(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وعلى ضوء ما تقدم من حياة السلطان الرشيد نستطيع الآن أن نقول: إن الرشيد كان والده ملكاً على الصحراء بعد أن ولد هو بعام فقط، ثم تولى أخوه محمد الملك يوم أن كان هو لا يتجاوز من العمر عشر سنين، فقد نشأ الرشيد بين أحضان الملكين والده وأخيه؛ ثم إن السن التي يمكن أن يكون الرشيد فيها طالباً بجامعة تبعد عن بلده بعشرات الأيام، لا تقل مطلقاً عن خمسة عشر عاماً إن لم تكن فوقها بكثير. . . والرشيد في مثل هذه السن كانت دولة أخيه وقتئذ آخذة في القوة والانتشار، لكنها لم تبلغ فاسا. . . فلو أن الرشيد سار إلى جامعة القرويين طالباً، لسار إليها على أنه ابن ملك وأخو ملك، لا على أنه طالب عادي كما في القصة الآنفة الذكر. فإذا ذكرنا أيضاً أن الخصومة السياسية بين السلطان محمد ملك الصحراء وولاة فاس قد تكون حجر عثرة في ذهاب الرشيد إلى فاس تأكد لدينا بطلان تلك القصة. . . أضف إلى هذا أن كل من أرخوا للرشيد لم يذكروا أنه دخل فاسا إلا يوم أن دخلها فاتحاً
وهذه أسطورة أخرى لا تقل في التنسيق وبراعة الحبك عن سابقتها. تتحدث الأقوام التي رام على قلوبها الجهل فتبدع قصة من الخيال لتكون تاريخاً لسلطنة الطلبة. ولماذا نعيب على هؤلاء الأقوام جهالتهم وقد سكت حضرات المؤرخين عموماً عن صفحة ناصعة من التاريخ المغربي المشرق، ولم يستفز شعورهم مغزى تلك السلطنة التي تحمل في جوانبها نبل الغرض وشرف الغاية، وكان خليقاً بهم أن يكتبوا تاريخ (سلطنة الطلبة) بإسهاب ويبدعوا في وصف تلك المظاهر والمناظر أبدع الوصف، وحتى الشعراء - وهذا هو الغريب - كان لهم وجوم غامض أمام هذه السلطنة لست أدري أكان ناشئاً عن عدم تقديرهم لمغزاها السامي أم أن شعورهم كان قد انحط في هذين القرنين المتأخرين فلم يعد منهم من يذكرنا بمثل أبي تمام وأبي العلاء والمتنبي من شعراء القديم، أو بمثل شوقي وحافظ وإق من متأخري الشعراء، وإنما كان هناك شعراء حافظوا بكل أمانة على أوزان الشعر وقوافيه، ولم يخرجوا قيد شبر عن بحور الخليل وأنهار تابعيه، وأحسب من هنا جاءت العلة الأولى أيضاً، فكان مفهوماً ألا يهتم شعراؤنا - سامحهم الشعر - بسلطنة الطلبة وما تحويه من معاني الشعر والخيال. وأنى لهم ذلك الحس المرهف، والفكر المصقول، والقلب الشاعر، وهم إنما دخلوا إلى الشعر من باب الأوزان والقوافي؟!
قال رواة الأسطورة التاريخية: عندما أخذت الدولة السعدية في الانحلال والانخذال بعد وفاة المنصور السعدي، نشأ في كل مقاطعة من أرض المغرب رؤساء وزعماء يتولون حكم مقاطعتهم مستقلين تمام الاستقلال عن باقي المقاطعات الأخرى، فكان من سوء حظ مدينة تازة أن جار على مقاطعتها يهودي يدعى ابن مشعل، وامتد نفوذه إلى فاس فأرغم أهلها على تقديم هدية رسمية إليه عند رأس كل سنة. وليس هذا هو الغريب إنما الغريب أن تكون هذه الهدية عبارة عن أجمل فتاة في أكبر أسرة بفاس تقدم إلى ابن مشعل لتكون واحدة من جواريه وخدمه في قصر إمارته، كدليل على إخلاص الفاسيين له، وخضوعهم لحكمه
يالها من خرافة ما أشد سخافتها وبلاهتها عند من يعرفون المغاربة عموماً وأهل فاس على الخصوص! أتبلغ الجرأة بيهودي حقير إلى أن يصير حاكماً على بلد إسلامي، ثم يتجاوز هذا فيرغم بحكم سلطته بلداً عريقاً في الأسلام على أن يقود له أجمل وأشرف فتياته إلى دار الفسق والهوان؟
عندما تسيل آخر نقطة من الدم العربي الطاهر الذي يعيش على وجه البسيطة في المشارق والمغارب، عند ذلك يصح أن يكون لليهود حكم على العرب، أعني على أرض العرب
إيه يا فلسطين، عشت للعرب وعاش العرب لفلسطين
وعادت الأسطورة فقالت: ثم ما لبث أمر اليهودي أن سمع به شاب عربي صميم يدعى الرشيد بن الشريف فأخذته النخوة العربية ونفخت في أعصابه روحاً من الشهامة والإباء وكان طالباً من طلبة الجامعة القروية
فماذا فعل الرشيد يا ترى؟ لقد جمع حوله أربعين شاباً من صناديد الطلاب، ثم تم الاتفاق بينه وبين القائمين بأمر الهدية التي تقدم لليهودي على أن يكون هو هذه الفتاة العذراء التي ستهدى هذه المرة، وأن يكون أصحابه الأربعون في مكان (شورة) العروس، والمراد أن يندس هؤلاء الشبان داخل القبب التي تكون في صحبة العروس، وأن يكونوا عوناً لزعيمهم على ما يريد.
وتم كل شيء، فتسلح زعيم الطلبة الرشيد بن الشريف كما تسلح أبطاله الأربعون واتخذوا مطاياهم من الجمال فوقها الأخبية والقبب، وسار موكب الفتاة من فاس إلى ضواحي تازة من غير أن يكون فيه ما يبعث على الارتياب والظنون.
ولو كان لابن مشعل قليل من دهاء الزباء لأنشد مثل ما أنشدت هي في قصتها الشهيرة إذ قالت:
ما للجمال مشيها وئيداً
أجندلا يحملن أم حديداً
أم صَرفَانا تارزا شديداً
ولو أن ابن مشعل قال هذا لأجابه الرشيد في نفسه:
بل الرجال قبضاً قعودا
ثم قالت الأسطورة: ووصل الركب إلى دار ابن مشعل من غير أن تحوم حوله ريبة أو شكوك، فاستقبله اليهودي بسرور الظافر، وغبطة المنتصر، وأمر في الحال بإغلاق أبواب الدار، إذ كان قد استعجل لقاء الفتاة التي لن يجد شبيهتها في بنات إسرائيل، ولكنه ما استعجل إلا لقاء حتفه؛ فلقد حدث ما لم يكن في الحسبان من قبل. لم يشعر المسكين أن رأى جيشاً من الأبطال الغائصين في سلاحهم قد أحاطوا به إحاطة الجزارين بالذبيح؛ ثم سالت الدماء في بطاح دار ابن مشعل، حتى لم يبق بها دم حي
وفي صباح اليوم التالي أجمعت كلمة الطلبة الأربعين على مبايعة زعيمهم الرشيد فبايعوه على سنة الله ورسوله ملكاً على المملكة المغربية.
وأراد الرشيد أن يكافئ رجاله الأشداء على ما قاموا به من أعمال جسام، فأقام لهم سلطنة هزلية مؤقتة، وجعلها إرثاً مشاعاً بين جميع طلاب الجامعة القروية - عدا الفاسيين - يتبوأن عرشها أسبوعاً واحداً في العام كله
تلك هي الأسطورة التي تسير على أفواه رواة التاريخ المجهول؛ ولعلنا لا نحتاج إلى تضعيفها من الوجهة التاريخية بعد ما ذكرناه عن حياة السلطان الرشيد وكيفية جلوسه على عرش الملك المغربي العتيد
وبرغم ما في هذه الأسطورة من التزيد والتلفيق فإنها تستند في أصل وضعها إلى شيء من الحقائق التاريخية التي أشار إليها بعض الثقات من المؤرخين، فإنه قال ما معناه: وفد السلطان الرشيد يوم كان يتهيأ للجلوس على عرش المغرب ويعمل على إفهام الشعب أنه خليق بهذا العرش على رئيس يدعى الشيخ اللواتي، وبينا هو في ضيافته إذ رأى رجلاً يصطاد في هيئة الملوك وحوله حاشية من المماليك والفرسان فسأل عنه فقيل هو ابن مشعل من يهود تازة وقد عتا فيها وتجبر. فتنحى الرشيد سريعاً وجعل السكين في فمه (وذلك علامة تأكيد الاستعطاف والاستنجاد في أخذ الثأر ونحوه) واستقبل الشيخ اللواتي، فلما رآه هذا بادر إليه قائلاً: لبيك يا سيدي! نفسي ومالي طوع يديك. فأخبره الرشيد بما رأى ورجاه أن يؤلف له كتيبة من إخوانه الأشداء ليفتك بهذا اليهودي الذي يستطيل بنفسه على المسلمين وهو تحت حكمهم وفي أرضهم. فجرد له الشيخ اللواتي جيشاً من العرب البواسل تبلغ عدته نحو الخمسمائة وتواعد الرشيد مع جيشه الصغير على أن يلحقوا به متفرقين مختفين تحت أستار الظلام
وسار الرشيد إلى دار ابن مشعل التي تبعُد عن تازة ببضعة أميال، واستضاف اليهودي فأضافه. وعندما جن الليل، وهجع الناس كان رجال الرشيد قد أحاطوا بالدار وهم تحت السلاح، وعندئذ تسلل الرشيد من مضجعه، واحتال في دخول بيت ابن مشعل فبطش به في صمت ثم أشار لأصحابه فتسلقوا الأسوار وهجموا من كل جانب، ولم يشعر ساكنو القصر حتى وجدوا أنفسهم مغلولين في الأصفاد لا يستطيعون خلاصاً مما وقعوا فيه
وهكذا نجح الرشيد في هذه المؤامرة وأضاف إلى نفسه ما وجده من الأموال والذخائر فاشتد بها ساعده وقوى نفوذه
ويقف بنا المؤرخ عند هذا الحد فلا يذكر شيئاً عن سلطنة الطلبة. غير أنا نستطيع نحن أن نتم القصة بما رواه أحد العلماء استطراداً إذ قال: إن مولاي الرشيد هو الذي سن نزهة الطلبة التي جرى بها العمل كل سنة بفاس ومراكش أيام الربيع وذلك أنه لما فتك بابن مشعل واحتوى على ما كان لديه من الذخائر جعل لمن كان في معييته من الطلبة نزهة فاخرة، وقد كانوا نحو الخمسمائة ومن يومئذ اتخذت عادة سنوية مدة حياته وبعد موته
هذا هو التاريخ المفصل (لسلطنة الطلبة)، وهو تاريخ طويت صحائفه وجهلت أطواره منذ نشأته الأولى حتى الآن، ومن عجيب الصدف أن يقرأه الشرقيون - والمغاربة منهم - في آن واحد لأول مرة. ولعل من المؤلم أن أذكر هنا أن كثيراً من سلاطين الطلبة الذين سبق لهم أن جلسوا على عروش مملكة الطلاب كانوا يجهلون تمام الجهل تاريخ مملكتهم وعروشهم. ولو سألت آخر سلاطينهم - كما سألت أنا - عن سبب زيارتهم لضريح أبي الحسن علي بن حرزهم، لأجابك بما لا يرضي الحقيقة والتاريخ. ويجهل أن ذهابه لذلك الضريح إنما كان للترحم على الروح الشريف الذي كان السبب في جلوسه على عرش تلك السلطنة.
ولكن هل كان يضره هذا الجهل المعيب؟
حسبي أن أسكت الآن. وهل كان يهمني من كل هذا إلا أن ألفت نظر أبناء عمومتنا وخئولتنا في أقطار العروبة والإسلام إلى هذه القطعة الواسعة من دنياهم الإسلامية ليطلعوا على صفحة من تاريخ مجدها ألتالد والطريف؟
فيا شباب العرب سددوا سواعدكم لتحيوا مجد العرب
واذكروا دائماً أن لكم قطراً عربياً طالما صدفتم عنه وفيه أمة تريد أن تعيش لتحي مجد الإسلام والعرب
عاش العرب، وعاش الإسلام
(فاس)
إدريس الكتاني
مجلة الرسالة - العدد 326
بتاريخ: 02 - 10 - 1939
وعلى ضوء ما تقدم من حياة السلطان الرشيد نستطيع الآن أن نقول: إن الرشيد كان والده ملكاً على الصحراء بعد أن ولد هو بعام فقط، ثم تولى أخوه محمد الملك يوم أن كان هو لا يتجاوز من العمر عشر سنين، فقد نشأ الرشيد بين أحضان الملكين والده وأخيه؛ ثم إن السن التي يمكن أن يكون الرشيد فيها طالباً بجامعة تبعد عن بلده بعشرات الأيام، لا تقل مطلقاً عن خمسة عشر عاماً إن لم تكن فوقها بكثير. . . والرشيد في مثل هذه السن كانت دولة أخيه وقتئذ آخذة في القوة والانتشار، لكنها لم تبلغ فاسا. . . فلو أن الرشيد سار إلى جامعة القرويين طالباً، لسار إليها على أنه ابن ملك وأخو ملك، لا على أنه طالب عادي كما في القصة الآنفة الذكر. فإذا ذكرنا أيضاً أن الخصومة السياسية بين السلطان محمد ملك الصحراء وولاة فاس قد تكون حجر عثرة في ذهاب الرشيد إلى فاس تأكد لدينا بطلان تلك القصة. . . أضف إلى هذا أن كل من أرخوا للرشيد لم يذكروا أنه دخل فاسا إلا يوم أن دخلها فاتحاً
وهذه أسطورة أخرى لا تقل في التنسيق وبراعة الحبك عن سابقتها. تتحدث الأقوام التي رام على قلوبها الجهل فتبدع قصة من الخيال لتكون تاريخاً لسلطنة الطلبة. ولماذا نعيب على هؤلاء الأقوام جهالتهم وقد سكت حضرات المؤرخين عموماً عن صفحة ناصعة من التاريخ المغربي المشرق، ولم يستفز شعورهم مغزى تلك السلطنة التي تحمل في جوانبها نبل الغرض وشرف الغاية، وكان خليقاً بهم أن يكتبوا تاريخ (سلطنة الطلبة) بإسهاب ويبدعوا في وصف تلك المظاهر والمناظر أبدع الوصف، وحتى الشعراء - وهذا هو الغريب - كان لهم وجوم غامض أمام هذه السلطنة لست أدري أكان ناشئاً عن عدم تقديرهم لمغزاها السامي أم أن شعورهم كان قد انحط في هذين القرنين المتأخرين فلم يعد منهم من يذكرنا بمثل أبي تمام وأبي العلاء والمتنبي من شعراء القديم، أو بمثل شوقي وحافظ وإق من متأخري الشعراء، وإنما كان هناك شعراء حافظوا بكل أمانة على أوزان الشعر وقوافيه، ولم يخرجوا قيد شبر عن بحور الخليل وأنهار تابعيه، وأحسب من هنا جاءت العلة الأولى أيضاً، فكان مفهوماً ألا يهتم شعراؤنا - سامحهم الشعر - بسلطنة الطلبة وما تحويه من معاني الشعر والخيال. وأنى لهم ذلك الحس المرهف، والفكر المصقول، والقلب الشاعر، وهم إنما دخلوا إلى الشعر من باب الأوزان والقوافي؟!
قال رواة الأسطورة التاريخية: عندما أخذت الدولة السعدية في الانحلال والانخذال بعد وفاة المنصور السعدي، نشأ في كل مقاطعة من أرض المغرب رؤساء وزعماء يتولون حكم مقاطعتهم مستقلين تمام الاستقلال عن باقي المقاطعات الأخرى، فكان من سوء حظ مدينة تازة أن جار على مقاطعتها يهودي يدعى ابن مشعل، وامتد نفوذه إلى فاس فأرغم أهلها على تقديم هدية رسمية إليه عند رأس كل سنة. وليس هذا هو الغريب إنما الغريب أن تكون هذه الهدية عبارة عن أجمل فتاة في أكبر أسرة بفاس تقدم إلى ابن مشعل لتكون واحدة من جواريه وخدمه في قصر إمارته، كدليل على إخلاص الفاسيين له، وخضوعهم لحكمه
يالها من خرافة ما أشد سخافتها وبلاهتها عند من يعرفون المغاربة عموماً وأهل فاس على الخصوص! أتبلغ الجرأة بيهودي حقير إلى أن يصير حاكماً على بلد إسلامي، ثم يتجاوز هذا فيرغم بحكم سلطته بلداً عريقاً في الأسلام على أن يقود له أجمل وأشرف فتياته إلى دار الفسق والهوان؟
عندما تسيل آخر نقطة من الدم العربي الطاهر الذي يعيش على وجه البسيطة في المشارق والمغارب، عند ذلك يصح أن يكون لليهود حكم على العرب، أعني على أرض العرب
إيه يا فلسطين، عشت للعرب وعاش العرب لفلسطين
وعادت الأسطورة فقالت: ثم ما لبث أمر اليهودي أن سمع به شاب عربي صميم يدعى الرشيد بن الشريف فأخذته النخوة العربية ونفخت في أعصابه روحاً من الشهامة والإباء وكان طالباً من طلبة الجامعة القروية
فماذا فعل الرشيد يا ترى؟ لقد جمع حوله أربعين شاباً من صناديد الطلاب، ثم تم الاتفاق بينه وبين القائمين بأمر الهدية التي تقدم لليهودي على أن يكون هو هذه الفتاة العذراء التي ستهدى هذه المرة، وأن يكون أصحابه الأربعون في مكان (شورة) العروس، والمراد أن يندس هؤلاء الشبان داخل القبب التي تكون في صحبة العروس، وأن يكونوا عوناً لزعيمهم على ما يريد.
وتم كل شيء، فتسلح زعيم الطلبة الرشيد بن الشريف كما تسلح أبطاله الأربعون واتخذوا مطاياهم من الجمال فوقها الأخبية والقبب، وسار موكب الفتاة من فاس إلى ضواحي تازة من غير أن يكون فيه ما يبعث على الارتياب والظنون.
ولو كان لابن مشعل قليل من دهاء الزباء لأنشد مثل ما أنشدت هي في قصتها الشهيرة إذ قالت:
ما للجمال مشيها وئيداً
أجندلا يحملن أم حديداً
أم صَرفَانا تارزا شديداً
ولو أن ابن مشعل قال هذا لأجابه الرشيد في نفسه:
بل الرجال قبضاً قعودا
ثم قالت الأسطورة: ووصل الركب إلى دار ابن مشعل من غير أن تحوم حوله ريبة أو شكوك، فاستقبله اليهودي بسرور الظافر، وغبطة المنتصر، وأمر في الحال بإغلاق أبواب الدار، إذ كان قد استعجل لقاء الفتاة التي لن يجد شبيهتها في بنات إسرائيل، ولكنه ما استعجل إلا لقاء حتفه؛ فلقد حدث ما لم يكن في الحسبان من قبل. لم يشعر المسكين أن رأى جيشاً من الأبطال الغائصين في سلاحهم قد أحاطوا به إحاطة الجزارين بالذبيح؛ ثم سالت الدماء في بطاح دار ابن مشعل، حتى لم يبق بها دم حي
وفي صباح اليوم التالي أجمعت كلمة الطلبة الأربعين على مبايعة زعيمهم الرشيد فبايعوه على سنة الله ورسوله ملكاً على المملكة المغربية.
وأراد الرشيد أن يكافئ رجاله الأشداء على ما قاموا به من أعمال جسام، فأقام لهم سلطنة هزلية مؤقتة، وجعلها إرثاً مشاعاً بين جميع طلاب الجامعة القروية - عدا الفاسيين - يتبوأن عرشها أسبوعاً واحداً في العام كله
تلك هي الأسطورة التي تسير على أفواه رواة التاريخ المجهول؛ ولعلنا لا نحتاج إلى تضعيفها من الوجهة التاريخية بعد ما ذكرناه عن حياة السلطان الرشيد وكيفية جلوسه على عرش الملك المغربي العتيد
وبرغم ما في هذه الأسطورة من التزيد والتلفيق فإنها تستند في أصل وضعها إلى شيء من الحقائق التاريخية التي أشار إليها بعض الثقات من المؤرخين، فإنه قال ما معناه: وفد السلطان الرشيد يوم كان يتهيأ للجلوس على عرش المغرب ويعمل على إفهام الشعب أنه خليق بهذا العرش على رئيس يدعى الشيخ اللواتي، وبينا هو في ضيافته إذ رأى رجلاً يصطاد في هيئة الملوك وحوله حاشية من المماليك والفرسان فسأل عنه فقيل هو ابن مشعل من يهود تازة وقد عتا فيها وتجبر. فتنحى الرشيد سريعاً وجعل السكين في فمه (وذلك علامة تأكيد الاستعطاف والاستنجاد في أخذ الثأر ونحوه) واستقبل الشيخ اللواتي، فلما رآه هذا بادر إليه قائلاً: لبيك يا سيدي! نفسي ومالي طوع يديك. فأخبره الرشيد بما رأى ورجاه أن يؤلف له كتيبة من إخوانه الأشداء ليفتك بهذا اليهودي الذي يستطيل بنفسه على المسلمين وهو تحت حكمهم وفي أرضهم. فجرد له الشيخ اللواتي جيشاً من العرب البواسل تبلغ عدته نحو الخمسمائة وتواعد الرشيد مع جيشه الصغير على أن يلحقوا به متفرقين مختفين تحت أستار الظلام
وسار الرشيد إلى دار ابن مشعل التي تبعُد عن تازة ببضعة أميال، واستضاف اليهودي فأضافه. وعندما جن الليل، وهجع الناس كان رجال الرشيد قد أحاطوا بالدار وهم تحت السلاح، وعندئذ تسلل الرشيد من مضجعه، واحتال في دخول بيت ابن مشعل فبطش به في صمت ثم أشار لأصحابه فتسلقوا الأسوار وهجموا من كل جانب، ولم يشعر ساكنو القصر حتى وجدوا أنفسهم مغلولين في الأصفاد لا يستطيعون خلاصاً مما وقعوا فيه
وهكذا نجح الرشيد في هذه المؤامرة وأضاف إلى نفسه ما وجده من الأموال والذخائر فاشتد بها ساعده وقوى نفوذه
ويقف بنا المؤرخ عند هذا الحد فلا يذكر شيئاً عن سلطنة الطلبة. غير أنا نستطيع نحن أن نتم القصة بما رواه أحد العلماء استطراداً إذ قال: إن مولاي الرشيد هو الذي سن نزهة الطلبة التي جرى بها العمل كل سنة بفاس ومراكش أيام الربيع وذلك أنه لما فتك بابن مشعل واحتوى على ما كان لديه من الذخائر جعل لمن كان في معييته من الطلبة نزهة فاخرة، وقد كانوا نحو الخمسمائة ومن يومئذ اتخذت عادة سنوية مدة حياته وبعد موته
هذا هو التاريخ المفصل (لسلطنة الطلبة)، وهو تاريخ طويت صحائفه وجهلت أطواره منذ نشأته الأولى حتى الآن، ومن عجيب الصدف أن يقرأه الشرقيون - والمغاربة منهم - في آن واحد لأول مرة. ولعل من المؤلم أن أذكر هنا أن كثيراً من سلاطين الطلبة الذين سبق لهم أن جلسوا على عروش مملكة الطلاب كانوا يجهلون تمام الجهل تاريخ مملكتهم وعروشهم. ولو سألت آخر سلاطينهم - كما سألت أنا - عن سبب زيارتهم لضريح أبي الحسن علي بن حرزهم، لأجابك بما لا يرضي الحقيقة والتاريخ. ويجهل أن ذهابه لذلك الضريح إنما كان للترحم على الروح الشريف الذي كان السبب في جلوسه على عرش تلك السلطنة.
ولكن هل كان يضره هذا الجهل المعيب؟
حسبي أن أسكت الآن. وهل كان يهمني من كل هذا إلا أن ألفت نظر أبناء عمومتنا وخئولتنا في أقطار العروبة والإسلام إلى هذه القطعة الواسعة من دنياهم الإسلامية ليطلعوا على صفحة من تاريخ مجدها ألتالد والطريف؟
فيا شباب العرب سددوا سواعدكم لتحيوا مجد العرب
واذكروا دائماً أن لكم قطراً عربياً طالما صدفتم عنه وفيه أمة تريد أن تعيش لتحي مجد الإسلام والعرب
عاش العرب، وعاش الإسلام
(فاس)
إدريس الكتاني
مجلة الرسالة - العدد 326
بتاريخ: 02 - 10 - 1939