سي حاميد اليوسفي - (الهبال)* فيه وفيه

شاهدت شريطا قصيرا لجمهور مختلط يستمتع بأغاني الداودية المطربة الشعبية.. وبالقرب من المنصة عدد من الفتيات في سن العشرينات والثلاثينات بزي عصري يجذبن ويرقصن بشكل جنوني..
اختلف الناس في التعاليق على الفيديو.. اختلفوا حول الغناء والرقص والمناسبة بين معجب ومستنكر..
لا أدري لماذا عادت بي الذاكرة إلى سنوات خلت؟!
قيل بأن الإنسان كلما تقدم في السنّ، شدّه الحنين إلى الماضي..
كُنّا حديثي العهد بالتلفزيون. ثمن الجهاز مرتفع ومكلف جدا.. ولاستعماله لابد من ربط المنزل بشبكة الكهرباء.. ظلت العديد من الأسر ولسنوات طويلة، تتفرج على البرامج بالأبيض والأسود..
في نهاية الستينات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت الأسر تجتمع يوم السبت لمشاهدة السهرة في منزل أحد أفراد العائلة يتوفر على جهاز تلفاز.. وعندما تحين الساعة الموعودة تُطلّ عليهم الحاجة الحمداوية الله يرحمها في سهرة تمتد لساعتين أو أكثر..
لا أعرف هل كانت تؤدي أغاني مكتوبة، أم ترتجل الكلمات في اللحظة التي تُغني فيها.. ولا أعرف هل كانت (تشرب)* على عادة الشيخات، قبل أن تصعد إلى المنصة أم لا..
كنتُ في سن المراهقة، وعندما تصل مقطعا يخدش الحياء، مثل: (أنا عزبة من راسي / والقاع مشى في العراصي)، يحمرّ وجهي خجلا، وأتحيّن الفرصة لانسحب من الغرفة التي يوجد بها جهاز التلفزيون من غير ان يشعر احد بذلك..
أحببت في ذلك الوقت شأني شأن العديد من مراهقي جيلي أغاني الدكالي وبلخياط والغيوان وجيل جيلالة والمشاهب، ولم أهتم أو أتعلق بأغاني الحاجة الحمداوية أو حميد الزاهر.. لكن الكبار كانوا يجدون لذة ومتعة في الاستماع لهذا اللون من الطرب الشعبي الذي يوقظ في وجدانهم المسكوت عنه.. كان المغرب وقتها لا زال يتأرجح بين البداوة والمعاصرة..
رأيت بعضهم في الأعراس يخرج عن رُشده.. يَغرِم على الشيخات، ويرقص صحبتهن.. وكلما أنهين وصلة أحطن به، وجلسن بجانبه يشربن ويضحكن ويتغامزن.. وقد يحسده أقرانه من الرجال، لكن اليد قصيرة والعين بصيرة.. ولأن الحال لا يُشاور حسب التعبير الشعبي، فقد تزيغ العيون، وتتيه فيما لا تُحمد عقباه.. والزوجة في الطابق الأعلى تنظر وتحترق بنار الغضب والغيرة.. والأبناء أيضا يشعرون بالامتعاض، ولا يملكوا غير أن يطلبوا لوالدهم العفو والمغفرة
بعد أيام قليلة تعود الحياة إلى طبيعتها، وينسى الجميع ما وقع..
ويُمكن أن يتطور الأمر إلى قصة حب بلا أفق.. لا يهم التباين في الوضع الاجتماعي والثقافي والاعتباري للعاشقين..
روى لي بالأمس الصديق موسى بأن (شيخة) أي مطربة شعبية أحبّت حاجّا وهو ربّ أسرة، وارتبطت به لفترة طويلة من الزمن حتى بلغت الستين من العمر، فأنشدت بحُرقة:
ـ والحاج يا الحاج / خليتنا بلا زواج..



الهامش:
ـ الهبال: الهبَل: فقدان العقل والقدرة على التمييز.. ويبدو أن اللفظ العامي أقوى في الوجدان الشعبي..


مراكش 26 يونيو 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى