كنت جالسة على مقعد في الحافلة التي كانت تسير تحت المطر الغزير ،
ولما لاحت مني نظرات إلى موقع أقدام المسافرين على أرضية الحافلة والتي كانت مبللة بمياه سوداء أتت بها الأحذية من الخارج ،من الأسفلت .
بعدما انتهى تركيزي على ذلك ، وبعدما عدلت من جلستي ، تبادرت إلى ذهني فكرة مفاجئة : '( إلى أي مدى أن نعيش ليس شيئا ) .
كانت تلك الفكرة بسبب الأقدام ، أي أقدام المسافرين الذين لا يروا تلك الأوساخ بل تصدر عنهم ,
وكانت تلك الفكرة وليدة الليل الذي بدأ يرخي سدوله على الكون ،
وبسبب ذلك الطفل الذي كان يصرخ في هذه المساحة الضيقة والحديدية كذلك بسبب توقف الحافلة لمدة غير قصيرة نتيجة الازدحام وادعاء شخص ما أن محفظته سرقت منه للتو وعلى متن هذه الحافلة ،
أوساخ ، ليل ، صراخ وبكاء ، وسرقة ،
ورغم ذلك فإن كل المسافرين الآخرين ، الجالسون على مقاعدهم مثلي في هذه الحافلة ، كانوا هادئين جدا والكل ــ بعد أن نظر قليلا وأنصت لبرهة قصيرة للمشادة التي حصلت بين السائق وضحية السرقة والمتهم بها ـــ الكل عاد بسرعة وأغرق نفسه في شاشة هاتفه النقال بكل تعاسة وحزن .
لا ، كان وحده ذلك العجوز ذو العينين الصغيرتين البراقتين، يبتسم وكأنه ينظر إلى الموت وجها لوجه ،
تفحصت ملامحه بصورة سريعة ، فدارت بخلدي فكرة أوحى لي بها منظره ( ترى هل هو من ذلك النوع من البشر الذي يؤمن أنه يعيش وينسى فكرة أن الطريق هي الوسيلة للوصول إلى هدف ما أو نقطة معينة أو مكان ما في هذه الدنيا ؟
هل نه وصل فهو يبتسم ؟
عل لذلك فهو ينظر إلى كل دقيقة من حياته التي مضت بهذا الهدوء والسلام ؟
وفي محاولة لإقناع نفسي بفكرتي تابعت تحليلي لها ، مؤكدة على نفسي أنه يجب أن نقتنع وأن نسلم أن الحياة ليست بتلك السهولة وأن الأشياء تصبح أكثر ثقلا عند الصباح العاري وأنه يجب أن نكمل الطريق إلى نهايته وإلى أقصى حدود ما يجب أن نعيشه ،
وكما لو أنني انتهيت من فكرتي الغريبة تلك ، فقد حولت نظري تجاه النافذة ، لكن لماذا عندما نظرت من زجاجها إلى الخارج واجهتني السماء بتجهمها وسواد كل تلك السحب التي لا تريد أن تنقطع عن البكاء على حالنا ؟.
ولماذا أحسست بهذه الرغبة الرهيبة أن اطلب من سائق الحافلة أن يتوقف وأنزل منها بأقصى سرعة وأسير راكضة على ذلك الأسفلت الممتد أمامي إلى ما لا نهاية ؟.
لكن ، الحمد لله صرخ ذلك الطفل صرخة قوية ، جعلت كل الموجودين يستفيقون ويخرجون أنوفهم من شاشات هواتفهم لينظروا إليه لمدة لم تتجاوز الثانية ، وليعودوا إليها ويغرقون فيها من جديد ، بينما تلك الصرخة حطمت رغبتي في الركض تلك وجعلتني أتوقف عن التنفس للحظة وكأنني سيغمى علي ، وأخذت أصارع لكي أتذكر التنفس من جديد كما تعودت أن يحصل معي في مثل هذا الموقف .
ولما عدت ، طافت بذهني فكرة أخرى أكثر جدية وقد قمت بهز كتفي باستسلام متأكدة أن هذه هي قصتنا نحن الآدميون الذين يحاولون إيجاد سبب للعيش في عالم يصعب فيه التعايش .
لم يكن ذلك مهما جدا ، لأن هناك بعض الأوقات التي يتذمر ويندثر فيها كل شيء في حياتنا رغم أننا نكون قد بدأنا للتو في بناء جدراننا .
( ـــ لكن لماذا لا تصل هذه الحافلة أبدا ؟ ولماذا مازالت تسير دون توقف ؟)
نظرت أمامي في دهشة ، فلم أرى السائق في مقعده ، وجال بصري حولي في فزع ، لألاحظ برعب أن كل راكب من ركاب الحافلة قد غرق فعلا في شاشة هاتفه وقد خلت مقاعدهم منهم وفي كل مقعد كان هناك هاتف نقال برز منه وجه صاحبه مستغيثا وقد علت ملامحه تعابير هلع وخوف أصابتني بالرعب والفزع ،
سؤوال رهيب استعمر ذهني :
ــ ماذا يحصل لي ؟ كيف امتص كل هاتف صاحبه دون رحمة ؟
حاولت الوقوف وأنا أتشبث بمقعدي ، لكنني لم أتمكن من ذلك ، ل، الحافلة مالت إلى الجهة الأخرى مما جعلني أعود للجلوس مرتطمة بالمقعد في عنف .
هل فقد السائق السيطرة على الحافلة ولم يعد يتحكم بها ؟
وتذكرت أن هاتفه ابتلعه هو الآخر ،
حاولت الصراخ فلم أتمكن أيضا فصوتي توقف في حلقي لدرجة الألم ،
أسئلة كثيرة دون جواب ،
ـــ لماذا أشعر وكأنني مشلولة ؟
لماذا لم يأخذني هاتفي مثل جميع الركاب ؟
هل لأنني لم استعمله طول الطريق بينما كنت منشغلة بأفكاري الهوجاء وبالمسافرين ؟
ــ أين الشوارع والأضواء الباهتة تحت حبات المطر ؟
أين المقاهي وأنوارها الزرقاء والبنفسجية واتي تؤكد أن النهار مات .؟
وفجأة انحسر المطر الغزير كما أتى على حين غفلة ، ولكن الحافلة مازالت تسير بسرعة فائقة ولا شيء يجعلني أعرف وجهتها ، لا أكاد أرى شيئا على جابي الطريق أو أمام الحافلة .
حاولت مرة أخرى أن انهض من مقعدي لكن
ــ آه ,, أوووه ،
رأسي ارتطم بشيء حديدي ، ولحد الآن لا أعرف إن كنت دخلت في غيبوبة وهل توقفت الحافلة أم مازالت تمخر عباب الطريق بصورة عشوائية مسعورة ، ودون سائق ..
ما أحسست به فعلا أنني غرقت في شاشة هاتفي النقال ووقعت في فخه فقط لأنني كنت أريد معرفة كم الساعة .
وإنني ما زلت أتخبط هناك ولا أستطيع النجاة .
فاطمة البسريني ـــ المغرب .
ولما لاحت مني نظرات إلى موقع أقدام المسافرين على أرضية الحافلة والتي كانت مبللة بمياه سوداء أتت بها الأحذية من الخارج ،من الأسفلت .
بعدما انتهى تركيزي على ذلك ، وبعدما عدلت من جلستي ، تبادرت إلى ذهني فكرة مفاجئة : '( إلى أي مدى أن نعيش ليس شيئا ) .
كانت تلك الفكرة بسبب الأقدام ، أي أقدام المسافرين الذين لا يروا تلك الأوساخ بل تصدر عنهم ,
وكانت تلك الفكرة وليدة الليل الذي بدأ يرخي سدوله على الكون ،
وبسبب ذلك الطفل الذي كان يصرخ في هذه المساحة الضيقة والحديدية كذلك بسبب توقف الحافلة لمدة غير قصيرة نتيجة الازدحام وادعاء شخص ما أن محفظته سرقت منه للتو وعلى متن هذه الحافلة ،
أوساخ ، ليل ، صراخ وبكاء ، وسرقة ،
ورغم ذلك فإن كل المسافرين الآخرين ، الجالسون على مقاعدهم مثلي في هذه الحافلة ، كانوا هادئين جدا والكل ــ بعد أن نظر قليلا وأنصت لبرهة قصيرة للمشادة التي حصلت بين السائق وضحية السرقة والمتهم بها ـــ الكل عاد بسرعة وأغرق نفسه في شاشة هاتفه النقال بكل تعاسة وحزن .
لا ، كان وحده ذلك العجوز ذو العينين الصغيرتين البراقتين، يبتسم وكأنه ينظر إلى الموت وجها لوجه ،
تفحصت ملامحه بصورة سريعة ، فدارت بخلدي فكرة أوحى لي بها منظره ( ترى هل هو من ذلك النوع من البشر الذي يؤمن أنه يعيش وينسى فكرة أن الطريق هي الوسيلة للوصول إلى هدف ما أو نقطة معينة أو مكان ما في هذه الدنيا ؟
هل نه وصل فهو يبتسم ؟
عل لذلك فهو ينظر إلى كل دقيقة من حياته التي مضت بهذا الهدوء والسلام ؟
وفي محاولة لإقناع نفسي بفكرتي تابعت تحليلي لها ، مؤكدة على نفسي أنه يجب أن نقتنع وأن نسلم أن الحياة ليست بتلك السهولة وأن الأشياء تصبح أكثر ثقلا عند الصباح العاري وأنه يجب أن نكمل الطريق إلى نهايته وإلى أقصى حدود ما يجب أن نعيشه ،
وكما لو أنني انتهيت من فكرتي الغريبة تلك ، فقد حولت نظري تجاه النافذة ، لكن لماذا عندما نظرت من زجاجها إلى الخارج واجهتني السماء بتجهمها وسواد كل تلك السحب التي لا تريد أن تنقطع عن البكاء على حالنا ؟.
ولماذا أحسست بهذه الرغبة الرهيبة أن اطلب من سائق الحافلة أن يتوقف وأنزل منها بأقصى سرعة وأسير راكضة على ذلك الأسفلت الممتد أمامي إلى ما لا نهاية ؟.
لكن ، الحمد لله صرخ ذلك الطفل صرخة قوية ، جعلت كل الموجودين يستفيقون ويخرجون أنوفهم من شاشات هواتفهم لينظروا إليه لمدة لم تتجاوز الثانية ، وليعودوا إليها ويغرقون فيها من جديد ، بينما تلك الصرخة حطمت رغبتي في الركض تلك وجعلتني أتوقف عن التنفس للحظة وكأنني سيغمى علي ، وأخذت أصارع لكي أتذكر التنفس من جديد كما تعودت أن يحصل معي في مثل هذا الموقف .
ولما عدت ، طافت بذهني فكرة أخرى أكثر جدية وقد قمت بهز كتفي باستسلام متأكدة أن هذه هي قصتنا نحن الآدميون الذين يحاولون إيجاد سبب للعيش في عالم يصعب فيه التعايش .
لم يكن ذلك مهما جدا ، لأن هناك بعض الأوقات التي يتذمر ويندثر فيها كل شيء في حياتنا رغم أننا نكون قد بدأنا للتو في بناء جدراننا .
( ـــ لكن لماذا لا تصل هذه الحافلة أبدا ؟ ولماذا مازالت تسير دون توقف ؟)
نظرت أمامي في دهشة ، فلم أرى السائق في مقعده ، وجال بصري حولي في فزع ، لألاحظ برعب أن كل راكب من ركاب الحافلة قد غرق فعلا في شاشة هاتفه وقد خلت مقاعدهم منهم وفي كل مقعد كان هناك هاتف نقال برز منه وجه صاحبه مستغيثا وقد علت ملامحه تعابير هلع وخوف أصابتني بالرعب والفزع ،
سؤوال رهيب استعمر ذهني :
ــ ماذا يحصل لي ؟ كيف امتص كل هاتف صاحبه دون رحمة ؟
حاولت الوقوف وأنا أتشبث بمقعدي ، لكنني لم أتمكن من ذلك ، ل، الحافلة مالت إلى الجهة الأخرى مما جعلني أعود للجلوس مرتطمة بالمقعد في عنف .
هل فقد السائق السيطرة على الحافلة ولم يعد يتحكم بها ؟
وتذكرت أن هاتفه ابتلعه هو الآخر ،
حاولت الصراخ فلم أتمكن أيضا فصوتي توقف في حلقي لدرجة الألم ،
أسئلة كثيرة دون جواب ،
ـــ لماذا أشعر وكأنني مشلولة ؟
لماذا لم يأخذني هاتفي مثل جميع الركاب ؟
هل لأنني لم استعمله طول الطريق بينما كنت منشغلة بأفكاري الهوجاء وبالمسافرين ؟
ــ أين الشوارع والأضواء الباهتة تحت حبات المطر ؟
أين المقاهي وأنوارها الزرقاء والبنفسجية واتي تؤكد أن النهار مات .؟
وفجأة انحسر المطر الغزير كما أتى على حين غفلة ، ولكن الحافلة مازالت تسير بسرعة فائقة ولا شيء يجعلني أعرف وجهتها ، لا أكاد أرى شيئا على جابي الطريق أو أمام الحافلة .
حاولت مرة أخرى أن انهض من مقعدي لكن
ــ آه ,, أوووه ،
رأسي ارتطم بشيء حديدي ، ولحد الآن لا أعرف إن كنت دخلت في غيبوبة وهل توقفت الحافلة أم مازالت تمخر عباب الطريق بصورة عشوائية مسعورة ، ودون سائق ..
ما أحسست به فعلا أنني غرقت في شاشة هاتفي النقال ووقعت في فخه فقط لأنني كنت أريد معرفة كم الساعة .
وإنني ما زلت أتخبط هناك ولا أستطيع النجاة .
فاطمة البسريني ـــ المغرب .