كان يلفت انتباهي، في كل ندوة تقيمها جمعيتنا الثقافية، ذلك المثقف الطويل القامة، العريض المنكبين، ذو الرأس الضخم، والعينين البراقتين الواسعتين. كان يظهر في العادة، وهو يرتدي بذلة أنيقة، وفي يده جريدة، أو كتاب لا يظهر عنوانه، وتقاسيم وجهه صارمة، لا تشجع أحدًا على الاقتراب منه، أو الحديث إليه؛ إذ تبدو عليه هيبة العلماء، أو القادة التاريخيين.
كان يحافظ على المشاركة في جلسات الندوة كلها، ونادرًا ما تفوته واحدة، ويحرص أن يكون في الصف الأول من المشاركين. لاحظت انه ينتبه بكل جوارحه إلى ما يلقى في كل جلسة. وفي بعض الأحيان يهز رأسه ليدل على فهمه وإعجابه بما يسمع؛ فيظن المتكلم على المنصة أنه الوحيد الذي يفهم ما يقوله، ويدرك مراميه القريبة والبعيدة؛ فيوجه نظراته إليه أكثر مما يوجهها إلى الآخرين.
ولا يفوته كل يوم، بعد نهاية الجلسة التي يدعى فيها الجميع لتناول طعام الغداء، الذي يكون عادة على حساب الجهة الداعمة للجمعية أن يكون في مكان الدعوة، منفردًا في الجلوس إلى طاولة في ركن لا ينتبه إليه أحد.
حظي الرجل باهتمام كبير من أعضاء جمعيتنا الثقافية دون أن يُكلف أحد نفسه بالسؤال عنه: ما اسمه؟ ما مهنته؟ أو ما تخصصه العلمي؟ أو في أية مؤسسة أو جامعة يعمل؟ لقد اكتفوا برؤيته بينهم، وسعدوا بحضوره البهي، الذي يمنح نشاطهم الأهمية والقيمة لدى النخبة، ولدى عامة المجتمع. ولكن لم يفتني ملاحظة أن الرجل لا يأتي إلا في الندوات التي تستمر عدة جلسات في اليوم، أما الندوات القصيرة أو الأمسيات فإنه يغيب عنها؛ لأسباب لم يخطر بعقلي أن أبحث عنها.
في ندوة الشعر، التي أقامتها جريدة محلية بمناسبة احتفالها بيوبيلها الذهبي حرص الرجل أن يحضر جلسات الندوة كلها. وفي نهاية الندوة، بعد أن تناول المشاركون طعام الغداء في مقر الجريدة أعلن رئيس الجمعية أن مدير التحرير سيلتقي بالشعراء والنقاد ليتعرف إليهم، ويشكرهم على ما قدموه احتفاء بتلك المناسبة.
بعد أن انتهى مدير التحرير من كلمته، التي امتدح فيها الشعراء والنقاد وأعضاء الجمعية الثقافية المنظمة للندوة اصطف المشاركون من بينهم ذلك المثقف الغريب ليصافحوا المدير، ووقفت ورئيس الجمعية بجانب المدير لنعرفه إليهم.
عندما اقترب المثقف الغريب من مدير التحرير ظهر الاضطراب على رئيس الجمعية، وهمس في أذني:
- وهذا من يعرف اسمه؟
أجابته بلا اهتمام:
- من أين أن نعرف اسمه؟ سمه ما شئت: الرجل الغامض، الرجل المجهول، المشارك الخفي، أو اطلب منه أن يعرف بنفسه.
اقترب الرجل، ومد يده نحو مدير التحرير، فقدمه رئيس الجمعية بعفوية:
- صديق المثقفين.
تصافحا بحرارة وسأله المدير ممازحًا:
- وأنت ما جاء بك بين هؤلاء؟
أجابه بجدية:
- حب الأدب والشعر.
بقيت ورئيس الجمعية مع مدير التحرير بعد مغادرة المشاركين.
قال المدير:
- كانت ندوة ناجحة بفضل جمعيتكم الغراء، وجهودكم المخلصة التي تستحقون عليها الشكر والتقدير.
لم أهتم بشكره؛ فكان يعتمل في نفسي معرفة ذلك المثقف الغريب؛ فسألت مدير التحرير:
- ماذا عن ذلك الرجل، الذي قدمه رئيس الجمعية بأنه صديق المثقفين. نحن في الحقيقة مبهورون به حتى إنا لا نعرف عنه شيئًا.
غرق في الضحك ونحن واجمون. بعد أن هدأ قال:
- في الحقيقة، حتى أنا، لا أعرف اسمه. ربما زيد أو عمرو. سمه ما شئت، وامنحه ما شئت من الألقاب غير أن تدعوه صديق المثقفين. إنه رئيس شعبة الحركة في الجامعة التي استقلت منها؛ كي أكون مدير التحرير لهذه الجريدة.
تبادلت ورئيس الجمعية نظرات الانبهار. لكن كانت آخر ندوة نرى فيها صديق المثقفين.
كان يحافظ على المشاركة في جلسات الندوة كلها، ونادرًا ما تفوته واحدة، ويحرص أن يكون في الصف الأول من المشاركين. لاحظت انه ينتبه بكل جوارحه إلى ما يلقى في كل جلسة. وفي بعض الأحيان يهز رأسه ليدل على فهمه وإعجابه بما يسمع؛ فيظن المتكلم على المنصة أنه الوحيد الذي يفهم ما يقوله، ويدرك مراميه القريبة والبعيدة؛ فيوجه نظراته إليه أكثر مما يوجهها إلى الآخرين.
ولا يفوته كل يوم، بعد نهاية الجلسة التي يدعى فيها الجميع لتناول طعام الغداء، الذي يكون عادة على حساب الجهة الداعمة للجمعية أن يكون في مكان الدعوة، منفردًا في الجلوس إلى طاولة في ركن لا ينتبه إليه أحد.
حظي الرجل باهتمام كبير من أعضاء جمعيتنا الثقافية دون أن يُكلف أحد نفسه بالسؤال عنه: ما اسمه؟ ما مهنته؟ أو ما تخصصه العلمي؟ أو في أية مؤسسة أو جامعة يعمل؟ لقد اكتفوا برؤيته بينهم، وسعدوا بحضوره البهي، الذي يمنح نشاطهم الأهمية والقيمة لدى النخبة، ولدى عامة المجتمع. ولكن لم يفتني ملاحظة أن الرجل لا يأتي إلا في الندوات التي تستمر عدة جلسات في اليوم، أما الندوات القصيرة أو الأمسيات فإنه يغيب عنها؛ لأسباب لم يخطر بعقلي أن أبحث عنها.
في ندوة الشعر، التي أقامتها جريدة محلية بمناسبة احتفالها بيوبيلها الذهبي حرص الرجل أن يحضر جلسات الندوة كلها. وفي نهاية الندوة، بعد أن تناول المشاركون طعام الغداء في مقر الجريدة أعلن رئيس الجمعية أن مدير التحرير سيلتقي بالشعراء والنقاد ليتعرف إليهم، ويشكرهم على ما قدموه احتفاء بتلك المناسبة.
بعد أن انتهى مدير التحرير من كلمته، التي امتدح فيها الشعراء والنقاد وأعضاء الجمعية الثقافية المنظمة للندوة اصطف المشاركون من بينهم ذلك المثقف الغريب ليصافحوا المدير، ووقفت ورئيس الجمعية بجانب المدير لنعرفه إليهم.
عندما اقترب المثقف الغريب من مدير التحرير ظهر الاضطراب على رئيس الجمعية، وهمس في أذني:
- وهذا من يعرف اسمه؟
أجابته بلا اهتمام:
- من أين أن نعرف اسمه؟ سمه ما شئت: الرجل الغامض، الرجل المجهول، المشارك الخفي، أو اطلب منه أن يعرف بنفسه.
اقترب الرجل، ومد يده نحو مدير التحرير، فقدمه رئيس الجمعية بعفوية:
- صديق المثقفين.
تصافحا بحرارة وسأله المدير ممازحًا:
- وأنت ما جاء بك بين هؤلاء؟
أجابه بجدية:
- حب الأدب والشعر.
بقيت ورئيس الجمعية مع مدير التحرير بعد مغادرة المشاركين.
قال المدير:
- كانت ندوة ناجحة بفضل جمعيتكم الغراء، وجهودكم المخلصة التي تستحقون عليها الشكر والتقدير.
لم أهتم بشكره؛ فكان يعتمل في نفسي معرفة ذلك المثقف الغريب؛ فسألت مدير التحرير:
- ماذا عن ذلك الرجل، الذي قدمه رئيس الجمعية بأنه صديق المثقفين. نحن في الحقيقة مبهورون به حتى إنا لا نعرف عنه شيئًا.
غرق في الضحك ونحن واجمون. بعد أن هدأ قال:
- في الحقيقة، حتى أنا، لا أعرف اسمه. ربما زيد أو عمرو. سمه ما شئت، وامنحه ما شئت من الألقاب غير أن تدعوه صديق المثقفين. إنه رئيس شعبة الحركة في الجامعة التي استقلت منها؛ كي أكون مدير التحرير لهذه الجريدة.
تبادلت ورئيس الجمعية نظرات الانبهار. لكن كانت آخر ندوة نرى فيها صديق المثقفين.