التقت عيناه عينَي الرجل، فعرفه على الفور. مضى عشرون عاما، وذكره لم يزايل مُخيِّلته، والزمن كفيل حقَّا بمداواة الجِراح، لكنَّه لا يستطيع محو أثرِها في النفس.
تسلَّم المبلغ منه، وقال:
- كيف أنت يا أستاذ؟
رفع الرجل رأسه، مُستطلعاً:
- تعرفني؟
- بلى، لقد كنت رئيسي في العمل، ألا تتذكّرُني؟
وبدا الرجل كمن يزيل غيما كثيفا من ذاكرته، حتَّى برزت الشمس وراء الغمام، فقال:
- آه، تذكّرتك.
غير أنَّ الغيم سُرعان ما حلَّ ثانية، وهذه المرَّة أشدَّ كثافة، إذ بدى الرجل وكأنّه يكابد ذكرى قديمة مزعجة، فقال محاولا الابتسام:
- أرجو أن لا تكون ساخطا عَليَّ؟
سارع للقول ثأرا لنفسه:
- أسخط عليك! لماذ؟ إن طردك لي فتح لي أبوابا أخرى، أنا صاحب هذا المتجر.
- حقَّا؟!
قالها الرجل وعينيه تكادان تخرجان من حدقتيهما. وعلى رغمه راحتا تلتهمان كل شيء.. البضائع والعمَّال والموظَّفين، ثمَّ حطَّتا على الدرج الكبير، المفضي إلى الطابق الأول، المملوء عن آخرِه.
وكان يعلم بأمر المؤسسة، لكنَّه أراد الاستمتاع قليلاً، فسأله:
- ألا تزال في المؤسَّسة نفسها؟
أجاب الرجل:
- تقاعدت، تعثّرت المؤسسة ولم تصمد أمام تقلُّبات السوق، فاضطررت للتقاعد.
- ولم تجد عملا بعدها؟ لقد كنت أستاذا في مجالك.
غير أنَّ الحقيقة كانت غير ذلك، فهو لم يكن صاحب خبرة، مجرّد حظٍّ صعد به، كان عمُّه والد زوجه رئيس الموارد، وقد استغل ذلك أحسن استغلال فترقَّى بسرعة كبيرة، وكان قبل ذلك موظَّفاً عادياً، ولم يجد سوى زملائه مرمى لسهام انتقامه. وما زال يتذكّر كيف كان يعامل مرؤوسيه بترفُّع واحتقار، ولم يكن هو الوحيد الذي تسبَّب له بالأذيَّة، لكنه كان الوحيد الذي اعترض على مسلكه علنا فكان جزاؤه الطرد شرَّ طرده.
لقد خرج من العمل لا يعرف إلى أين يتَّجِه، ولم يكن عبثا أن يخبره أصحَابه أنُّهم احترموا حزنه ولم يبلِّغوه أنه كان يبدو وقتها كالمجنون، حائِرٌ لا يعرف من أين يطعِم أولادَه المُدلَّلين.
وسأله وقلبُه ما زال في تاريخِه القديم:
- ألا رغبة لك في الفرجة على المتجر؟
ردَّ الرجل بصوت واهن:
- شكرا جزيلا، في وقت آخر إن شاء الله.
وهم بالانصراف، فقال له:
- انتظر، هناك من يرغب بلقائك.
قال الرَّجل باهتمام:
- من يودُّ لقائي؟
ونادى:
- أم علي.
وجاءت امرأة في الأربعين، اختفت ابتسامتها حالمَا وقعت عيناها عليه، وحلَّ محلُّها غضب واضح.
قال:
- هل تعرَّفتِ على الأستاذ؟
ردَّت وهي تلوي فمَها استياءًا:
- ومن لا يعرفه؟ لا أخال أحدا ينسى هذا الوجه.
قال مخاطبا الرجل:
- أم علي تعمل عندي الآن، مشرفة على العَامِلات، إنَّها والحقُّ يقال نموذج مشرِّف للموظَّفات المتفانيات في العمل.
وكانت وخزة منه، إذ سبق لهذا الرجل أن اتهمَها بالتقصير في أداءِ عملها، ونقلها لقسم آخر، حيث اضطرَّت لتقديم استقالتها.
قال الرجل محاولا الهرب:
- أمر طيب، أتمنَّى لكما التوفيق.
وهمَّ بمفارقة المكان، فسارع للقول:
- انتظر، أليست لديك رغبة في العمل؟ أحتاج مشرفا على العُمَّال في فرعي الجديد؟
وقبل أن يترك له الفرصة للردّ، مدَّ يده ببطاقته وقال:
- ستجد فيها عنواني وأرقام هواتفي، اتصل بي متى رغبت في ذلك.
تسلَّم الرجل البطاقة، وابتسم رغماً عنه، ومضى يتعثُّر في مشيته، وهو يلحظة بعينين مليئتين بالتَّشفي.
المصدر: جعفر الديري .. نشرة المنبر التقدمي .. May 27, 2023
تسلَّم المبلغ منه، وقال:
- كيف أنت يا أستاذ؟
رفع الرجل رأسه، مُستطلعاً:
- تعرفني؟
- بلى، لقد كنت رئيسي في العمل، ألا تتذكّرُني؟
وبدا الرجل كمن يزيل غيما كثيفا من ذاكرته، حتَّى برزت الشمس وراء الغمام، فقال:
- آه، تذكّرتك.
غير أنَّ الغيم سُرعان ما حلَّ ثانية، وهذه المرَّة أشدَّ كثافة، إذ بدى الرجل وكأنّه يكابد ذكرى قديمة مزعجة، فقال محاولا الابتسام:
- أرجو أن لا تكون ساخطا عَليَّ؟
سارع للقول ثأرا لنفسه:
- أسخط عليك! لماذ؟ إن طردك لي فتح لي أبوابا أخرى، أنا صاحب هذا المتجر.
- حقَّا؟!
قالها الرجل وعينيه تكادان تخرجان من حدقتيهما. وعلى رغمه راحتا تلتهمان كل شيء.. البضائع والعمَّال والموظَّفين، ثمَّ حطَّتا على الدرج الكبير، المفضي إلى الطابق الأول، المملوء عن آخرِه.
وكان يعلم بأمر المؤسسة، لكنَّه أراد الاستمتاع قليلاً، فسأله:
- ألا تزال في المؤسَّسة نفسها؟
أجاب الرجل:
- تقاعدت، تعثّرت المؤسسة ولم تصمد أمام تقلُّبات السوق، فاضطررت للتقاعد.
- ولم تجد عملا بعدها؟ لقد كنت أستاذا في مجالك.
غير أنَّ الحقيقة كانت غير ذلك، فهو لم يكن صاحب خبرة، مجرّد حظٍّ صعد به، كان عمُّه والد زوجه رئيس الموارد، وقد استغل ذلك أحسن استغلال فترقَّى بسرعة كبيرة، وكان قبل ذلك موظَّفاً عادياً، ولم يجد سوى زملائه مرمى لسهام انتقامه. وما زال يتذكّر كيف كان يعامل مرؤوسيه بترفُّع واحتقار، ولم يكن هو الوحيد الذي تسبَّب له بالأذيَّة، لكنه كان الوحيد الذي اعترض على مسلكه علنا فكان جزاؤه الطرد شرَّ طرده.
لقد خرج من العمل لا يعرف إلى أين يتَّجِه، ولم يكن عبثا أن يخبره أصحَابه أنُّهم احترموا حزنه ولم يبلِّغوه أنه كان يبدو وقتها كالمجنون، حائِرٌ لا يعرف من أين يطعِم أولادَه المُدلَّلين.
وسأله وقلبُه ما زال في تاريخِه القديم:
- ألا رغبة لك في الفرجة على المتجر؟
ردَّ الرجل بصوت واهن:
- شكرا جزيلا، في وقت آخر إن شاء الله.
وهم بالانصراف، فقال له:
- انتظر، هناك من يرغب بلقائك.
قال الرَّجل باهتمام:
- من يودُّ لقائي؟
ونادى:
- أم علي.
وجاءت امرأة في الأربعين، اختفت ابتسامتها حالمَا وقعت عيناها عليه، وحلَّ محلُّها غضب واضح.
قال:
- هل تعرَّفتِ على الأستاذ؟
ردَّت وهي تلوي فمَها استياءًا:
- ومن لا يعرفه؟ لا أخال أحدا ينسى هذا الوجه.
قال مخاطبا الرجل:
- أم علي تعمل عندي الآن، مشرفة على العَامِلات، إنَّها والحقُّ يقال نموذج مشرِّف للموظَّفات المتفانيات في العمل.
وكانت وخزة منه، إذ سبق لهذا الرجل أن اتهمَها بالتقصير في أداءِ عملها، ونقلها لقسم آخر، حيث اضطرَّت لتقديم استقالتها.
قال الرجل محاولا الهرب:
- أمر طيب، أتمنَّى لكما التوفيق.
وهمَّ بمفارقة المكان، فسارع للقول:
- انتظر، أليست لديك رغبة في العمل؟ أحتاج مشرفا على العُمَّال في فرعي الجديد؟
وقبل أن يترك له الفرصة للردّ، مدَّ يده ببطاقته وقال:
- ستجد فيها عنواني وأرقام هواتفي، اتصل بي متى رغبت في ذلك.
تسلَّم الرجل البطاقة، وابتسم رغماً عنه، ومضى يتعثُّر في مشيته، وهو يلحظة بعينين مليئتين بالتَّشفي.
المصدر: جعفر الديري .. نشرة المنبر التقدمي .. May 27, 2023