سي حاميد اليوسفي - الجن في الحَمّام...

جمع عبد السلام أغراضه وخرج. فالحمام عندما يقترب وقت صلاة الجمعة، يكون شبه خال من الناس.. اقتنى تذكرة من الشباك، ودخل إلى الجلسة*. نزع ملابسه، وجمعها في الحقيبة، ثم قدمها رفقة التذكرة للشخص المكلف بمراقبة الحمام، فناوله دلوين.
اجتاز القُبّة الباردة، وتوقف في الثانية المعتدلة. فتح انبوبين، وملأ الدلوين بالماء الساخن والبارد. نظف المكان الذي سيجلس فيه، أخذ آنية من البلاستيك مملوءة، وسكبها على رأسه.
أخرج الصابون البلدي، ودهن به كامل جسده.. هذا الصابون مشهور بتسهيل تخلّص الجسد من الأوساخ.. بعد ذلك ذهب الى القُبّة الثالثة، وهي أشد سخونة من غيرها، وجد شخصا ضخم الجثة، طويل القامة، بلا تُبّان، مُمددا على بطنه.. عندما يكون الإنسان وحيدا في حمام تقليدي خال من الناس، ينتابه شعور قوي بالحذر والخوف.. شعور قادم من حكايات الأجداد التي تربط القوى الشريرة بالسكن في مثل هذه الأماكن الغريبة. نور الشمس المنبعث من كوّات صغيرة مُغطاة بالزجاج، بدا خافتا بفعل البُخار الذي يصعد من تحت إلى السقف. ومنه تتشكل قطرات باردة تتكون ببطء، وتتساقط بشكل رتيب. وعندما تقع قطرة على الرأس، أو أحد أطراف الجسم، تقشعر لها أبدان المستحمين.
تخيل عندما كان صبيا يصحب أمه إلى الحمام، صور نساء بدينات بأجساد مهترئة عارية، ونهود مُدلاة وشاحبة، وشعر مبلل بالماء. وتزيد عتمة البخار من قبح منظر بعضهن. يسقين الماء الساخن من صهريج صغير يتصاعد منه البخار. كان يدقق النظر، ويستغرب كيف يتغير شكلهن عندما يخرجن إلى الجلسة، ويرتدين ثيابا نظيفة. يضعن الكحل، ويُصففن شعرهن، ويُرمِّمن بعض ما أفسد الدهر..
كانت تعجبه أجساد الفتيات في سن الزواج ببطونهن الضامرة، ونهودهن التي تشبه عناقيد العنب. هؤلاء كن يعتنين بمظهرهن حتى داخل الحمام.. يرتدين تُبّانا عصريا يكشف عن مفاتن الحوض والخصر، ويجمعن شعرهن بالمقبض بين الفينة والأخرى، ويتحركن فوق أرضية الحمّام مثل من يمشين على البيض. وتنظر إليهن الأمهات نظرة التاجر الذي يعرض سلعة نادرة في السوق..
عندما كبر قليلا، مُنع من دخول حمام النساء مع أمه، وأصبح يُرافق والده.. كاد يضحك من تلقاء نفسه، وهو يتخيل صورا لأجساد بعض الرجال وهم عراة، ورأى بأنها لا تقل بشاعة عما شاهده في حمام النساء. وكان عندما ينظر باستغراب لشيخ لا يستر حجره، يُقال له بأن الرجل يجب ألّا يستحي من الرجال مثله.
تمدد عبد السلام على ظهره لبعض الوقت. سمع الكبار يقولون أيضا بأن حرارة أرضية الحمام المرتفعة تُداوى آلام الظهر، وتخفف صداع العظام. بعد أقل من ربع ساعة بدأ جسده يتصبب من العرق. أحسّ بصعوبة في التنفس، فقرر العودة إلى القُبة الوسطى. حكّ جميع أطراف جسده، حتى بدأ التعب يدب إلى ذراعيه، فغسل جسمه بالماء. في المرة الثانية استعمل الصابون العصري، وغسل شعره. أفرغ الدلوين على جسده، وملأهما من جديد.
في الوقت الذي عاد ليجلس في مكانه سمع صوتا غريبا. وللتأكد من ذلك أصاخ السمع مرة أخرى. فجأة أطل الشخص البدين الذي كان يتمدد على بطنه في القبة الساخنة، وهو في وضع غريب. يزحف على صدره، ورجله اليمنى خلف رقبته، وخده على الأرض. لم يتمالك نفسه، فرّ مسرعا نحو الخارج، كاد ينزلق، أحسّ بركبتيه تخونانه. لم يصل الجلسة حتى كادت تزهق روحه. أخبر الرجل الذي يراقب ثياب المستحمين، وحكى له ما رأى بالتفصيل، فانتابه هو الآخر شيئا من الخوف. سار متوجسا رفقة عبد السلام نحو الداخل. أطلّ بحذر على القُبة الأولى، فبدت فارغة. انتقل بحذر إلى باب القُبة الثانية، وما كاد يُطل على ما بداخلها حتى قفز من مكانه. لم يسبق له أن رأى شخصا في هذا الوضع. تراجع إلى الخلف. سمع الرجل البدين يتوسل، ويطلب المساعدة. قال بأنه كان فقط يُروّض عظامه، فوضع رجله خلف رأسه، ولم يقدر على إعادتها إلى وضعها الطبيعي. اقترب منه المراقب بحذر، وطلب من عبد السلام أن يبقى في مكانه حتى إذا وقع ما لا تُحمد عقابه، هرب وأخبر الناس في الخارج.
عندما يتجمع المؤمنون في المساجد فإن الشياطين وجميع القوى الشريرة تنشط في الأماكن الغريبة مثل الحمامات والأفران. هذا ما قال جاره الفقيه عندما علم بالأمر. وحذره بأن ما وقع معه مجرد إنذار، قد يتطور مرة أخرى إلى ما هو أسوء.
استغرب عبد السلام من ذلك، وتعجب كيف تترك الشياطين والقوى الشريرة الحانات ومقاهي الشيشة والملاهي الليلية وصالات القمار، وتُفضل عليها الأفران والحمامات التقليدية؟!


المعجم:
ـ الجلسة: قاعة كبيرة تتكون من جزأين. جزء واسع يجلس فيه الزبائن يستريحون ويرتدون ثيابهم بعد الاستحمام. وجزء يجلس فيه شخص يسمى الجلاّس يُراقب الثياب، ويضع بجانبه عددا كبيرا من الدلاء التي يقدمها للمستحمين.


مراكش 21 حزيران 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى