّي وجعلتُ أتشمَّم رائحتها النظيفة، ثم رفعتُ رأسي قليلًا وقبَّلتُها في فمها، ودخت. وعندما أردتُ أن أُعيد الكرة دفعَتْني عنها، وتعلمتُ أن أكتشف فيها أشياءَ أخرى، عندما تزم شفتَيها وتركن إلى الصمت مهما حدث، وأكاد أجن لأعرف لماذا. وعندما تبدو أحيانًا رقيقة حانية وأعبدها، وعندما أجلس أمامها وعيني على وجهها ويدَيها وساقَيها وأكاد أبكي من الرغبة. وعرفتُ الألم عندما كنتُ أنظُر إلى عينَيها اللامعتَين وخدَّيها الشهيَّين، وعندما كانت أصابعي تتسلَّل إلى ساعدَيها وساقي تقترب من ساقيها وترفضني. وفي آخر مرة كنتُ سأُجن، كنتُ قد بدأتُ أوقن، وأخذَتني بين ساعدَيها، وسمحَت لي أن أتحسَّس صدرها ويدَيها وأُقبِّل خدَّيها وشفتَيها، لكنها كانت باردة.»

لكنها لم تلبث أن حوَّلَت عينَيها بعيدًا، ولم تَلتفِت نحوي أبدًا بعد ذلك. ونزلتُ أمام البيت واشتريتُ طعامًا، ودخلتُ المنزل، ووجدتُ الحجرة الخشبية التي يستخدمها خال حسنية مضاءة، وبابها مفتوحًا، وعندما نظرتُ خلاله وجدتُه معتمدًا برأسه على كفَّيه يتأمل صورة فتاةٍ في إطارٍ مُذهَّبٍ على مائدةٍ صغيرة أمامه، وكانت الصورة لحسنية، وكانت عيناها في الصورة واسعتَين رائعتَين. وابتعدتُ قبل أن يُحِس بي. وصَعِدتُ إلى غرفتي، وخلعتُ ملابسي، وأدرتُ الترانزيستور، فلم أجد أغاني أو موسيقى وجعل يُخروِش. وجلستُ أحاول الكتابة، وعلى الأرض ظهَرتْ بُقعٌ سوداءُ من أثَر لذَّتي. وجاء حسن وقلتُ له لا بد أن نأتي بامرأة الليلة. وقال سأحاول. وخرج، وعاد بعد نصف ساعة، وقال: أخي على السلَّم ومعه فتاة. وقال: اختفِ قليلًا لأننا قلنا لها إننا اثنان فقط. وقال: لا تخشَ شيئًا فلن تستطيع أن ترفُضكَ ما دامت ستأخذ الثمن. وذهبتُ إلى المطبخ وأعدَدتُ الشاي، وجاء حسن، وقال إن شقيقه والفتاة في حجرتي الآن. وحملتُ الشاي إلى الصالة ووضعتُه على المائدة، وجلستُ بجوارِ المائدة، وأشعل حسن سيجارة وجعل ينقرُ بأصابعه على المائدة. وفُتح باب الحجرة بعد قليل وخرج أخوه، وصافحتُه ولم أكن رأيتُه من قبلُ، وكان ضخمًا في الأربعين. ودخل حسن الحجرة، وقدَّمتُ الشاي لأخيه، وقال لي: كيف الحال؟ قلتُ: عال. وقلتُ وأنا أُشير بإصبعي إلى الحجرة: كيف هي؟ وهَزَّ كتفه وقال: لا بأس. وقال: لقد طفنا بكل الشوارع بالسيارة لكننا لم نجد غيرها لأن الوقت متأخر. وخرج حسن وقال لي: دورك. وأخذته جانبًا وقلتُ له: لن أستطيع. ونظر إليَّ بدهشة: كيف؟ قلتُ: لا أدري. ليست لديَّ رغبة. وهزَّني وقال: لكن يجب أن تدخُل. هذه مسألةٌ مهمة، وقلتُ له إني أدرك ذلك لكني لا أستطيع. قال: تعالَ. ودفعَني نحو الباب، ودخلتُ. أغلقتُ الباب ورائي، وقال لي أخوه من وراء الباب: الجراب على المكتب. أشعلتُ سيجارة وقدَّمتُ لها واحدة، وكانت جالسةً على السرير بملابسها الداخلية. وكانت ترتدي قميصًا مخرمًا رخيصًا، بمبي اللون، مثل قماشٍ أبيض غُمس في الدم ثم غُسل عدة مراتٍ فاحتفظ بلون الدم الباهت، وكانت ساقاها عاريتَين. وعلى المكتب استقر فستانها مطبقًا في عناية، وقالت: لا أريد أن أُدخِّن، هيا بنا، وقلتُ: نشرب السيجارة أولًا. ما اسمك؟ وقالت: أريد أن أنتهي. ومدَّت يدَها إلى ساقي وفكَّت زرار البنطلون، ونحَّيتُ يدها ببطء، وقلت: نامي معي الليلة وانصرفي الصباح. وضحكَت: كده. وجذبَتْني نحوها وحاولَت أن تُقبِّلني، ونحَّيتُ فمي عن وجهها، وقمت واقفًا. وخلعتُ بنطلوني وسروالي الداخلي، وتناولتُ الجراب وجعلتُ أرتديه، لكنه تمزَّق. بحثتُ عن واحدٍ آخر فوق المكتبة فلم أجد. وقالت الفتاة: أنا نظيفة. وفتحتُ الباب وناديتُ على شقيق حسن وقلتُ: أريد واحدًا. وأعطاني واحدًا من جيبه، ولبستُه وارتميتُ فوقها، وحاولَت أن تقبِّلني فأبعدتُ وجهي. وقمتُ أخيرًا وارتديتُ ملابسي، وأخذاها وخرجوا. وبقيتُ جالسًا، وأشعلت سيجارة. وجاء رمزي وقلتُ له إني لم أستطع أن أنام مع الفتاة. وسخر مني؛ فقد استطاع هو. قابل فتاةً في الشارع واصطحبها إلى البيت، وأطفأ النور، وظل معها عشر دقائق، ثم أعطاها خمسة وعشرين قرشًا، وتطلَّع بعدها إلى وجهه في المرآة فوجده أحمر، وقال إنه لا يُوجد شيء يساوي أي شيء. وانصرف. وجاء العسكري بعد قليل، وأطفأتُ النور، ونمتُ. وفي الصباح خرجت، وأفطرتُ في الشارع ولم أشتَرِ الجرائد، وعُدتُ إلى الحجرة. وقالت أختي إن عمي عاد من الإسكندرية وإنه مريضٌ جدًّا ولا بد أن أذهب لاستقباله. وخرجتُ وركبتُ المترو إلى المحطَّة، ونزلتُ من المترو وعَبرتُ الميدان، ثم سور المحطة الخارجي. وعلى الرصيف وجدتُه يقف، وكانت حالته عادية وزوجته إلى جانبه تحمل شمسية في يدها. وأسرع أولاده يُحضِرون تاكسي، وركبوا وقالوا لي أن ألحق بهم في المنزل. وركبتُ المترو وذهبتُ إلى منزلهم، ووجدتُه جالسًا على كنبة مرتديًا بيجامته، وبدا جسمه صغيرًا قد انكمش عن ذي قبل. وتأمَّلتُ كتفَيه اللذَين تضاءلا في فانلَّته، وعينَيه الصغيرتَين اللتَين أوشكَتا أن تختفيا خلف نظَّارته السميكة. وكان بنطلون البيجامة مُلوَّثًا ببقعةٍ صفراء كبيرة فوق الكيس الضخم بين ساقيه، وقال إن كل شيء بدأ فجأةً برعشة وسخونة. واستَدعَوا الطبيب فقال إنه لا يُوجد شيءٌ البتة، وقال إن الحرارة ارتفعَت في المساء وظن أنه سيموت، وأرسل إلى الطبيب على الفور، فجاء وقال له: «تاكل مسلوق وتحلل.» وقال عمي إنه نفَّذ أوامر الطبيب يومًا واحدًا فقط. وفي اليوم التالي قال لهم آكل فرخة. وقمنا لنأكل، وأقبل على اللحم يلتهمه في شراهة، وقال: أعطوني من الكبدة. وتركتُهم وخرجتُ، وركبتُ إلى منزل ابنة عمتي، وقلتُ إني سأعرف المنزل من نوافذه الزرقاء. لكني عندما اقتربتُ منه اكتشفتُ أنها ليست كما كنتُ أتخيل، كان الزجاج عاديًّا بغير لون، إنما السماء هي التي كانت تعطيه زُرقتَه أحيانًا، وكانت ألواحه مشروخة، وواجهة المنزل صفراء متسخة. وكان باب الحديقة مفتوحًا ومائلًا على الحائط، والحديقة نفسها مهجورة، والبلاط الملوَّن في ممراتها قد اقتُلِع في أكثر من مكان. وسرتُ في الممر المؤدي إلى باب البيت، وكان هناك براز كلبٍ بجوار الحائط. وصَعِدتُ السلم الذي تآكلت درجاته، وطرقتُ الباب، وفتحت لي ابنة عمتي. ولم أعرفها في مبدأ الأمر؛ فقد كان شعرها منكوشًا تتخلَّله خصلٌ رمادية كثيرة، وكانت عيناها منطفئتَين، وجلد وجهها بنيًّا. وفي الصالة رأيتُ الحجرة القِبْلية، ومشيتُ إليها وقلتُ لها: أين مكنة الخياطة التي كنتِ تضعينها هنا؟ وقالت: ألا زلت تذكر؟

«أجل، لا زلتُ، كان ذلك في الشتاء، بعد الغداء، وفي الحجرة البحرية جلس أبي مع عمَّتي خلف زجاج الفراندة يرقبان القصر، وذهبتُ إليه وأردتُ أن أجلس على ساقَيه، لكنه نحَّاني عنه قائلًا إني لم أعُد صغيرًا. وغادرتُ الحجرة إلى الصالة، وعَبرتُها إلى حجرة ابنة عمتي، وكانت تجلس أمام مكنة الخياطة، وجلستُ أرقبها وهي تدير المكنة بساقها، وقالت لي: تصوَّر .. انقطع الخيط من أول دورة. إنه شيطان الذي ركَّب هذه المكنة. وانحنَت على المكنة بعد أن رمقَتني بنظرةٍ سريعة. وحوَّلتُ بصري إلى النافذة وأنا أشعر بأُذني ساخنتَين وكنتُ لا أزال أرى وجهها الأبيض الرقيق والحمرة الشاحبة على خدِّها وأنا أتطلَّع إلى النافذة المغلقة. الزجاج فقط هو الذي كان مغلقًا، ومن خلفه ظهرت السماء، وخلالَه تدفَّقتْ أشعة الشمس الباهتة .. وتحت في الحديقة كانت أشعة الشمس تضيء فُوَّهة البئر السوداء. وبعد ساعة سيأتي الصبية وأنزل معهم ونرفع الماء بالمِضخَّة، وسنسرق الزهور ونهزُّ شجر المانجو بلا فائدة، ونجري في البدروم والسراديب. وهذه المرة سأختبئ منهم في الحجرة المتطرفة التي تُفتَح في رمضان ليقرأ فيها المشايخ كل ليلة. وعندما ننصرف بالليل ستُودِّعنا عمتي إلى الباب، وتضيء نور السلَّم، ونهبط درجاته البيضاء العريضة، ونخرج إلى الممر، ونمضي فوق بلاطه الملوَّن، ثم نفتح باب الحديقة فيَئِز، ثم نُغلِقه تمامًا، وننطلق إلى الشارع العريض الهادئ بلا صوت، وعندئذٍ أجمع الياسمين من أسوار الحديقة .. وقالت صديقة ابنة عمتي شيئًا. كانت تقف على مقربة أمام مرآة الدولاب وهي تمس شفتَيها بإصبع الروج، لكني لم أنظر ناحيتَها، كانت طويلة وعيناها خضراوَين، ولم تخاطبني إلا بكلمةٍ واحدة: إزيك. قالَتها عندما دخلَت الغرفة، ثم وجهت كل اهتمامها إلى ابنة عمي، لكن ابنة عمتي كانت تُكلِّمني أنا عندما قالت: تصوَّر. كان دولابها الصغير خلفي، تعلو مصراعَيه الخشبيَّين مرآتان بيضاوان كالعينَين، وتتدلى من منتصفه عند ثقب المفتاح مطرقةٌ صغيرة من النحاس تُحدِث رنينًا جميلًا عند فتح الدولاب. وفي داخل الدولاب أدراجٌ مغلقة، ودون أن أُحرِّك عيني عن النافذة استطعتُ أن أرى أصابعها تلمس مقبض المكنة في خفَّة، فتدور العَجلة في ضجَّة. وانحنَت تتابع حركة القماش تحت الإبرة فسقطَت ضفيرتها على صدرها، وقالت لها صديقتها: ألن تنتهي أبدًا؟ تأخرنا. ورفعَت ابنة عمتي رأسها والتقت عيناها بعينيَّ وهي تتطلَّع إلى صديقتها وقالت: خلاص آخر خط. وأغمضتُ عيني، وسمعتُ بعد برهة رنين مطرقة النحاس الصغيرة.»

وجاءت أختي وقالت: المجاري في البلد طافحة. ودخل قريبٌ عجوز لابنة عمتي، وكان يلهث في قوة، ولم يكن يرى جيدًا من خلف نظَّارته، وتجهم وجه ابنة عمتي، وقال العجوز: أعطني شلنًا بعدما أشرب القهوة. وخلع طربوشه ووضعه بجواره على الكنبة. شرب القهوة وظل جالسًا، ودخلَت ابنة عمتي حجرتها ثم عادت وسألَتني إذا كانت معي فكَّة، ولم تكن معي فكَّة. وأرسلوا الطباخ ليفك عشرة قروش إلى شلنَين، وجلسنا ننتظره صامتين حتى عاد. وأعطت ابنة عمتي الشلن للعجوز، فقام وارتدى طربوشه وسلَّم علينا وخرج، وقالت ابنة عمتي: هذا العجوز ماكر، يلهث فقط عندما يدخل علينا. وقالت أختي إنه يقيم مع ابنه المتزوج، وإن زوجة الابن تُحرِّض أطفالها على تمزيق ملابسه وإخفاء حذائه، وتتركُ غرفته قذرة. وقالت ابنة عمتي: سيشرب بالشلن خمرًا. وقالت أختي: عندما يذهب إلى ابنته تتركه في الصالة وتدخل حجرتها وتُغلِق الباب عليها. وقالت ابنة عمتي إنه يقضي النهار كله في الخارج يشرب الخمر ويدور على أقاربه يشحذ منهم.

«في نفس هذه الصالة منذ أعوامٍ بعيدة كانت عمتي تجلس على الكنبة بطَرحتها البيضاء وهي تدخِّن. وبجوارها أبي لا زال يلهث من السلَّم والحر وهو يجفِّف بمنديله رأسَه الأصلَع الذي يدور به شعرٌ أبيض. وجاء الطباخ وأخرجَت عمتي كيس نقودها وأعطَته جنيهًا، وانصرف الطباخ. وقال لها أبي شيئًا، فهزَّت رأسها بالرفض .. وقام أبي فعَبَر الصالة إلى الحجرة البحرية وخرج إلى الفراندة وجعل يدخِّن.»

وقالت أختي إن نهاد خُطبَت إلى مدير في القطاع العام. ورويتُ لابنة عمتي كيف سألَتني قريبة نهاد عما إذا كنت ابن أبي الشوارب الواقفة، وضحكنا. وقالت أختي إن جدة نهاد مريضةٌ وإنهم لا يطيقونها. وقالت ابنة عمتي: قبل أن تموت أمي ظلَّت شهورًا في الفراش لا تُغادِره، وكانت تتبوَّل فيه. وقالت أختي إن زوجة ابن عمي سقطَت في شهرها السادس. وقلت: هذا أحسنُ لها. وغَضِبتْ أختي واتهمَتْني بأني لا أُحِس. وقالت إني الوحيد الذي لن يتمكَّن من حضور زواجها لأنه سيكون بعد الغروب. وقالت إن صديقتها حسنية ستتزوَّج بعدها بأسبوع، وسيعود خالها إلى منزله. وقالت إن خال حسنية كان يقيم عندها طول الوقت بعد أن هجَر امرأتَه. وقالت إن امرأتَه لا تخلَع السواد أبدًا، وإنه يقول إن ملابسها الداخلية كلها سوداء. واقترب مني كلب ابنة عمتي وهو يهزُّ رأسه، ومددتُ يدي أُداعبه، فنام على ظهره في الحال، وانثال بولُه في الأرض، وقالت إنه أصبح هكذا أخيرًا؛ فما إن ينام هكذا على ظهره حتى يبول. وانصرفتُ إلى حجرتي، وخلعتُ ملابسي، وأعددتُ كوبًا من الشاي، وجلستُ أقرأ في كتاب عن فان جوخ. ولا بد من أني غفوتُ؛ فقد رأيتُ أني التقيتُ بأبي، وكان يبدو متعبًا، وجلس مُتربعًا على سريره، متجهمًا، ولم أعرف ماذا أقول له وأنا لي مدة لم أُحاول أن أراه، كان موجودًا طول الوقت ولم أفكِّر في الذهاب إليه. واستيقظتُ على صوت جرس الباب، وقمتُ أفتح، وكان العسكري، فعُدتُ أُحضِر الدفتر ووقَّع وانصرف. وعُدتُ إلى الحجرة فأطفأتُ النور وأشعلتُ سيجارة، واستلقيتُ على السرير أفكِّر في أبي.

«كان ذلك بالليل، وكان أبي يصرخ من الألم، وكنتُ أريد أن أنام. وعندما أخذوه إلى المستشفى بقيتُ بمفردي في البيت، وكنتُ سعيدًا. وعندما ذهبتُ إليه اصطدمتُ بعينَيه، وكانتا واسعتَين جزعتَين، وسألني لماذا تأخَّرتُ، ولم يكلِّمني بعد ذلك أبدًا. وقال: أقرأ لي. وجلستُ بجواره على مقعد، وأعطاني ظهره، وأمسكتُ بمجلة وقرأتُها له. وبعد لحظة مِلتُ عليه لأرى عينَيه، وكانتا مغلقتَين، فتوقَّفتُ عن القراءة، لكنه فتح عينَيه وقال: لم أنتهِ بعدُ. وعُدتُ أقرأ، وأخيرًا قال: يكفي هذا، يمكنك أن تنصرف. وخرجتُ مسرعًا وأنا أتنفَّس الصُّعداء. وبعدئذٍ لم يطلب مني شيئًا، ولم أَرَ الرعب الذي كان في عينَيه. وعندما أعادوه إلى البيت حملوه من السيارة إلى السرير. وفي بيت أخي استبدلوا أغطية المقاعد بأخرى داكنة، ولم أفهم. وعندما أَخرجَ دماءً من فمه نزل أخي يبحث عن وعاء، وعاد ينهج ويقول: دخت ولفيت. وارتمى على الكنبة يلهث وهو يتطلَّع إلينا. وأخيرًا رقد أبي على ظهره في صورةٍ مستقيمة، وغطَّوا جسده كله، ووجهه بملاءةٍ بيضاء، وساوَوْا جسده، وقالوا إنه لم يسأل عني. ورفعتُ الملاءة عن وجهه ولكن عينَيه كانتا مغلقتَين.»

ونمت. وفي الصباح ذهبتُ إلى الشقة الجديدة التي ستنقل إليها أختي في المساء. كان البيت كله جديدًا، لا زال العمل يجري في بعض طوابقه. ووجدتُ باب الشقة مفتوحًا وخطيب أختي يقف أمامه. وصحبني إلى الداخل، وعَبَرنا الصالة إلى حجرة الصالون. وأراني صورةً كبيرة على الحائط لبيتٍ أوروبي على شاطئ وأمامه قارب. وقال بزهو: إنها رسم أخي. ثم انتقلنا إلى حجرة النوم، وفتحنا أبواب الدولاب الأربعة، وجلسنا على السرير واهتزَزْنا فوقه، وتحسَّسنا أغطيتَه ووسائدَه بأيدينا، ثم خرجنا إلى الصالة وفتحنا الثلاجة ثم أغلقناها. وقادني إلى الباب وأشار إلى مصباح فوقه وقال: بمجرد أن أفتح الباب يضيء هذا المصباح من تلقاء نفسه، ثم ينطفئ عندما أُغلِقه. وقال: انتظرني هنا حتى أذهب وأجيء بالسخَّان والفرن، وخرج. وجلستُ في الصالة المظلمة وأشعلتُ سيجارة، وقمتُ وضغطتُ على زر النور، لكن الكهرباء لم يكن قد تم توصيلها بعدُ، وتأمَّلتُ غطاء المصباح الذي كان على شكل قمرٍ صناعي. وعُدتُ فجلستُ إلى المائدة وجعلتُ أدخِّن وأنا أتأمَّل حوافَّ مقاعدها اللامعة بلا أي خدوش. ووصل السخان بعد قليل لكن خطيب أختي لم يأتِ. انتظرتُه مدةً أخرى وأنا أدخِّن، ثم قمتُ إلى النافذة، ووجدتُ الشمس تغيب، ثم رأيتُه يسير في الشارع بمفرده في اتجاه المنزل، ولم يكن هناك أحد غيره في الشارع. وصَعِد بعد قليل، وصافحتُه قائلًا: مبروك. وغادرتُ المنزل إلى حجرتي، فأضأتُ نورها، ووضعتُ الدفتر في جيبي، وجلستُ في مقعد وظهري إلى الباب، وأمسكت بكتاب. وبعد قليلٍ قمتُ وأدرتُ المقعد بحيث يكون الباب أمامي، وعاودتُ القراءة. وبعد لحظةٍ تطلَّعتُ إلى الباب من فوق حافة الكتاب، وكانت الشقة غارقة في الظلام، وحاولتُ عبثًا أن أواصل القراءة. وقمتُ وخرجتُ إلى الصالة، وأضأتُ نورها، وكانت حجرة جاري مظلمة، وانتقلتُ إلى المطبخ فأضأتُ مصباحه، وعُدتُ إلى حُجرتي، وأمسكتُ بالكتاب مرةً أخرى. وطرق الباب فجأة، وقمتُ لأفتح، وتذكَّرتُ أختي، وكانت تقول إنها تشعر عندما يُطرق الباب أن أحدًا سيدخل ويضربني. فتحتُ شرَّاعةَ الباب أولًا فوجدتُ العسكري أمامي. فتحتُ له الباب، وتناولتُ الدفتر من جيبي وقدَّمتُه إليه، فوقَّع ثم انصرف. وعُدتُ إلى حجرتي، وحاولتُ أن أقرأ من جديد، لكني لم أستطع، وأخذتُ أتمشى في الحجرة، ووقفتُ في النافذة، كانت كل النوافذ أمامي مغلقة. وخلعتُ ملابسي وارتديتُ البيجامة ثم أغلقتُ باب الحجرة، وتركتُ النور مُضاءً في الصالة والمطبخ، وأشعلتُ سيجارة واستلقيتُ على الفراش، وعندما انتهت السيجارة قذفتُ بها من النافذة، وأعطيتُ وجهي للجدار ونمت. واستيقظتُ فجأةً وأنا أشعر بصُداعٍ حاد وعطشٍ شديد. وغادرتُ الفراش، وكان الليل لم ينتهِ بعدُ، وفتحتُ الباب وذهبتُ إلى الحمَّام، وانحنيتُ على صنبور الماء فشربتُ، ثم أغلقتُ الصنبور، واكتشفتُ أن أرض الحمام غارقةٌ في الماء. وعُدتُ إلى حجرتي، وكان هناك إصبعُ موزٍ على المكتب فتناولتُه ونزعتُ قِشرتَه ثم أكلتُه ووضعتُ القشرة على المكتب، وعُدتُ إلى فراشي. واستيقظتُ مرة أخرى، وكانت الشمس تملأ الحجرة، وظللتُ ممددًا، ثم قمتُ وأخذتُ فرشاة الأسنان والصابونة وذهبتُ إلى الحمام، ووجدتُ المياه قد ملأَت أرضه وتسلَّلتُ إلى الصالة، وكان الصنبور تالفًا. ووقفتُ وسط الماء وغسلتُ وجهي وأسناني، وعُدتُ إلى الحجرة تاركًا آثار أقدامي المبلَّلة في كل مكان. وارتديتُ ملابسي، وغادرتُ الشقة ونزلتُ إلى الشارع، وركبتُ المترو إلى نهايته، وسِرتُ على الكورنيش، ثم عَبَرتُ الكوبري وولجتُ أول كازينو صادفَني، واخترتُ مائدةً منعزلة على النيل وجلستُ. وجاءني الجرسون فطلبتُ قهوة، وجعلتُ أتأمَّل المياه أمامي. وتابعتُ ببصري قاربًا به شابٌّ عاري الصدر يجدِّف، وفجأةً سقط منه أحد المجدافَين وابتعدَت به المياه. وأدار الشاب دفَّة القارب محاولًا اللحاق بالمجداف الضائع، وكان يعمل الآن بمجدافٍ واحد وينقله كل لحظةٍ إلى أحد جانبَي القارب. لكن المياه كانت تُعاكِسه، وكلما أفلح في الاقتراب من هدفه ابتعَد عنه. وبدأ يجدِّف بحركاتٍ محمومة، وبدا اليأس عليه. وترك المجداف فجأةً وضَمَّ راحتَيه أمام فمه، وصرخ لزميلٍ له في قاربٍ بعيدٍ طالبًا النجدة، لكن زميله لم يرُدَّ عليه وربما لم يسمعه. ولم تكن القهوة قد جاءتْني، وناديتُ على الجرسون فلم يلتفت ناحيتي، فقمتُ وغادرتُ الكازينو، ومشيتُ إلى الكوبري وركبتُ الأتوبيس. ونزلتُ في أول سليمان، وجلستُ في أول مقهًى صادفَني، وشربتُ القهوة، ثم أشعلتُ سيجارة. وقمتُ فسِرتُ إلى شارع توفيق، ثم انحدرتُ في التوفيقية ووقفتُ أمام سينما كايرو، وكانت تعرض فيلمًا كوميديًّا. وابتعدتُ في اتجاه شارع فؤاد وعَبَرتُه، وانحنيتُ في شارع شريف، وواصلتُ السير فعَبَرتُ شارع عدلي ثم ثروت، ومضيتُ في اتجاه شارع سليمان، ثم سرتُ فيه حتى الميدان، وكانت مياه المجاري تملأ الأرض، والمضخات منصوبة في كل مكانٍ تحملها من داخل الحوانيت إلى الشارع، وكانت الرائحة لا تُطاق. والتقيتُ بشخصٍ أعرفه، وقال إنه استيقظ منذ ساعةٍ فقط هو الآخر. وكان يمدُّ ليلحق موعدًا، وأسرعتُ بجواره وقلت: سأمشي معك حتى موعدك. لكنه قال إننا يجب أن نفترق الآن. وتركَني، وعبرتُ الشارع وعُدتُ في اتجاه الميدان، ثم انطلقتُ في شارع قصر النيل حتى وصلتُ السينما. تفرَّجتُ على الإعلانات التي قالت إن هذا العالم مجنون. واتجهتُ إلى شبَّاك التذاكر وكان كاملًا، ووجدتُ شبَّاكًا للحجز والمقاعد كاملة في حفلتَي المساء، والناس تحجز للغد وبعده. غادرتُ السينما وعُدتُ أسير في اتجاه الميدان مرةً أخرى ثم شارع سليمان. وفي هذه المرة سِرتُ على الناحية التي لم أَسِر عليها في مجيئي. وعندما وصلتُ سينما مترو وجدتُ بها فيلمًا كوميديًّا هي الأخرى. وتجاوَزتُها، ووقفتُ أمام الأميركين مترددًا. وكانت سينما ريفولي على يساري وأمامها زحامٌ شديد، وتذكَّرتُ سينمات شارع عماد الدين. وعبَرتُ الشارع، وواصلتُ السير في شارع فؤاد حتى عماد الدين، فانحرفتُ فيه، وسرت على اليسار وكان هناك زحامٌ هائل أمام كل السينمات، ولا تعمل قبل ساعة ونصف. ووصلتُ إلى نهاية الشارع، فمضيتُ في شارع رمسيس واتجهتُ إلى باب الحديد. وخُيِّل إليَّ أن أحدًا يتتبَّعني، ثم قارنتُ ساعتي بساعة المحطة، واتجهتُ إلى مقهًى في الميدان عند بداية شارع الجمهورية، فجلستُ في الخارج. واختفت الشمس فجأة، وساد لونٌ رمادي، وتذكَّرتُ هذه المنطقة منذ عشرين عامًا، ودخان القطارات الآتي من باب الحديد واللون الرمادي في كل مكان؛ في السماء والطرقات والبيوت. وقلتُ أقوم أبحث عن ذلك المنزل القديم؛ فربما كانت أمي لا تزال هناك. وقمتُ بسرعة قبل أن تعود الشمس، كنتُ أريد أن أقترب من المنزل في الغيام. وعبَرتُ شارع كلوت بيه، وتركتُ شارع الفجالة، واخترقتُ الشوارع الصغيرة التي تصلُه بالميدان. وأحسستُ أني أقترب من مكان البيت، وأنَّ بوسعي أن أخترق عدة شوارعَ جانبية فأصبَح بجواره. لكني قرَّرتُ أن أقترب منه من ناحية شارع الفجالة كما كنا نفعل أنا وأبي.

«وكنا نأتي بالترام، ونأخذُه من الميدان قبل أن يتحول إلى شارع الظاهر. وكنتُ أحب هذا الشارع الهادئ لأنه كان مليئًا بالأشجار التي تتعانق أغصانها فوقه، في المنتصف، فتحجبُ عنه الضوء. وكنتُ أحب صوت السنجة وهي تشُق طريقها بصلابة بين فروع الأشجار. ومع ذلك كان الترام ينطلق بأقصى سرعة، فنترك وجوهنا لهواء العصر، ويضع أبي يده على طربوشه كي لا يطير، ثم ينتهي الشارع، وينحني الترام دالفًا إلى الميدان الواسع ويُبطئ من سرعته، ثم يتوقف أمام الجامع. وأتطلَّع إلى الحديقة الكبيرة التي تنحدر إلى أسفل حتى تختفي عن أنظار الجالس في الترام. وخلال الأقواس الحجرية الكبيرة في جدران الجامع أرى الأردية الحمراء والزرقاء للأولاد والبنات الذين يلعبون في الحديقة، وتظل عيناي عليهم، والترام يُعاوِد السير ويدور حول الجامع، ثم يختفي الجامع بحديقته مرةً واحدة، ويضع أبي يده القوية على ركبتي العارية ليحميني عندما يستدير الترام في حدة، ونَعبُر شارع الخليج الضيق. وأتمنَّى لو كان الترام الذي نركبه هو ترام الخليج لنمضي بين جانبَي الشارع المتقاربَين. ويمُد أبي يده فيكاد يلمس جدران المنازل، ثم نهبط في الفجالة، ويُمسِكني أبي بيده اليمنى حتى نعبُر الشارع، ثم ننطلق في طريقٍ ضيق، ونمشي إلى جوار جدارٍ أبيض عالٍ تتدلَّى فوقه أغصان الأشجار. ويُظلِم الشارع فجأةً رغم أن الشمس لم تختفِ بعدُ، وأُدرِك السبب عندما أتطلَّع إلى أعلى وأرى سُحُب الدخان الكثيف تتجمَّع بسرعة ثم تتبدَّد بعد لحظة، ويقول أبي إنه دخان القطارات قادمًا من باب الحديد. وينتهي الشارع، ويظهر المنزل الذي نقصده، ويجلس أبي على دكَّة البواب، بينما أصعد السلم الطويل مارًّا بأبوابٍ تتصاعد منها رائحة الزيت المقلي. وفيما بعدُ نعود أنا وأبي من نفس الطريق الضيق، سائرين إلى جوار الجدار الأبيض، وعندئذٍ ألمح الأجراس الضخمة من خلفه. ويكون الشارع قد أظلم تمامًا وخلا من المارة، وتتبدَّى في نهايته بقعة من الضوء، سرعان ما تتكشَّف عن حانوت سجائر. ونقف في المدخل الذي تسُدُّه فاترينةٌ كبيرة عالية، وأُلصِق وجهي بزجاجها الذي أعتمَت بعض أجزائه. وأُحدِّق في عُلَب الحلوى والشيكولاتة، وبجوار رأسي ألمح يد أبي تمتد إلى الجيب العلوي لبنطلونه فتُخرِج نقودًا ثم تُدحرجها فوق الزجاج، عند رأسي تمامًا، ثم نترك الحانوت ونَعبُر الشارع إلى موقف الترام. وأشعر بالبرد، فألتصق بأبي، ويبسُط هو ياقة سترته ليُغطِّي صدره. ونقف وحدنا على رصيف المحطة، ثم يأتي الترام فنصعد إلى العربة الخلفية المكشوفة، وننكمش في ركنها وقد أمسَكَ أبي ركبتي العارية بيده الدافئة. وينطلق الترام في رحلة العودة، ولا نلبث أن نعبُر شارع الخليج، ثم ينحرف الترام فجأةً إلى اليمين، ويختفي صفُّ المنازل الذي كان يجري معنا على الشمال، وينبسط أمامنا فضاءٌ واسعٌ مظلم أخافُ أن أقعَ فيه، فأتشبَّث بأبي. وبعد لحظاتٍ تألف عيناي الظلام، فأتبيَّن الميدان الكبير وكُتْلة الجامع وسطه، ويدور الترام حول الجامع ونتخطَّى سينما مغلقة كنا نذهب إليها في الصيف مع أمي، ثم نندفع في شارع الظاهر المليء بالأشجار، وأَسندُ رأسي على الحاجز الخشبي لأستمتع بسرعته الخارقة هنا، وألمح أبي يُغلِق عينَيه في مواجهة الهواء الذي يُهاجمنا بعنف.»

ومشيتُ مع الترام حتى الكنيسة، ودخلتُ الشارع المجاور لها، وكان مزدحمًا مليئًا بالضجيج. وانتهى الشارع، وانحرفتُ إلى اليمين، كان البيتُ الذي أذكُره عاليًا جدًّا، له بلكوناتٌ خشبية عريضة، ألقت أمي بنفسها من إحداها ذات مرة، فسقطَت في البلكونة التالية. وطُفتُ بعيني بين البيوت، كانت كلها واطئة، لكنَّ واحدًا منها فقط كانت له بلكوناتٌ خشبية، وقلتُ لا بد أن يكون هو، فاقتربتُ منه في بطء. كانت البلكونات صغيرةً والمدخل ضيقًا، والمدخل الذي أذكُره عريض. واجتزتُ المدخل وصَعِدتُ السلَّم في بطء، وانتهيتُ من السلَّم بأسرعَ مما توقَّعتُ، وكانت هناك حجرةٌ صغيرة في قمَّته. طرقت الباب، وسمعتُ صوتًا نسائيًّا يقول: ادخل. ودفعتُ الباب، ووقفتُ في المدخل. كانت هناك ثلاثُ سيداتٍ متشحاتٍ بالسواد تَربَّعن على سريرٍ في الركن، وقامت واحدة منهن وأسرعَت ناحيتي وهي تقول: مين؟ وعرفتُ فيها جدتي، وقلت لها اسمي في صوتٍ خافت، فاحتضنَتني وقبَّلَتني في خدي، وقالت: اجلس. وجلستُ على مقعدٍ خشبي في مدخل الحجرة، وأشارت جدتي إلى أصغر السيدتَين وقالت: هذه خالتك. وتقدَّمتْ خالتي مني وقبَّلَتني في خدي. وقالت جدتي: وهذه خالتي أنا. وأشارت إلى السيدة الأخرى. وقمتُ، وحملتُ المقعد، واقتربتُ منهن، ثم وضعتُه بجوار السرير وجلستُ فوقه. وقالت خالة جدتي: مسير الحي يتلاقى. وقالت جدَّتي: ساعة ما شفتك حسيت .. وقالت خالتي: لسَّه كنا بنقول يمكن بنقابلهم في الأتوبيس من غير ما نعرفهم. وتناولت جدتي الترانزيستور وقالت: جاء ميعاد الرواية. وأعلن صوتٌ رصين في الراديو عن إحدى حلقات الشبح الأسود. وبدأَت الحلقة بصبي يسأل في صوتٍ باكٍ: كيف يستطيع الحياة بعد أن علم أن أباه هو القاتل. وجلستُ أستمع في صمت، وأبصارهن جميعًا معلَّقة بالراديو. ومضت ربع ساعة، وانتهت الحلقة، وقامت جدتي لتصلي. وجاء أطفالٌ صغار، وقالت لهم خالتي: هذا ابن خالتكم الله يرحمها. ونظَرتْ إليَّ بطرف عينها، ولم أتكلم. كنتُ أريد الآن أن أعرف متى ماتت أمي على وجه التحديد وأين. وفَرغَت جدَّتي من الصلاة، وجاءت فجَلسَت بجواري، قلتُ لها: متى ماتت أمي بالضبط؟ وقالت: غدًا يكتمل أول أسبوع عليها. وقلتُ: أين، قالت: عند أبيها. وأشرتُ إلى رأسي وقلت: وكيف حالها؟ وقالت خالة جدتي: كانت تقرأ الصحف وتتحدَّث عن كل شيءٍ أحسن منا، وتتنبأ بكل ما يحدُث، ولم تكن تثور. وقالت جدتي: ثم مرضَت فجأة ورفضت أن يراها الطبيب، أو أن تأخذ دواءً ما، وأخذَت تَهزلُ شيئًا فشيئًا، ثم امتنعَت عن الطعام نهائيًّا. وقالت خالتي: وفي آخر يوم طلَبتْ كوب ماء، وعندما شَربتْه سقطَت ميتة، وتطلَّعتُ في ساعتي، كان موعد العسكري يقترب، وقمتُ واقفًا، وقلتُ يجب أن أذهب الآن. وودَّعتُهُن، ونزلتُ السلَّم، وغادرتُ البيت، واخترقتُ الشوارع الجانبية حتى ميدان رمسيس، ثم اتجهتُ إلى محطة المترو.

مصر الجديدة
١٩٦٥

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى