"كلما ودعت مكانا أحبه ، أحس أني أترك فيه جزءا مني"
شمس التبريزي
دفتان خشبيتان كبيرتان لباب المقهى مصبوغتان بلون أزرق غامق. داخل المقهى يحتوي على صالة وغرفة صغيرة. قاعة متوسطة تضم عددا قليلا من الكراسي الحديثة، وطاولات خشبية مربعة مصفوفة أمام كراسي تقليدية طويلة وقديمة مصنوعة من الخشب، وغير مسنودة من جهة الظهر. جدران زرقاء داكنة يضفي لونها علي الداخل عتمة خفيفة خاصة في فصل الشتاء، رغم انفتاح الباب الكبير على مصراعيه. على يسار القاعة بالقرب من الباب يوجد (الكونتوار) الذي يجلس داخله صاحب المقهى، وتتربع فوقه عصارة للقهوة، وفي أسفله فرن للغاز فوقه يُسلق البيض، ويُطهى الحليب والشاي. في المساء يضع بجانبه قِدرا كبيرا من الحريرة. وفي العمق ثلاجة بيضاء قديمة، بجانبها حوض صغير لغسل الأواني يعلوه أنبوب أصفر.
جهاز التلفزيون بالأبيض والأسود فوق شباك حديدي مشدود إلى أعلى الجدار من الناحية المعاكسة (للكونتوار).
صاحب المقهى رجل أسمر في الأربعينات. إنسان طيب ينحدر من الجنوب. طويل القامة نحيف الجسم.
أغلب رواد المقهى من أبناء الحي تجار وموظفين صغار وطلبة وتلاميذ وصناع وعاطلين أو من الفندق المجاور الذي يشتغل به العديد من الصناع التقليديين القادمين من الجنوب أو بعض المارة من الأحياء المجاورة.
يلعب زبائن المقهى الورق في النهار، ويشاهدون التلفزيون في المساء.
الغرفة الثانية صغيرة في عمق القاعة على اليسار. مخصصة للعبة (البيار)، وبها فرن فوقه قدر كبيرة لطهي الحريرة.
الحريرة تتميز بنكهة خاصة تفرّد بها صاحب المقهى عن غيره. فهو يضيف إليها قطعا من أمخاخ عظام البقر، وحوالي ربع أو ثلث كيلو من اللحم المفروم (كفتة) والأرز. تبدو لذيذة لا يشبع منها الإنسان الذي يتذوقها، فيحتسي في وجبة العشاء (زلافتين)* أو أكثر بثمن مناسب بدل واحدة.
النادل غالبا ما يميزه أبناء الحي بإضافة صفة (بوقال)* إلى اسمه الشخصي. رأسه الطويل جعل جبهته بارزة، وفوقها عار من الشعر. بشرته سمراء. نحيل وقصير القامة. يعمل كنادل في المقهى، وينوب عن صاحبها في غيابه. يدخن سجائر (الأولمبيك زرقاء) أو (كازا).
حفظ بسرعة طريقة طهي الحريرة، وأصبحت هذه المهمة تُسند إليه في أغلب الأحيان. ويجب أن تكون الحريرة جاهزة بعد صلاة العصر. وينتهي عرضها مع صلاة العشاء.
حدث مرة أن كنا نلعب (البيار). دخل النادل ليحرك القدر ثم خرج. دخل هذه المرة، وأخرج قطعة خبز من جيبه. أدار المِغرفة، وبحث عن كرة كبيرة من اللحم المفروم (الكفتة)، ووضعها في الخبز. ووقف لتناولها بجانب القدر موليا لنا ظهره حتى لا نرى ما يفعل. في المرة القادمة سبقناه إلى سحب الكرة من القدر وتناولناها قبل عودته. انشغلنا بلعب (البيار)، ونحن نراقب حركاته من غير أن يشعر. بحث عن الكرة. قلّب القدر عدة مرات لم يعثر على شيء. أعاد قطعة الخبز إلى جيبه، وأخذ القدر إلى (الكونتوار).
في اليوم الموالي حدث نفس الشيء، مع فارق هو انفجارنا بالضحك. ابتسم ولم يقل شيئا. بعد ذلك تخلى عن إخفاء الكرة في القدر.
النادل ذاكرته ضعيفة. عندما يشكو بعض اللاعبين بأنهم وضعوا القطعة النقدية في المكان المخصص، وضغطوا على الآلة، لكن الكرات لم تخرج، يأتي النادل، وفي يده حافظة المفاتيح، وقبل أن يعثر على المفتاح المطلوب، يكون قد جرب كل المفاتيح. حوالي عشر سنوات وهو يشتغل في المقهى، لكنه لم يحفظ شكل المفتاح الخاص بقفل (البيار).
في الصيف اعتدنا على السهر حتى طلوع الشمس. عندما تسافر أسرة أحد الأصدقاء نتخذ من المنزل مكانا للسهر، ولا نزور المقهى إلا في فترات متباعدة. في الصباح الباكر نذهب إلى ساحة جامع الفناء، ونمر على المقهى، ونجد النادل قد فتح الباب، وبدأ ينظف ويمسح الطاولات. وكان يضع طاولة بجانب الباب فوقها غطاء جديد من البلاستيك اقتناه خصيصا لهذه المناسبة، وكرسي مسنود من الخلف. استغربنا للأمر. وبعد عودتنا من الساحة، وجدنا امرأة شديدة السمرة، وجهها نحيف، قصيرة القامة، ترتدي وزرة بيضاء، تجلس إلى الطاولة، وتتناول الفطور، وهو يقف بجانبها. عندما سألناه فيما بعد، قال بأنها صديقته، وأخبرته أنها تشتغل ممرضة. وأنه يحبها، ويفكر في طلب يدها. ويتمنى أن توافق على أن تصبح زوجته.
لم يسبق لي أن شاهدت ممرضة بهذا الشكل، ترتدي وزرة بيضاء في الصباح الباكر، وهي في طريقها إلى العمل. خفت أن تكون مريضة نفسيا، وتتوهم أنها تشتغل كممرضة. كانت المرأة الوحيدة التي رأيتها تجلس في مقهى الحي. وهو ما زاد من شكوكي..
في المساء بعد غروب الشمس يبدأ الشباب في التجمع بجوار باب المقهى. بعضهم يفترش الأرض، والموظفون والطلبة يجلسون على كراسي أُخرجوها من المقهى. لا يمكن الجلوس داخل المقهى في هذا الوقت. الإنسان كما يقولون يشعر بالصهد والغمة. وهي حالة لا تزول إلا بالجلوس في فضاء مفتوح. في ليالي الصيف عندما ترى السماء فوق رأسك، تشعر براحة لا تعرف مصدرها.
يبدأ الحديث في صيف مراكش عن ارتفاع درجات الحرارة. في النهار الناس يسعون مثل النمل. يعملون تحت حرارة قد تتجاوز الخمسين درجة. يقيسون حالة الطقس بطرق لا تخطر على بال. عندما تطأ رجلك غطاء زجاجة كوكاكولا القصديري، ويختفي بسهولة في الزفت، اعلم أن درجة الحرارة تجاوزت 45 درجة. وعندما تفتح أنبوب الماء الذي تطاله أشعة شمس منتصف النهار، وتتحسس سخونته، وتسحب يدك بسرعة، قد يعلق البعض على ذلك أنك لا تحتاج إلى نار لتهيئ الشاي. البعض كذلك يقترح عليك أن تأخذ بيضة في مقلاة، وتُعرضها للشمس دقيقة أو دقيقتين بدلا من إشعال الفرن، وإذا نضجت، وأصبحت جاهزة للأكل، اعلم أن الحرارة تجاوزت الخمسين بقليل. بعض المسطولين يتخيلون الشمس، وكأنها تكاد تسقط فوق رؤوسهم، أو تتبعهم إلى الغرف والبيوت.
على يمين المقهى شاب أنيق. تسريحة شعره تشبه تسريحة البيتلز. يبيع ويصلح أجهزة الراديو والتلفزيون، وأشرطة الأغاني. يطلب منه أحد الشباب بأن يشغل شريطا لجيل جيلالة، أو ناس الغيوان، مثل ما يحدث في برنامج رغبات المستمعين.
بجانب حائط (الدوش) المقابل لمتجر الأسطوانات، يجلس شخص غريب الأطوار، نحيف وشاحب الوجه أبيض البشرة. لا يتحدث إلا مع نفسه. يسكن في فصل الشتاء علبة من الكارطون. لكنه الآن يفتحها، ويحولها إلى فراش. اختار هذا المكان ليعيش فيه هربا من شغب الأطفال الذين يرمونه بالأحذية البالية وعلب السردين الفارغة. هنا لا أحد يمسه بسوء. يشعر بأنه في حماية الشباب وجيرانه. وجبتا الفطور والعشاء على حساب صاحب المقهى.
صاحب المقهى رجل سخي يجود على بعض المتشردين بالقهوة أو الحريرة بالمجان.
يخرج الكَسّال* من الدوش يتصبب عرقا. الكَسّال لا يتحدث عن الحرارة لأنه يشتغل فيها بشكل يومي. يطلب زجاجة متوسطة من كوكاكولا باردة من المقهى. يتناول نصفها قبل أن يخرج (السبسي)، ويدخن (شقفين) أو ثلاثة بمفرده. ويبرر ذلك بأن كوكاكولا إذا سخنت، مثل القهوة إذا بردت.
الكَسّال لا يُشرك معه أحدا في التدخين. عندما ينتهي يقترب من المجموعة. يجذبه أحد الشباب، ليحكي بعضا من سيرته.
يحكي الكسال بنبرة راو مجذوب عندما يكون مزاجه رائقا :
ـ إن المغاربة عانوا من استعمار واحد هو فرنسا، أما أنا فقد عانيت من استعمارين، فرنسا وأخي الذي اشتغلت معه عشرين سنة بدون أجر.
يشعل (سبسي) آخر، ويضيف بحسرة :
ـ والدي كان قائدا لإحدى ميليشيات الباشا الكلاوي (قياد المائة)*. رفعت دعوى قضائية ضد إخوتي مطالبا بحقي في الإرث. انتظرت أكثر من عشر سنوات لتحكم لي المحكمة بعشرة دراهم ومائة (زرواطة). خسرتها في لعب الورق بمقهى (ماطيش).
يصف الكسال نفسه بالحمار ويتحسر على كيس من النقود عثر عليه خارج السور مباشرة بعد الاستقلال. وقبل أن يجتاز دار الباشا. لم يشعر حتى دخل إلى مقر النقابة بباب دكالة، وقدم الكيس لأحد المسئولين فقال له:
ـ أنت مواطن صالح.
لكن أنا أقول لكم:
ـ منذ ذلك اليوم وأنا حمار. أنا أيضا رأيت وجه محمد الخامس رحمة الله عليه في القمر. فتح الله علي باب الرزق، وأغلقه حب الوطن في وجهي.
لم يخرج عن سور المدينة القديمة منذ الاستقلال. يخاف من البوليس، وكل ما له علاقة بجهاز الدولة. لا يتوفر على بطاقة تثبت هويته. أحيانا توقفه دورية للشرطة بشكل مباغت، وهو قادم أو ذاهب إلى ساحة جامع الفناء، يفاجئهم بارتباكه، وإدخال يده إلى (قب) جلبابه، ليظهر لهم بسرعة (الكيس والمحكة والطاسة) ويردد على أسماعهم: كسال (نعم سيدي). إذا حدث ورأى شرطيا من بعيد، فإنه يغير الطريق.
يسكن في غرفة بفَندق* تديره الأحباس . سعر كراء الغرف لم يتجاوز عشرة دراهم في نهاية الستينات. الفندق يتكون من طابقين بهما عشرات الغرف وصنبور ومرحاض مشتركين. اختص سكانه الجنوبيون بصناعة (البلغة والشربيل)، وهما حذاءان مشهوران بالمغرب. اغلب الصناع بالفندق غرباء عن المدينة. قدموا من الجنوب. غرف الفندق تبدو في النهار كورشات عمل نشيطة تعمل بشكل آلي من الصباح إلى المغرب. بعد صلاة العشاء تُغلق أبواب الفندق وتتحول غرفه إلى فضاءات للنوم.
أثاث غرفة الكَسّال قديم ومتآكل بلا ألوان. يتكون من حصير يحتل نصف الغرفة فوقه سرير كبير، وبجانبه صندوق خشبي لحفظ الملابس والممتلكات الخاصة والصغيرة. و في الركن الأيسر ما تيسر من أدوات الطبخ، بجانبها قلة ماء للشرب. عندما تدخل غرفة الكسال، وتحملق باندهاش في الجدران المنقطة بالدماء، يبادرك بأنه يقضي الليل في حرب مع الجيش الأحمر، تشبيهه المفضل للبق.
عادة ما يجلس مع مجموعة من أبناء الحي إلى ساعة متأخرة من ليالي الصيف بالقرب من المقهى المقابل للفندق. لكن عندما يرى سيارة الشرطة قادمة من بعيد يجمع أغراضه، وينادي على البواب (البيات) ليفتح له باب الفندق.
تسأله أن يجرب ولو مرة مواجهة الموقف بقليل من الشجاعة لأنه لا يفعل أي شيء مخالف للقانون، فيمثل عليك مسرحية تؤدي في النهاية إلى اعتقاله:
ـ بطاقة التعريف ؟؟
ـ طالب ..
ـ موظف ..
ـ عامل ..
ـ ليس لدي بطاقة
ـ ماذا تفعل هنا ؟
ـ لاشيء ...
ـ ما عملك ؟
ـ كسال (نعم سيدي)
ـ انهض (اللي مّاك ). هذا طالب، هذا عامل، هذا موظف، وأنت ماذا تفعل مع هؤلاء ؟؟
الكسال يعيش وحيدا، لا أحد يزوره من الأسرة أو العائلة كأنه مقطوع من شجرة. يجد لذة في الحكي عن معاناته. فبعد منتصف الليل بقليل سيتفرق الجمع، وكل واحد يذهب إلى منزله. أما الكسال فسيعود إلى وحدته. إما أن يذهب إلى جامع الفنا، أو يدخل إلى غرفته ليحارب جيشه الأحمر.
الليل يطول أكثر عندما لا يجد الإنسان من يؤنس وحشته.
المعجم:
ـ الزلافة: آنية متوسطة تحوي مغرفتين كبيرتين من الحريرة.
ـ بوقال: صفة تطلق على من يبدو رأسه مستطيلا.
ـ الكَسّال: رجل يعمل بالحمام . يسقي الماء، وينظف الجلسة، ويحك الوسخ للزبائن ، وقد يعمل لهم بعض الحركات الرياضية.
ـ قياد المائة: ميلشيات كان تشتغل لحساب الباشا الكلاوي
ـ الزرواطة: عصا غليظة ومتينة تستعمل في العراك.
مراكش 19 يناير 2020
شمس التبريزي
دفتان خشبيتان كبيرتان لباب المقهى مصبوغتان بلون أزرق غامق. داخل المقهى يحتوي على صالة وغرفة صغيرة. قاعة متوسطة تضم عددا قليلا من الكراسي الحديثة، وطاولات خشبية مربعة مصفوفة أمام كراسي تقليدية طويلة وقديمة مصنوعة من الخشب، وغير مسنودة من جهة الظهر. جدران زرقاء داكنة يضفي لونها علي الداخل عتمة خفيفة خاصة في فصل الشتاء، رغم انفتاح الباب الكبير على مصراعيه. على يسار القاعة بالقرب من الباب يوجد (الكونتوار) الذي يجلس داخله صاحب المقهى، وتتربع فوقه عصارة للقهوة، وفي أسفله فرن للغاز فوقه يُسلق البيض، ويُطهى الحليب والشاي. في المساء يضع بجانبه قِدرا كبيرا من الحريرة. وفي العمق ثلاجة بيضاء قديمة، بجانبها حوض صغير لغسل الأواني يعلوه أنبوب أصفر.
جهاز التلفزيون بالأبيض والأسود فوق شباك حديدي مشدود إلى أعلى الجدار من الناحية المعاكسة (للكونتوار).
صاحب المقهى رجل أسمر في الأربعينات. إنسان طيب ينحدر من الجنوب. طويل القامة نحيف الجسم.
أغلب رواد المقهى من أبناء الحي تجار وموظفين صغار وطلبة وتلاميذ وصناع وعاطلين أو من الفندق المجاور الذي يشتغل به العديد من الصناع التقليديين القادمين من الجنوب أو بعض المارة من الأحياء المجاورة.
يلعب زبائن المقهى الورق في النهار، ويشاهدون التلفزيون في المساء.
الغرفة الثانية صغيرة في عمق القاعة على اليسار. مخصصة للعبة (البيار)، وبها فرن فوقه قدر كبيرة لطهي الحريرة.
الحريرة تتميز بنكهة خاصة تفرّد بها صاحب المقهى عن غيره. فهو يضيف إليها قطعا من أمخاخ عظام البقر، وحوالي ربع أو ثلث كيلو من اللحم المفروم (كفتة) والأرز. تبدو لذيذة لا يشبع منها الإنسان الذي يتذوقها، فيحتسي في وجبة العشاء (زلافتين)* أو أكثر بثمن مناسب بدل واحدة.
النادل غالبا ما يميزه أبناء الحي بإضافة صفة (بوقال)* إلى اسمه الشخصي. رأسه الطويل جعل جبهته بارزة، وفوقها عار من الشعر. بشرته سمراء. نحيل وقصير القامة. يعمل كنادل في المقهى، وينوب عن صاحبها في غيابه. يدخن سجائر (الأولمبيك زرقاء) أو (كازا).
حفظ بسرعة طريقة طهي الحريرة، وأصبحت هذه المهمة تُسند إليه في أغلب الأحيان. ويجب أن تكون الحريرة جاهزة بعد صلاة العصر. وينتهي عرضها مع صلاة العشاء.
حدث مرة أن كنا نلعب (البيار). دخل النادل ليحرك القدر ثم خرج. دخل هذه المرة، وأخرج قطعة خبز من جيبه. أدار المِغرفة، وبحث عن كرة كبيرة من اللحم المفروم (الكفتة)، ووضعها في الخبز. ووقف لتناولها بجانب القدر موليا لنا ظهره حتى لا نرى ما يفعل. في المرة القادمة سبقناه إلى سحب الكرة من القدر وتناولناها قبل عودته. انشغلنا بلعب (البيار)، ونحن نراقب حركاته من غير أن يشعر. بحث عن الكرة. قلّب القدر عدة مرات لم يعثر على شيء. أعاد قطعة الخبز إلى جيبه، وأخذ القدر إلى (الكونتوار).
في اليوم الموالي حدث نفس الشيء، مع فارق هو انفجارنا بالضحك. ابتسم ولم يقل شيئا. بعد ذلك تخلى عن إخفاء الكرة في القدر.
النادل ذاكرته ضعيفة. عندما يشكو بعض اللاعبين بأنهم وضعوا القطعة النقدية في المكان المخصص، وضغطوا على الآلة، لكن الكرات لم تخرج، يأتي النادل، وفي يده حافظة المفاتيح، وقبل أن يعثر على المفتاح المطلوب، يكون قد جرب كل المفاتيح. حوالي عشر سنوات وهو يشتغل في المقهى، لكنه لم يحفظ شكل المفتاح الخاص بقفل (البيار).
في الصيف اعتدنا على السهر حتى طلوع الشمس. عندما تسافر أسرة أحد الأصدقاء نتخذ من المنزل مكانا للسهر، ولا نزور المقهى إلا في فترات متباعدة. في الصباح الباكر نذهب إلى ساحة جامع الفناء، ونمر على المقهى، ونجد النادل قد فتح الباب، وبدأ ينظف ويمسح الطاولات. وكان يضع طاولة بجانب الباب فوقها غطاء جديد من البلاستيك اقتناه خصيصا لهذه المناسبة، وكرسي مسنود من الخلف. استغربنا للأمر. وبعد عودتنا من الساحة، وجدنا امرأة شديدة السمرة، وجهها نحيف، قصيرة القامة، ترتدي وزرة بيضاء، تجلس إلى الطاولة، وتتناول الفطور، وهو يقف بجانبها. عندما سألناه فيما بعد، قال بأنها صديقته، وأخبرته أنها تشتغل ممرضة. وأنه يحبها، ويفكر في طلب يدها. ويتمنى أن توافق على أن تصبح زوجته.
لم يسبق لي أن شاهدت ممرضة بهذا الشكل، ترتدي وزرة بيضاء في الصباح الباكر، وهي في طريقها إلى العمل. خفت أن تكون مريضة نفسيا، وتتوهم أنها تشتغل كممرضة. كانت المرأة الوحيدة التي رأيتها تجلس في مقهى الحي. وهو ما زاد من شكوكي..
في المساء بعد غروب الشمس يبدأ الشباب في التجمع بجوار باب المقهى. بعضهم يفترش الأرض، والموظفون والطلبة يجلسون على كراسي أُخرجوها من المقهى. لا يمكن الجلوس داخل المقهى في هذا الوقت. الإنسان كما يقولون يشعر بالصهد والغمة. وهي حالة لا تزول إلا بالجلوس في فضاء مفتوح. في ليالي الصيف عندما ترى السماء فوق رأسك، تشعر براحة لا تعرف مصدرها.
يبدأ الحديث في صيف مراكش عن ارتفاع درجات الحرارة. في النهار الناس يسعون مثل النمل. يعملون تحت حرارة قد تتجاوز الخمسين درجة. يقيسون حالة الطقس بطرق لا تخطر على بال. عندما تطأ رجلك غطاء زجاجة كوكاكولا القصديري، ويختفي بسهولة في الزفت، اعلم أن درجة الحرارة تجاوزت 45 درجة. وعندما تفتح أنبوب الماء الذي تطاله أشعة شمس منتصف النهار، وتتحسس سخونته، وتسحب يدك بسرعة، قد يعلق البعض على ذلك أنك لا تحتاج إلى نار لتهيئ الشاي. البعض كذلك يقترح عليك أن تأخذ بيضة في مقلاة، وتُعرضها للشمس دقيقة أو دقيقتين بدلا من إشعال الفرن، وإذا نضجت، وأصبحت جاهزة للأكل، اعلم أن الحرارة تجاوزت الخمسين بقليل. بعض المسطولين يتخيلون الشمس، وكأنها تكاد تسقط فوق رؤوسهم، أو تتبعهم إلى الغرف والبيوت.
على يمين المقهى شاب أنيق. تسريحة شعره تشبه تسريحة البيتلز. يبيع ويصلح أجهزة الراديو والتلفزيون، وأشرطة الأغاني. يطلب منه أحد الشباب بأن يشغل شريطا لجيل جيلالة، أو ناس الغيوان، مثل ما يحدث في برنامج رغبات المستمعين.
بجانب حائط (الدوش) المقابل لمتجر الأسطوانات، يجلس شخص غريب الأطوار، نحيف وشاحب الوجه أبيض البشرة. لا يتحدث إلا مع نفسه. يسكن في فصل الشتاء علبة من الكارطون. لكنه الآن يفتحها، ويحولها إلى فراش. اختار هذا المكان ليعيش فيه هربا من شغب الأطفال الذين يرمونه بالأحذية البالية وعلب السردين الفارغة. هنا لا أحد يمسه بسوء. يشعر بأنه في حماية الشباب وجيرانه. وجبتا الفطور والعشاء على حساب صاحب المقهى.
صاحب المقهى رجل سخي يجود على بعض المتشردين بالقهوة أو الحريرة بالمجان.
يخرج الكَسّال* من الدوش يتصبب عرقا. الكَسّال لا يتحدث عن الحرارة لأنه يشتغل فيها بشكل يومي. يطلب زجاجة متوسطة من كوكاكولا باردة من المقهى. يتناول نصفها قبل أن يخرج (السبسي)، ويدخن (شقفين) أو ثلاثة بمفرده. ويبرر ذلك بأن كوكاكولا إذا سخنت، مثل القهوة إذا بردت.
الكَسّال لا يُشرك معه أحدا في التدخين. عندما ينتهي يقترب من المجموعة. يجذبه أحد الشباب، ليحكي بعضا من سيرته.
يحكي الكسال بنبرة راو مجذوب عندما يكون مزاجه رائقا :
ـ إن المغاربة عانوا من استعمار واحد هو فرنسا، أما أنا فقد عانيت من استعمارين، فرنسا وأخي الذي اشتغلت معه عشرين سنة بدون أجر.
يشعل (سبسي) آخر، ويضيف بحسرة :
ـ والدي كان قائدا لإحدى ميليشيات الباشا الكلاوي (قياد المائة)*. رفعت دعوى قضائية ضد إخوتي مطالبا بحقي في الإرث. انتظرت أكثر من عشر سنوات لتحكم لي المحكمة بعشرة دراهم ومائة (زرواطة). خسرتها في لعب الورق بمقهى (ماطيش).
يصف الكسال نفسه بالحمار ويتحسر على كيس من النقود عثر عليه خارج السور مباشرة بعد الاستقلال. وقبل أن يجتاز دار الباشا. لم يشعر حتى دخل إلى مقر النقابة بباب دكالة، وقدم الكيس لأحد المسئولين فقال له:
ـ أنت مواطن صالح.
لكن أنا أقول لكم:
ـ منذ ذلك اليوم وأنا حمار. أنا أيضا رأيت وجه محمد الخامس رحمة الله عليه في القمر. فتح الله علي باب الرزق، وأغلقه حب الوطن في وجهي.
لم يخرج عن سور المدينة القديمة منذ الاستقلال. يخاف من البوليس، وكل ما له علاقة بجهاز الدولة. لا يتوفر على بطاقة تثبت هويته. أحيانا توقفه دورية للشرطة بشكل مباغت، وهو قادم أو ذاهب إلى ساحة جامع الفناء، يفاجئهم بارتباكه، وإدخال يده إلى (قب) جلبابه، ليظهر لهم بسرعة (الكيس والمحكة والطاسة) ويردد على أسماعهم: كسال (نعم سيدي). إذا حدث ورأى شرطيا من بعيد، فإنه يغير الطريق.
يسكن في غرفة بفَندق* تديره الأحباس . سعر كراء الغرف لم يتجاوز عشرة دراهم في نهاية الستينات. الفندق يتكون من طابقين بهما عشرات الغرف وصنبور ومرحاض مشتركين. اختص سكانه الجنوبيون بصناعة (البلغة والشربيل)، وهما حذاءان مشهوران بالمغرب. اغلب الصناع بالفندق غرباء عن المدينة. قدموا من الجنوب. غرف الفندق تبدو في النهار كورشات عمل نشيطة تعمل بشكل آلي من الصباح إلى المغرب. بعد صلاة العشاء تُغلق أبواب الفندق وتتحول غرفه إلى فضاءات للنوم.
أثاث غرفة الكَسّال قديم ومتآكل بلا ألوان. يتكون من حصير يحتل نصف الغرفة فوقه سرير كبير، وبجانبه صندوق خشبي لحفظ الملابس والممتلكات الخاصة والصغيرة. و في الركن الأيسر ما تيسر من أدوات الطبخ، بجانبها قلة ماء للشرب. عندما تدخل غرفة الكسال، وتحملق باندهاش في الجدران المنقطة بالدماء، يبادرك بأنه يقضي الليل في حرب مع الجيش الأحمر، تشبيهه المفضل للبق.
عادة ما يجلس مع مجموعة من أبناء الحي إلى ساعة متأخرة من ليالي الصيف بالقرب من المقهى المقابل للفندق. لكن عندما يرى سيارة الشرطة قادمة من بعيد يجمع أغراضه، وينادي على البواب (البيات) ليفتح له باب الفندق.
تسأله أن يجرب ولو مرة مواجهة الموقف بقليل من الشجاعة لأنه لا يفعل أي شيء مخالف للقانون، فيمثل عليك مسرحية تؤدي في النهاية إلى اعتقاله:
ـ بطاقة التعريف ؟؟
ـ طالب ..
ـ موظف ..
ـ عامل ..
ـ ليس لدي بطاقة
ـ ماذا تفعل هنا ؟
ـ لاشيء ...
ـ ما عملك ؟
ـ كسال (نعم سيدي)
ـ انهض (اللي مّاك ). هذا طالب، هذا عامل، هذا موظف، وأنت ماذا تفعل مع هؤلاء ؟؟
الكسال يعيش وحيدا، لا أحد يزوره من الأسرة أو العائلة كأنه مقطوع من شجرة. يجد لذة في الحكي عن معاناته. فبعد منتصف الليل بقليل سيتفرق الجمع، وكل واحد يذهب إلى منزله. أما الكسال فسيعود إلى وحدته. إما أن يذهب إلى جامع الفنا، أو يدخل إلى غرفته ليحارب جيشه الأحمر.
الليل يطول أكثر عندما لا يجد الإنسان من يؤنس وحشته.
المعجم:
ـ الزلافة: آنية متوسطة تحوي مغرفتين كبيرتين من الحريرة.
ـ بوقال: صفة تطلق على من يبدو رأسه مستطيلا.
ـ الكَسّال: رجل يعمل بالحمام . يسقي الماء، وينظف الجلسة، ويحك الوسخ للزبائن ، وقد يعمل لهم بعض الحركات الرياضية.
ـ قياد المائة: ميلشيات كان تشتغل لحساب الباشا الكلاوي
ـ الزرواطة: عصا غليظة ومتينة تستعمل في العراك.
مراكش 19 يناير 2020