أدب السيرة الذاتية عبدالله البقالي - رجل بلا خيارات...

1-

لم أضع عنوانا لهذه الورقات بسبب ان الحكاية ام تصل
بعد الى نهايتها، وما يزال الغموض يلفها.
كل صور الأشعة أثبتت وجود ورم سرطاني بطول ست سنتمرات أسفل الكلية اليسرى حيث الاوعية الدموية الدقيقة والكثيفة.
البروفسور اوضح لي ذلك عبر رسم وأضاف: هذا وضع مؤسف يجرد من اي خيار بسبب الكلية اليمنى التي هي في وضع الميت. ولهذا فكل ما يمكن فعله هو واحد من امرين، عملية في منتهى الدقة من اجل استىصال الورم، وفي هذه الحال فمن الاشياء الواردة هو حدوث نزيف حاد قد لا نجد ما نفعله بصدده، وهنا ستكون نهايتك. والأمر الثاني هو اجتثاث الكلية وستنتقل فورا الى نظام تصفية الدم بالٱلات..
الخياران معا لم يعنيا لي الا شيئا واحدا في النهاية.لم اتخيل في كل العمر ان محطة بهذه القتامة تقع على خط سيري. صحيح ان نظام تصفية الدم يتيح لي الاستمرار في الحياة، لكن كميت موقوف التنفيذ بالنسبة لكائن من طينتي. فلم اكن في اي يوم من ايام عمري بالشخص الذي يلزم الأماكن ويستكين للسكون ويكتفي على الدوام برؤية نفس الوجوه، ويسمع نفس الكلام، ويرى نفس المشاهد. بل كنت الانسان الذي يسكن الرحيل، ويمني نفسه بالوصول الى اقصى بقاع المعمور..
غادرت المستشفى وقد مسح ذهني وذاكرتي من كل شئ. وبدت لي الأماكن متخلية عن معالمها. والاتجاهات بلا معنى, ولم يظل ماثلا امامي سوى ذلك المبهم الكامن في منعطف ما قريب. واكتشفت في ظل الورطة اني لا املك شيئا وليس هناك ما يخصني بما في ذلك حياتي التي كنت اجد نفسي سيد قرارها.
في ظل ذلك التزاحم للافكار لاحت لي صور الاحفاد وابنائي وبناتي وكل الذين احببتهم والذين لم اشك لحظة ان الوقع عليهم كان يفوق ما كنت اشعر به. فقد كنت الماضي او ورقة حملها سيل من مكان بعيد. الجزء الاهم من حياتها عاشته قبل ان تقع في المجرى. لكنني اجد الان اني بالنسبة لهم علما او بيرقا ينتظمون حوله من اجل مواصلة زحفهم في الحياة بإحساس الامان.
ذلك الوضع كان يفرض علي سماع ٱرائهم. أن أقامر في مغامرة يتساوى فيها الموت والحياة، او ان اواصل العيش بأطراف معطوبة.
لم التقط أي صوت، وفهمت الا احد غيري يستطيع حسم هذا الامر. الغيت وجودي ولم أستخضر غير وقعه على حياة الٱخرين. لكن ذلك كان يتطلب ثمنا، ومن أجلهم علي أن ادفع.
عدت للمستشفى بعد أسبوع، وابلغت الطبيب أني لست في العمر الذي يؤهلني لركوب المغامرات و أني اختار طواعية الاستمرار في الحياة ولو كتذكار لشخص مر من هنا ذات يوم..

***

2- الورقة الثانية

غادرت المستشفى وانا اشعر اني اني ازحت كفا غليظة كانت تطبق على انفاسي. او كاني نجوت من شراك كنت بصدد الوقوع فيه لكني كنت احمل وثيقة تتطلب مصادقة من السلطات. الا انها لم تكن وثيقة عادية. فقد تكون شبيهة بتذكرة سفر لا يعقبه عودة. وثيقة مكتوبة بخط جميل هي بمثابة شهادة على نفسي بكونها تقبل كل النتاىج التي ستترتب عن العملية الجراحية.
كنت اسير في الشارع وانا اشعر اني احرزت نصف انتصار حين تجنبت المواجهة الحاسمة حين اخترت الحل الذي يقضي بان ابقى حيا حتى وان كانت روح المغامرة تتطلب الحياة بشكل سوي، او الا اعيشها بالمرة.
حين صرت في البعيد، بدا تفكيري يشتغل بعيدا عن الصغوط. واحسست ساعتها اني في حاجة الى هدنة شبيهة بتلك التي يحتاجها مقاتلون انهكت قواهم الحروب. خصوصا بعد ذلك الوطيس الحامي الذي امتد لشهور طويلة في اروقة المصحات ومختبرات التحاليل. ذلك التراوح بين المنزلات المحبطة، وتلك المبشرة بالخير. ومن ثم كان لزاما من تغيير الاجواء استعدادا لفصل ملتهب.
سافرت. وحين اكون بعيدا عن المدينة، اشعر على الدوام اني امتلك قدرة استرجاع نفسي، وسحبها من دور المتفرح الذي لا يعرف كيف انه في كل مرة يجد نفسه محشورا ومتورطا داخل اجواء شريط عنيف تدمجه اطواره داخله حتى ليخيل اليه انه احد ابطاله. لهذا زرت قريتي. وبقدر البعد عن المدينة، كنت اشعر ان رئتي تتضخم وتتزايد شهيتها للهواء. لكن ذلك لم يدم طويلا. اذ سرعان ما اتصل بي احد افراد الفريق الطبي المتتبع لحالتي وطلب مني الحضور على الفور. وبعدها وجدت نفسي امام مجموعة من الاستفسارات المستنبطة من خلاصات التحاليل والصور التي كنت قد انجزتها من قبل. وادركت ان الفريق يشك في كون المرض قد يكون تسرب لباقي الجسم من العضو المصاب.ومن ثم كان لزاما من كشف بالاشعة يهم كل اعضاء جسمي. وفي انتظار نتائج الفحص، صارت نفسيتي ومعنوياتي مجالا مفتوحا للزوابع النفسية التي قد تهب في اي حين، ومن اي صوب. مدفوعة بالاستفسارات والاستنتاجات التي يتطوع بها اشخاص يحاولون الظهور بمظهر الحاذق المتمكن العارف بكل شئ. وحين استلمت نتيجة الفحص، لم الق عليها اي نظرة. وهذا امر دئبت عليه من البداية وتعاملت معه كقدر لا طاقة لي في تعديله او تغييره.
حدث تغيير في مكونات الفريق الطبي. وحل " البروفسور عثمان شامة" محل الدكتور "البخاري" لكن التغيير لم يمس فقط مكونات الفريق، بل اسلوب العمل ايضا. اذ استدعيت من جديد مرفوقا بلوازم الاقامة من اغطية وحاجيات. ولدى وصولي سالني البروفسور مان ان كان الامر واضحا لدي. فاجبت باني استدعيت لاجراء العملية، وها قد حضرت.
طلب مني البروفسور مرافقته الى المكتب، وهناك اوضح لي بانه تم عقد احتماع بخصوص حالتي، وانه تقرر اجراء عملية اجتثاث الورم عوض استئصال الكلية.

***

2-
حين وقفت امام الطبيب اول مرة، أحسست ان شيئا ما غير محمود العواقب سينضاف لحكاية متاعبي الصحية. اذ من الوهلة الاولى شعرت اني امام مصارع اكثر مما احست اني امام طبيب. بنية جسمانية هائلة. كتف هرقلي، ورأس ضخم اصلع يشبه تماثيل المقاتلين القدامى. و عيناه حين ينظر للمرضى تفيد انهم ليسوا بالنسبة له سوى نقط متناثرة عليه الربط بينها من اجل رسم مسار ثرائه.

محادثاته عبر الهاتف التي كانت تقطع حبل حواراته مع المرضى كانت في الغالب مع اشحاص من وسطه، او اطباء مثله. و دائما كان الحصول على المال هو الشاغل. مرة قال لمتصل وانا اجلس قربه: " احنا ما وصلناش حقنا من الصابا"

سألت نفسي: هل انا امام طبيب ام اقطاعي؟

نموذج مختلف عن ذلك الطبيب الذي تحتفظ به الذاكرة. و الذي هو في الغالب رجل كهل، غزا الشيب رأسه. يضع نظارات طبية و يتحدث في الغالب بصوت خافت مطمئن. ملامحه تعبر عن السكينة و الثقة.

حين دخل غرفة العمليات، كان يبدو متسرعا و يرغب غي ان ينهي العملية في اسرع وقت ممكن ليذهب الى مقصورة عيادته من اجل استقبال الزبائن. وكان أول ما فعله لدى دخوله، هو انه القى نظرة علي متوقعا ان ان يكون التخذير قد فعل فعله. غير انه اندهش وتضايق وهو يراني في كامل الصحو. تحدث الى الممرض المكلف بالتخذير ثم اتجه صوبي لمعرفة المدى الذي بلغه التخذير: كم سيجارة دخنت هذا الصباح؟

احبت: لا ادخن قبل الفطور. و انت نصحتني ان احضر دون تناول تلك الوجبة.

استدار جهة الممرض وقال بغضب: " زيدو". ثم غاب. ليظهر بعد مدة. سألني من جديد: كم سيحارة في اليوم تدخن عادة؟

اجبت: حسب الاحوال النفسية، لكن في العالب ادحن علبة كاملة.

استدار جهة الممرض وقال: "زيدو"ثم انصرف.

في المرة الثالثة بدا عليه القلق وقال لي: هل سبق ان تناولت مخذرات؟

_ نعم.

_ و تناولت الكحول؟

_ نعم.

انتابته نوبة غضب شديدة وعقب: انت دايرها من " السطاش" ؟

انفعلت وقلت له: لسنا هنا بصدد درس في الاخلاق. انا ازودك بالمعلومات لتعرف كيفية التصرف.

غضب ونادى الممرض: " زيدو".

حين عاد بعد لحظات قال لي: اي كلية سنخضعها للعملية؟

قلت: الكلية اليمنى.

عقب: لدي اقتراح آخر.

_ ماهو؟

_ ان نؤجل ذلك ونفتح الكلية اليسرى.

نظرت اليه غير مصدق وقلت: هل يعني ذلك اني لم اكن بصدد عملية مستعجلة كما اوضحت لي؟

غضب الطبيب غضبا شديدا وقال للمرض" زيدو و دوزي لو" ثم انصرف.

كان وعيي يتلاشى و تركيزي يتراجع. و مع ذلك لم افقد الوعي بما كان يدور حولي. لقد كنت اسحب الى الداخل وكأني انجر الى هوة عميقة تبتلعني. و يبدو ان الطبيب حضر هذه المرة دون ان الحظ وجوده. و حين تم دفع العربة التي تحمل معدات العملية التي يبدو انهم يخفونها عن اعين المريض مثلما يحدث مع الاضاحي ايام العيد، استشعرت ذلك من خلال اصوات تلك المعدات التي كانت ترتطم فيما بينها بسبب ان ارضية غرفة العمليات كان بها حفر. و ذلك ما نبهني ودفع بي الى فتح عيني. و استطعت ان ارى نظرات الطبيب المرعبة وهو ينظر الي، و احمد الله كونه لم يكن يملك بندقية و الا لكان قد سددها اتجاه رأسي...


***

[HEADING=2]3- حين حدق السرطان في ملامح وجهي [/HEADING]

"غالبا ما لا يحس المقاتل بجراحه في ساحة المعركة، ولا تقض مضجعه الا بعد انتهائها"
هناك فرق بين ان تتحدث عن أمر يشكل هاجسا تتنفسه وتعيشه، وبين أن تستعيده كذكرى.
في الاول تكون كل كلمة تتفوه بها محملة باحاسيس لا حصر لها، وهي ممتزجة بالخوف والقلق والترقب، خصوصا حين يكون المصير على المحك. وفي الثانية تكون أشبه بمتفرج يستعرض وقاىع يعي مسبقا المٱل الذي ستنتهي اليه. لكن ومع ذلك تظل بعض المواقف حاضرة بقوة كاعاصير خارج الاوقات والامكنة لحد انها تستطيع ان تعجن الازمنة وتطل بقرونها لتسقط كل ما يرتفع قبالتها. وذلك لقوة التاثير الذي يتجاوز الحدود ليصنع منك في النهاية حكيما او يضعك في منزلة اشبه عقل كبير قطره اوسع بكثير بالعقل المنشغل بالقضايا الظرفية العابرة.
لقد كنت في السابق قد توقفت عند عملية أخذ العينة من الورم السرطاني، وانتظار الناائج. وهي عملية لم اكن ادرك جدواها بشكل محدد. خصوصا وان كل الصور والتحاليل اثبتت اصابتي بالمرض. ولذلك لم اعرف ما ذلك العنصر الذي يبحث الاطباء عن كشفه فلم يكن ينقص سوى تحديد تاريخ اجراء العملية الجراحية. ذلك الموعد الذي تحول بدوره الى مسلسل لا احد كان يعرف كم عدد حلقاته. وذلك بسبب اضرابات الممرضين التي كانت تخاض لثلاثة ايام في الاسبوع. وقد تصادف ان الايام الثلاثة كانت تقع في الحيز الزمني الذي كان الفريق الطبي المشرف على حالتي يجري فيها عملياته الجراحية الاسبوعية. وهكذا صار كل تأجيل يليه تاجيل. وساعتها بدات اشعر بالخوف والقلق، خصوصا بعد عملية اخذ عينة المرض. اذ لا يعرف -كما افضى لي احد الاطباء- رد فعل المرض بعد ان تم استفزازه. هل ظل منكمشا داخل رقعته،ام انه انتشر ووسع من مساحة تواجده؟
في غمرة الخوف والقلق، اتصلت بي سيدة من البلد، وتحدثت معي بشكل جدي وصارم، وامرتني بوجوب سحب ملفي من المستشفى الحامعي، ووضعه لدى احدى المصحات تحت اشراف بروفسور معين، مبرزة لي ان مشكلتي ليست مختصرة في المرض وحده، بل وان عنصر الزمن له اهميته القصوى.
لم استطع تجاهل هذا التدخل. فهو من جهة ليس من شخص بسيط. ومن جهة ثانية اشعرني بشى مهم يحتاجه اي مريض، اذ ليس هناك اهم من ان تشعر في اللحظات الحرجة ان هناك من يفكر فيك ويشعر بما تعيشه. وهذا لعمري منتهى ما يحتاجه اي انسان وهو على تلك الحال. ولذلك فهمت بعمق المقولة الشعبية التي تفيد" ان الموت وسط الرجال انزاهة". لكن مشكلتي تلك اللحظة كانت متمثلة في كوني ألفت الفريق الطبي الذي كان يشرف على حالتي بالمستشفى الجامعي للحد الذي صرت اعتبرهم اصدقاء، واشعر ان حياتي في ظل وجودهم مؤتمن عليها.
في محاولة للتأكد من صحة هذه الخطوة، اتصلت بطبيبة هي ايضا من البلد ولها نفس تخصص مرضي. حين استشرتها طلبت مني ان انجز فحصا بالراديو للتاكد من نسبة اشتغال الكلية اليمنى التي كان يعتقد حد تلك اللحظة ان نسبتها ليست عالية. غير ان النتيجة كانت محبطة. اذ اثبت التحليل انها ميتة. وان الكلية الوحيدة التي تشتغل هي تلك التي اصابها السرطان.
في بعض الاحيان يكون عدم العلم بالشئ افضل من معرفته، لان ذلك على الاقل يبطل مفعول التاثير النفسي السلبي الذي يزيد الوضع حدة. وضع اشعرني بالكثير من الحزن. فكون ان تعرف ان عضوا حيويا من اعضاىك قد مات، اشبه بغاز انتزع منك حيزا وضع عليه قدميه، ويقف منتظرا فرصة لاكتساحك وتشطيبك من الوجود.
الطبيبة اكدت ان الطبيب المقترخ لاجراء العملية هو شخص متمكن ويمكنني ان اثق به.
لم اجد بدا من ان اقوم بجولة استكشافية للمصحة والتعرف على الطبيب.ومن الوهلة الاولى، استطاع الطبيب ان يشعرني بالالفة، وهو امر كنت اعتبره اساسيا. قدمت له بعض النسخ من ملفي الطبي التي كانت كافية كي تعطيه فكرة عن مشكلي الصحي. وبعد ان القى عليها نظرة متفحصة، أكد لي ان الامر لا يحتاج الى استىصال الكلية، لكن قراره الحاسم لن يبلغني به الا بعد الاطلاع على كل الملف.
أحسست أني خطوت خطوة مهمة، وهو ما انعكس على حالتي النفسية بعد مغادرة المصحة، اذ شعرت وكأني وضعت كل الحكاية وراء ظهري وتخلصت من المرض. لكن مشكلتي صارت كيف اسحب ملفي من فريق المستشفى الجامعي، وذلك اني كنت اجد الامر شبيها بخيانة او عقوق وعدم الوفاء. خصوصا واني كنت ادرك ان الفريق هو الذي انجز كل المهام التي تسبق اجراء العملية. وان الطبيب الجديد هو ليس اكثر من نادل في مطعم كل ما سيفعله هو وضع الطعام على الماىدة
طالفريق الكبي بالمستشفى الحامعي لم يخف امتعاضه. احد الدكاترة سالني عمن سبحري العملية. وقال لي بعدها انه لا يوجد احد بوسعه القيام بتلك العملية الحراخية. وانه في خالةاعتذار ذلك الطبيب عن القيام بها، فيمكنني العودة في اي وقت.

***

4-
كنت في السابق قد نشرت مجموعة من الحلقات تحت العنوان اعلاه. وقد ارتأيت أن اجمع تلك الحلقات في نص رجل بلا خيارات
لم أتأقلم مع أجواء و مناخ آسا.لذلك مرضت أو تجددت قصتي مع المرض التي كانت قد ابتدأت من ايام الجامعة. طال الوقت دون أن أسترجع عافيتي. وزاد من هلعي أن الطبيب أفضى لي بهواجسه عن امكانية اصابتي "بالبلهارسيا". ولأن معدات المستوصف هناك كانت متواضعة ، فقد نصحني بالتنقل الى مدينة "تيزنيت" البعيدة لاجراء الفحوص
الطبيب البولوني أمرني بالبقاء في المستشفى بعد قراءته للتقرير الى حين التعرف على نوع مرضي. لم أعتبر الأمر خطيرا. ولم أخبر أحدا بوضعيتي اعتقادا مني من أن الوضع لن يطول.
كان المستشفى من الطراز الحديث. وأنا وحدي من كنت أبدو فيه مختلفا. جل النزلاء كانوا من الضواحي يرتدون أقمصة طويلة زرقاء. ويلفون رؤوسهم ووجوههم بكوفيات سوداء. وربما لهذا كانت بشرتي البيضاء وشعري الأشقر تعمق شعوري بالغربة. والأكثر أهمية من هذا أن النزلاء والموظفين والزوار على السواء كانوا يتحدثون "التشلحيت" وهي لغة أمازيغية تخص سكان جنوب. واغلبهم يجهلون لغة أخرى. ولهذا السبب ازداد تعمق إحساسي بالغربة والعزلة.
لم أعر في البداية أهمية لهذه المسألة. كنت حريصا على شئ واحد. أن أحافظ على معنويات عالية. انه الشئ الاهم الذي يجب أن يحرص عليه أي مريض، ربما بشكل يفوق الالتزام بأوامر الطبيب والوصفات الطبية.
كنت اعرف أن لا أحد سيزورني أو يسال عني. وألا أتأثر بأجواء الزيارات. وان لا أعبأ بالصمت الطويل الذي سألازمه بسبب عدم وجود من أتحدث اليه. لكن الذي كان يضايقني حقا هو قوانين المستشفى وخاصة النوم في الساعة السابعة وهو ما كان يصعب على كائن ليلي مثلي.
الصباح في المستشفى هو لحظة السكون الشامل. فيه يكون المريض في حالة هدوء كلي وكأنه يسترد أنفاسه التي استنزفها الصراع المرير مع الالم الذي عاشه أثناء الليل. الممرضون والأطباء يلقون في الصباح لدى دخولهم القاعات نظرة شاملة عامة سريعة على كل المرضى للتأكد ما ان كان أحدهم قد مل من متابعة الرحلة. بعد ذلك يتحدثون الى كل مريض على حدة بطريقة تحددها قيمة المريض تبعا للتوصيات أو مكانته الاجتماعية.
في أول صباح لي هناك زارني ممرض يبدو أنه كان في بداية حياته العملية. سألني وهو يقيس حرارتي: "اسنت التشلحيت ؟ " هل تتكلم التشلحيت ؟"
بقيت صامتا مدة طويلة قبل أن أن أعي أني كنت المقصود بالسؤال. أجبت و أنا أنظر اليه وقلت : لا.
رد الممرض فراشي قاذفا به اتجاه وجهي وقال"ما اتفهمناش "
نظرت للرجل غير مصدق . لكن حرصي على معنوياتي جعلني أتجاهل ذلك السلوك المفعم بالوقاحة بالرغم من ان تصرفات الرجل ستتحول الى سلوك يومي. كنت أبقى حائرا افكر في الأمر وأتساءل: ما الخلل الذي يشكو منه هذا الرجل؟ أكيد أنه يتحمل النصيب الاكبر فيما يقوم به، لكن نصيبا مماثلا يتحمله من دربوه .لأنهم لم يرقوا به الى المستوى الإنساني الذي تتطلبه وظيفته. وعلموه فقط كيف يقيس الحرارة ،وكيف يلف الضماد ،وكيف يحقن ابرة . لكن بالرغم من ذلك ما الذي يشفع له تجاهل انسان غريب محطم ينخره المرض.ومعنوياته في الحضيض، وفوق كل هذا لا يسأل عنه أحد .وكل ما ارتآه أن الكائن الذي أمامه يجب أن يتحدث " التشلحيت" إن رغب في التواصل معه؟
كنت منهكا ذلك الأصيل. القاعة كانت غاصة بالزوار.فتحت كتابا ودفنت وجهي فيه. لا أذكر بالتحديد في أي شئ كنت أفكر حين أحسست بجسم ينتصب واقفا قبالتي. . رفعت رأسي، كانت امرأة. نعم امراة في سن والدتي. نظرت اليها وحين تأكدت من أنها كانت تخاطبني انا و ليس غيري ،قلت في ذهول: أتتحدثين الي ؟
تجاهلت المرأة سؤالي واسترسلت في خطابها . لم تكن تعرف كلمة واحدة من العربية. لكنها لم تعتبر ذلك عائقا. لا أعرف التشلحيت، لكني تلك اللحظة كنت أستطيع تأكيد اني كنت متمكنا منها. نظرة المرأة وتعاطفها اللانهائي مع حالتي التي أدركتها بنظرة واحدة. طريقتها في الكلام .حركاتها ..كل شئ كان يصلني في منتهى اليسر.حاولت أن أقول لها شيئا. أن أشكرها. هممت بالكلام. كنت تحت تأثر بالغ. لقد كنت في حضرة أم. رفعت عيني. رأيت مؤشر معنوياتي ينحدر في شبه انهيار. وفي لحظة كنت قد انفجرت باكيا بشكل أثرت انتباه كل من في القاعة. ولم اشعر بأي خجل.
لم أتمالك نفسي. انطلقت خارج القاعة. وحين وصلت الحديقة الفارغة لم أحاول أن ألجم نفسي ..تركت لها أن تفعل ما يريحها. رغبت في أن أبك الى ما لانهاية. سألت نفسي و انا في اوج احباطي .ماذا كنت تعرف عن الأمومة ؟
كنت تعرف الثدي الذي يلقم فم صبي.. الحضن الذي يتلقفه.. التمريرة الساحرة. القبلة التي تصنع الصمود.لكن هل كنت تدرك أنها أيضا اللوحة التي كنت داخلها قبل حين .؟ شئ واحد كان ينقص تلك المرأة كي تصل مرحلة الكمال الكلي بالنسبة لي. وهو أن تفهم ذلك الممرض زمن هم على شاكلته أن هناك لغة أرقى لكثير من تلك اللغة التي يشترط على الناس التخاطب بها كي يحدث تواصله معهم. لغة لا تحتاج الى كتابة ولا أبجدية . لغة لا تحتاج الى نطق أو اشارة أو لسان. .إنها اللغة الأشمل. لغة الاحساس الانساني النبيل..
لم أستطع أن أقضي يوما اصافيا آخر في المستشفى. كل المرضى في القاعة تجمعوا حولي حين عدت. صرت مكشوفا أمامهم. كنت لا أقرأ ولا أسمع الا المواسات. صرت ضعيفا . لممت أشيائي وذهبت للطبيب الذي خيرته بين ان أمضي في حالي بشكل لائق وبين أن أغادرها بطريقة أخرى . لم أعد اطيق المكوث خصوصا بعد ان مات ذلك المساء الشخص الذي كان يرقد جواري.. كل حواسي وعاطفتي كانت منجذبة الى الوجوه والعالم الذي طالما حسبته قديما متهالكا.
تصاعد حنيني مع تحسن حالتي لرؤية الأهل ومسارح الذكريات. عوالمي القديمة التي طالما تبرمت منها. استبدت بي الرغبة لرؤيتها ورؤية الوجوه القديمة خصوصا وقد منحني الطبيب رخصة لمدة ثلاثة اسابيع مع وعد بالعودة في الوقت المحدد لا ستكمال التحاليل.اندهش الطبيب حين ابلغته الى اني سأسافر الى فاس. قال لي: لا يمكن. انت في وضع ليس على ما يرام كي تتحمل عبء هذا السفر الطويل. ولم يدرك أني كنت على استعداد للذهاب لأخر الدنيا.
لم اف بوعدي. ولم اعد للموعد. هو الطبع السئ نفسه الذي كان ومايزال متمكنا مني حين يتعلق الامر بالصحة. ما أكاد استرد بعض عافيتي حتى انسى كل شئ . ولست أتحمل مسؤولية ذلك لوحدي. الامر نتاج تربية سيئة حين علمونا ان نخاف من الإبرٍة. وانها اجراء انتقامي. وحين كان ييخرسون احتجاجاتنا بالتهديد باستدعاء الطبيب. وكل هذا ستكون له عواقب وخيمة لن تظهى الا في القادم من الزمان.
بعد سنوات تجدد المرض. بل تقوى أكثر من ذي قبل . كنت قبل ذلك قد نسيت كل شئ . الأطباء والمستشفيات ومواعيد الفحوص .الا ان حبل الهروب سرعان ما اتضح انه قصير مهما تمدد .استفقت ذات صباح على ألم لا يطاق. وحين دخلت بيت النظافة ، صعقت. كان الدم كثيفا ممتزجا بالبول. ولأن العادة السيئة فيما يخص الصحة كانت متمكنة مني، فقد اعتبرت الأمر حالة عابرة. استمر النزيف لليوم الثاني ثم الثالث، ثم بدا ان ليس له نهاية. وكمثل من يقع في الأسر، فقد طاطأت رأسي اخيرا ورفعت العلم الابيض وذهبت لطبيب مختص.
الطبيب انذهل وهو ينظر الى الصور التي التقطت للأعضاء المريضة. الكلية اليمنى كانت مغلقة بسبب حصى كانت في طريق الخروج منها. والكلية اليسرى مهددة بدورها بحصى غليظة وطويلة كانت تقترب من البوابة. وتخوف الطبيب كان سببه عدم معرفة متى انسدت الكلية. وما هو حال السائل المحاصر داخلها .
قرر الطبيب ان العملية الجراحية ستجرى بعد اربعة او خمسة ايام. بدأت استعد للعملية. عدت لبلدتي. ودون ان افصح عن أي شئ. زرت كل الاقارب والامكنة التي كانت تعني لي اشياء معينة في حياتي. ولم اعرف ما ان كنت قد فعلت ذلك من باب وعيي أم بدافع الغريزة .صرت أعي أن اولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه مع الموت، كان يفكرون في أن يجعلوا مسار حياتهم أكثر طولا. استيقظت قبل الفجر . صعدت سطح البيت. كان الظلام ما يزال ناشرا أجنحته. الجو كان منعشا بالبرودة والنجوم كانت ساطعة وفي ضوئها توهج لم انتبه اليه من قبل. السماء كانت داكنة مشكلة من حلكة وزرقة قاتمة. اصخت السمع لألتقط السكون الشامل الذي يقطعه أحيانا صراخ ديكة كان يجتاح الظلمة والمدى. سألت نفسي: لماذا لم انتبه من قبل لهذه الروعة ؟ ما هذا السر الكامن بين الحياة والمخاطر والحواس؟ وهل سيكتب لي أن ارى فيما بعد هذا المشهد الذي وجدته ككسوف يحدث مرة في العمر ؟ دخنت سيجارتين وعدت للنوم.
في الثامنة صباح كنت في المصحة. وبالرغم من اني كنت مرفوقا بزوجتي وٱخرين، فقد أحسست أني كنت لوحدي. حملت اوراقا كثيرة اضافة الى كيس من الدم وبعض الأدوية. وطوال الوقت الفاصل عن موعد العملية، لم اتحدث لأحد. كنت مأخوذا بعالم لا ينفتح الا في اوقات استثنائية يجعلك خارج كل شئ. الزمن فيه يصير كبيت معار سرعان ما يأتي صاحبه ليبلغك حاجته اليه، وانه يتوجب عليك أن تفرغه. والحياة شباك مثقوبة تحاول الايقاع بصيد بلا تجسيد . كل شئ يبدو لا يقبل الامتلاك . في الحادية عشر صباحا أتوا إلى غرفتي . أمرت بنزع الملابس وارتداء أخرى . أنتبهت الى وزرة كانت مفتوحة من الخلف. وجدت تلك الفتحة فظيعة. لبستها وصرت أنتظر عودتهم .
انتابتني الرغبة وتمن في أن لا يعودوا أبدا . وفي الوقت نفسه كنت اتمنى لو اغمض عيني و اجد ان سنة انقضت عن تلك اللحظة. لا يهم ان كانت ستنتقص من العمر . فالعمر قد بدات أجده ملوثا لا يستحق ان يعاش إن كان ممزوجا بالألم والمعانات.
عادوا يدفعون عربة. أمروني ان أركبها. وجدت الامر مضحكا لقد كنت متاكدا اني سأسبقهم إن تبارينا في العدو. لم أكن بذلك السوء الذي يقتضي أن أركب عربة. أفهمتهم ذلك، لكنهم اصروا على ان الج غرفة العمليات راكبا عربة . لم يفهموا أني كنت اود في حال لو كانت تلك لحظاتي الأخيرة في الحياة ان اعيشها وأنا امشي على رجلي . قلت لهم: طيب. تريدون ان نلعب ؟.لنعلب. ها قد جلست. ادفعوا العربة اذا .
في المصعد كان ظهري جهة الباب . كنت جامدا بلا حراك . الممرضة اعتقدت أني كنت ابكي. أمسكت رأسي فجأة بقوة وادارت وجهي اتجاهها . انذهلت حين رأت وجهي الجامد وتحديقي الحاد في اللاشئ. ارتبكت. اعتذرت وساد الصمت. غرفة العمليات كانت بارة جدا . لم احس بأي رهبة في البدء . كنت قد صممت على مواجهة قدري . وعلى الرغم من أني لم أشاهد غرفة عمليات من قبل، فأنا أجزم أن أجهزتها قديمة جدا. شاشة لمراقبة نبض القلب. وبعض الوسائل الاخرى . ومثلما يعم السكون قبل أي حدث تراجيدي . فقد تبددت السكينة فجاة بعبور سؤال لذهني : كم عدد الانفاس التي لفظت هنا ؟ كم عدد الذين دخلوا هنا أحياء ولم يخرجوا ؟شعرت ان الموت يحلق في سمائي. في طفولتي كنت أتصوره على شكل طائر أسود كاسر . وأنه أعمى يسترشد بتوجيهات طائر أخر لا يغرد الا في الليل . ومن ثم كان اعتقادي أن الناس لا يموتون الا في الليل . في تلك اللحظة استنفرت غريزتي حين رأيت الطبيب يدخل الغرفة. لم اشك أنه الاحساس نفسه الذي تشعر به عنزة حين ترى ذئبا .
حين وقفت امام الطبيب اول مرة، أحسست ان شيئا ما غير محمود العواقب سينضاف لحكاية متاعبي الصحية. اذ من الوهلة الاولى شعرت اني امام مصارع اكثر مما احست اني امام طبيب. بنية جسمانية هائلة. كتف هرقلي، ورأس ضخم اصلع يشبه تماثيل المقاتلين القدامى. وعيناه حين ينظر للمرضى تفيد انهم ليسوا بالنسبة له سوى نقط متناثرة عليه الربط بينها من اجل رسم مسار ثرائه.
محادثاته عبر الهاتف التي كانت تقطع حبل حواراته مع المرضى كانت في الغالب مع اشخاص من وسطه، او اطباء مثله. ودائما كان الحصول على المال هو الشاغل. مرة قال لمتصل وانا اجلس قربه: " احنا ما وصلناش حقنا من الصابا"
سألت نفسي: هل انا امام طبيب ام فلاح؟
نموذج مختلف عن ذلك الطبيب الذي تحتفظ به الذاكرة. والذي هو في الغالب رجل كهل، غزا الشيب رأسه. يضع نظارات طبية ويتحدث في الغالب بصوت خافت مطمئن. ملامحه تعبر عن السكينة والدراية والثقة.
حين دخل غرفة العمليات، كان يبدو متسرعا ويرغب في ان ينهي العملية في اسرع وقت ممكن ليذهب الى مقصورة عيادته من اجل استقبال الزبائن. وكان أول ما فعله لدى دخوله، هو انه القى نظرة علي متوقعا ان ان يكون التخذير قد فعل فعله. غير انه اندهش وتضايق وهو يراني في كامل الصحو. تحدث الى الممرض المكلف بالتخذير ثم اتجه صوبي لمعرفة المدى الذي بلغه التخذير: كم سيجارة دخنت هذا الصباح؟
احبت: لا ادخن قبل الفطور. وانت نصحتني ان احضر دون تناول تلك الوجبة.
استدار جهة الممرض وقال بغضب: " زيدو". ثم غاب. ليظهر بعد مدة. سألني من جديد: كم سيحارة في اليوم تدخن عادة؟
اجبت: حسب الاحوال النفسية، لكن في الغالب ادخن علبة كاملة.
استدار جهة الممرض وقال: "زيدو"ثم انصرف.
في المرة الثالثة بدا عليه القلق وقال لي: هل سبق ان تناولت مخذرات؟
_ نعم.
_ وتناولت الكحول؟
_ نعم.
انتابته نوبة غضب شديدة وعقب: انت دايرها من " السطاش" ؟
انفعلت وقلت له: لسنا هنا بصدد درس في الاخلاق. انا ازودك بالمعلومات لتعرف كيفية التصرف.
غضب ونادى الممرض: " زيدو".
حين عاد بعد لحظات قال لي: اي كلية سنخضعها للعملية؟
قلت: الكلية اليمنى.
عقب: لدي اقتراح آخر.
_ ماهو؟
_ ان نؤجل ذلك لوقت لاحق ونفتح الكلية اليسرى.
نظرت اليه غير مصدق وقلت: هل يعني ذلك اني لم اكن بصدد عملية مستعجلة كما اوضحت لي؟
غضب الطبيب غضبا شديدا وقال للمرض" زيدو و دوزي لو" ثم انصرف.
كان وعيي يتلاشى وتركيزي يتراجع. ومع ذلك لم افقد الوعي بما كان يدور حولي. لقد كنت اسحب الى الداخل وكأني انجر الى هوة عميقة تبتلعني. ويبدو ان الطبيب حضر هذه المرة دون ان الحظ وجوده. وحين تم دفع العربة التي تحمل معدات العملية التي يبدو انهم يخفونها عن اعين المريض مثلما يحدث مع الاضاحي ايام العيد، استشعرت ذلك من خلال اصوات تلك المعدات التي كانت ترتطم فيما بينها بسبب ان ارضية غرفة العمليات كان بها حفر. وذلك ما نبهني ودفع بي الى فتح عيني. واستطعت ان ارى نظرات الطبيب المرعبة وهو ينظر الي، و احمد الله كونه لم يكن يملك بندقية والا لكان قد سددها اتجاه رأسي.
بعد أكثر من عشر ساعات على انتهاء العملية، صارت مسامعي تلتقط الأصوات من حولي. لكن تركيزي كان منصبا على ما يجري داخلي المصبوغ بحدة الألم التي كان تنبعث من كل احشائي. والتفكير المرتبط بالإدراك كان في أدنى حالاته. ولساني ثقيل جدا. ولم يستوعب احد ما كنت ارغب في قوله. والزمن كان في ادنى وثيرة عرفتها عبر مسار العمر كله.وفي المتبقى من الجمل التي تلفظتها وظلت حاضرة في الذاكرة هي اني عبرت عن امتناني للزوجة التي تحملت اعباء لا تطاق من اجلي. لكن للألم سلطته التي قد تعصف بكل القواعد والادبيات، خصوصا خين تتجلى في رد عفوي حاد. ولهذا سمعت الممرضة ولا ادري هل من باب التفكه ام الجد تحرض الزوجة قائلة: ماذا تنتظرين؟ انها لحظة مثالية للنيل منه. لن يكون في وسعه فعل شئ.
لكن كل هذا لم يكن ليشكل لي انشغالا. فكل شى كان يبدو بطيئا للحد الذي كنت اشبه بمن يجري لاهثا للحاق بالحياة وتثبيت نفسه على ايقاع سيرها.
اذكر اني في اللحظات الاولى التي كنت فيها استعيد ادراكي بما يدور حولي، اني رأيت زميلا لي واقفا ينظر الي وانا ممدد في سريري. في الفارق الزمني بين ان ادرك من يكون ومحاولة التحدث اليه، تطلب الامر ساعات طويلة. لذلك حين توجهت اليه بالحديث، كان قد وصل بيته، وتناول عشاءه وربما استغرق في النوم.
بعد ذلك بدأ الصحو وليته لم يبدأ. ألم لا يطاق ولا ابالغ ان قلت العذاب الشديد الذي سيمتد لازيد من ثمانية اشهر بسبب تهور الطبيب وقراراته المرتجلة
وجدت نفسي اشبه بمزرعة تخترقها الانابيب من كل جهة. فهناك انبوب مغروس في ذراعي. وٱخر ينقل الدم من الكلية الى خارج الجسم من الجهة اليمنى لأسفل الظهر. وثالث متصل بأيري ينقل البول من المتانة. وعرفت فيما بعد ان الطبيب ثبت انبوبين يربطان الكليتين بالمتانة .
الطبيب كان يزورني مرتين في اليوم برفقة اطباء آخرين. ولم اجد تفسيرا لذلك سوى تضخيم فاتورة العلاج. لكن زياراته بعد ذلك صارت تقل، ويعدها ابلغني انه يتوجب علي ان اخلي الغرفة بعد يوم او يومين. ولم يكن بمستطاعي ان اناقشه في الامر، اذ يفترض ان يكون هو اعلم بوضعي الصحي بالرغم من اني كنت اشعر اني لست على افضل حال. الا ان اشتياقي لعالم الحرية الذي افتقدته، اذكى حماسي للمغادرة، حتى اني لم اسأله عن اي شئ. كما لم يوجه لي اي نصيحة، وكل ما قاله هو انه يجب ان ازوره بعد خمسة ايام.
كان شيئا رائعا ان امد خطواتي واتأكد انه ما زال في وسعي التسكع في هذا العالم، وان امضي حيث شئت. وهنا اذكر ان باب الغرفة في المصحة انفتحت مرة، ورأيت رجلا يقطع الممر دون ان يكون مستندا على شئ. وهي المرة الاولى في حياتي التي ادركت فيها ان القدرة على المشي، هي نعمة لا يستطيع تقدير قيمتها الا اولئك الذين قدر لهم ان يواكيوا سير الحياة زاحفين. ولحظتها تذكرت حكمة قديمة كنا نكتبها على جدران الاقسام _ ونحن اطفال صغار_ " الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء، لا يراه الا المرضى"
كاكتشاف هام متأخر ظللت لبرهة اردد الحكمة و اقول في نفسي: اي حكيم هذا الذي قال هذا! اكيد انه كان ضحية لخطب ما كبير. لكني تلك اللحظة كنت حرا طليقا انظر الى مسافات العمر القادم التي تنتظرني قطعها.
بعد خمسة ايام زرت الطبيب. لم اكن اشعر اني اسير الى ما يشبه كارثة، لحد اني كنت الاطف كل من كنت التقي بهم من معارف، وأتصرف على اساس ان ما جرى لحد تلك اللحظة قد صار مجرد ذكرى. لكن حين نزعت الممرضة الضماد عن الجرح الذي تمت عبره العملية، صعقت وكادت تتقيأ وهرولت مستدعية الطبيب. لم اعرف لحظتها مصدر رد فعلها الذي كان ينبى ان امرا غير مرغوب فيه قد حصل. وحين القى الطبيب نظرة على الجرح، تغير لونه وادرك جسامة خطئه.
لقد تركت خمسة ايام بعد مغادرة المصحة دون دواء، وكان ان تعفن كل شئ في الخارج وداخل جسمي. ولم يجد الطبيب شيئا يقوله.
الممرضة بذلت جهدا كبيرا وهي تضغط جلدي محاولة تنظيف ما كان عالقا بالجرح. والطبيب امرني بان احضر يوميا الى
أحالني الطبيب الجراح بفاس على إحدى المصحات بالدار البيضاء لمتابعة علاج بالاشعة يخص الكلية اليسرى التي لم تكن أفضل حالا من اليمنى.
كان ذلك في النصف الاول من عقد التسعينيات. وكان هذا النوع من العلاج يومها غير معروف واثير حوله الكثير من الجدل واللغو. وعامة الناس كانوا يتحدثون عنه وكأنما الامر يتعلق بالسحر. واخرون كانوا يرفعون السقف ليدعوا انهم يعرفون اسراره التي من بينها انه يؤدي الى السرطان.
لم تكن لدي فكرة محددة عن هذه المسالة التي كتب علي ان اتعرف عليها عمليا. وبدون سابق تمثل عنها. وكنت على سبيل المثال اعتقد ان العلاج يتطلب مكوثا طويلا بالمستشفى. وهو ما حتم علي البحث عن ملجئ او اقامة في انتظار الانتقال الى المستشفى. وبموجب ذلك استقبلتني احدى الاسر ذات الاصول السوسية التي تعود لعائلة زميلة لي في العمل. وما لن يغرب عن بالي ابدا هو رب تلك الاسرة والذي بالرغم من ثقل العمر،والامراض المزمنة التي كان يشكو منها، فقد أصر على مرافقتي في كل خطوة خطوتها وانا اهيئ المستلزمات التي طالبت بها ادارة المستشفى. وكان يعز علي ان يتحمل الرجل تقل تبعات لم تكن تعنيه لا من قريب ولا من بعيد. وقد حاولت بشتى الطرق ان أثنيه عن ذلك وافهمه اني قادر على انجاز ذلك بمفردي. لكنه في كل مرة كان يرفع صوته حد الصراخ قائلا,: غادي ياكلوك بيضاوا أوليدي"
حين ولجت المستشفى لتلقي العلاج، فوجئت ان الامر لا يتطلب اقامة في المستشفى. وانه بعد نهاية كل حصة من العلاج التي لا تستغرق سوى بضع دقائق، يمكن المغادرة ، على امل العودة بعد شهر لنلقي علاج الحصة الموالية.
هذا الوضع ازاح عن كاهلي الكثير من الضغط، لكن المشكلة المتبقية كانت هي ان كل المواعيد تتم صباحا، وهذا بستوجب ان ابيت كل مرة في البيضاء.
اكتشفت في قاعة الانتظار ان جل المرضى لا يختلفون عني في شئ. فجميعهم تقريبا كانوا يفدون من مناطق متفاوتة البعد.والكثير منهم كانوا يبدون منهكين بالسفر. وحالاتهم النفسية ووعيهم متفاوت. والقليل منهم كانوا ثرثارين وغير عابئين بما كانوا فيه. وتبينت ان بعض المرضى كانوا يحضرون وبرفقتهم عدد كبير من ذويهم.
اذكر مرة اني حضرت متاخرا، واتجهت لقاعة الانتظار، وجلست بجوار شخص كانت هيأته في منتهى الاناقة. بدانا الحديث وتطور سريعا لحد ان قهقهاتنا كانت تتجاوز قاعة الانتظار. وبعدها حل دوره وتمت مناداته لقاعة العلاج. وما كاد يغيب حتى هرولت سيدة واتخذت مكانه مجلسا وتوجهت الي ساىلة: بالله عليك، ماذا كنت تقوله لذلك الرجل؟
اثارت المرأة وتساؤلها اندهاشي. لكن سرعان ما عمدت الى تلطيف الجو قاىلة: ذاك زوجي. ثم اشارت باصبعها وذاك اخوه وتلك اخته واستمرت تقدم جيشا من الاقارب. واضافت: تعرف لماذا طرحت عليك ذلك السؤال، لانه ببساطة ان ذلك الرجل خلق جحيما وحشر نفسه فيه، وحشرنا معه. لا يتحدث الى احد. لا يستقبل زوارا. لا يبتسم ولا يرغب في ان يسمع صوتا يتردد صداه في البيت. حينما كنتما تضحكان، كنا نتبادل النظرات بمنتهى الاستغراب ونتساءل: اي سحر يمتلكه ذلك الرجل لبقلب احواله بذلك الشكل؟
كثير من الأسوياء صحيا لا ينتبهون في الغالب لما يتفوهون به في حضرة المرضى، خاصة شديدي الحساسبة. اذ يحدث احيانا أن يكون كلامهم أشد وقعا حتى من المرض نفسه. و استرجع هنا حديثا في مصحة الاشعة بالبيضاء لمجموعة من الشباب الذين كانوا قد قدموا من مدينة العيون لمؤازرة صديقا لهم. وقد كانوا مرحين جدا، وقد مازح احدهم المريض قاىلا,," شميت ريحة كلوتك كتشوى من باب الكلنيك"
العبارة التي قيلت بصوت مسموع كان لها وقع على جميع المرضى، وكانت كاختراق سهم لصدر مكشوف. تأملت الوجوه الشابة واستنتجت أنهم لم يعرفوا مرضا ، ولم يسبق لأحدهم ان انكسرت جناحاه ليعرف قيمة نعمة القدرة على التحليق. وليدركوا الفارق بين ان تكون السماء مفتوحة لك يمكنك ان تطير في اي صوب، وبين ان يدفعك العجز للانزواء جانبا لتصبح القدرة على الخركة مجرد امنية تداعب خيالا فقد حماسه بسبب ادراكه انه لن يكون بديلا للحقيقة داخل حياة حين تتنكر لكاىناتها.
من الأشياء الأخرى التي لم تغرب عن بالي والتي حرت في المكان نفسه، أني حضرت مرة متأخرا، وكان دوري سيحين بعد وقت ليس بقصير، ومن ثم خطرت ببالي فكرة القيام بجولة استكشافية داخل المصحة.ومن ثم غادرت قاعة الانتظار وصرت اعبر الممرات. وعند باب مقصورة أحد الاطباء، رايت رجلا بهندام في منتهى الاناقة يروح ويجيئ ويحدث نفسه بصوت مسموع. استوقفني المشهد. الرحل حين رٱني اتجه نحوي. بدون مقدمات اشار الى الباب الموصد وقال،: ابنتي هنا. نعم هنا. خمس حصص للكشف والطبيب يرفض ان يفصح عن نوع مرضها. انا مهندس في" اونا" بإمكاني ان احملها واطير بها لاي رقعة في العالم مهما بعدت. لا اريدها ان تموت. لا لا . لن اسمح بذلك. هي كل شى في حياتي.
انفتحت الباب فجأة لتبرز فتاة برفقة سيدة وهما متعانقتين ومنخرطين في بكاء حارق. الرجل جرى اليهما. ضمهما وانخرطوا جميعا في البكاء. يبدو ان الطبيب قد كشف اخيرا نوع المرض الذي اصاب الفتاة.
هزني المشهد بقوة وهرولت مبتعدا قافلا اتجاه قاعة الانتظار خشية ان احد نفسي داخل مشهد ٱخر محبط لن تكون له اثارا ايجابية.
من الدروس التي تعلمتها في نفس المصحة، أني مرة كنت اول الواصلين الى المصحة بالرغم من اني قدمت من تاونات. فقد بت ليلة كاملة داخل حافلة. وكان يفترض ان اكون اول من سيتلقى العلاج. لكن بعد ان حضر الاطباء والتقنيون، سمعت صوت الالة وقد شغلت، ومعنى ذلك ان النظام لم يحترم. ثرت واشتعلت غضبا واحتججت بشدة على الادارة. وخرج طبيب ألماني من قاعة العلاج مستفسرا. وسألني: ما بك؟
قلت: انا كنت اول الواصلين الى هنا.
قال: تعال.
ادخلني قاعة العلاح. وحدت على المنضدة طفلا ممددا فوق الالة التي تصدر الاشعة.
قال الطبيب: هذا الطفل عمره اربع سنوات ونصف. وهو مصاب بالسكري اضافة الى ان كليتيه محشوة بالخصى. وهذا يؤهله ليكون صاحب اولوية.. وعليك ان تعي ان التسلسل الرقمي في المجال الصحي لا يعني شيىا. والاولوية تمنح للحالات وليس للارقام.
لم اضف كلمة واحدة بالرغم من ان حالتي لم تكن وفق الحال التي اظهر عليها. لقد كانت حالتي في منتهى السوء بسبب الانبوبين المطاطيين المثبتين عند مخرج الكليتين والذين كان يسببان لي جراحا ونزيفا متواصلا، ناهيك عن المسافة الطويلة التي كنت اقطعها جيئة وذهابا. لكن حين يتعلق الامر بالاطفال، فأي كلام او موقف لا معنى لهما.
انقضت ستة أشهر عن إجراء العملية، وعوضا من أن استعيد عافيتي، تفاقم وضعي الصحي وبشكل خاص النزيف الذي ازدادت حدته وكثافته لحد صرت أتبول كتلا مجمدة من الدم كانت تزيد من هلعي. وصرت اشعر أن معنوياتي قد اهتزت بعد أن تٱكل الغلاف الذي كان يحول دون تسرب تأثير المرض ويمنع من اختراقها.
بدأ صمودي يتلاشى لحد صار لذلك ٱثاره البادية على مظهري وسلوكي. وبدأ يتنامى حولي غلاف ٱخر يعزلني عن العالم. فالهذيان الذي يفترض ان يكون داخليا صار يتم بصوت مسموع. ولم اعد احد حرجا في رفع صوتي واشير باطرافي علما اني كنت اتمشى في معظم الاوقات وحيدا. لقد كنت ارى ان للاخرين عالمهم، وان لي عالمي. ماذا كنت اقول؟ ومن كنت احدث؟ لا استطيع ان استعيد ذلك. وكل الذي اعيه ان كل المتعارف عليه بين الناس اصبح متحاوزا بالنسبة لي بعد ان ادركت اني قد وطئت بقدمي الجسر الفاصل بين الحياة والموت.
في غمرة ذلك التيه الذي كنت قد بلغته، صادفت مرة صديقا رفقة زوجته التي كانت بدورها قد خضعت لعمليتين جراحتين عند الطبيب نفسه. وبعد فشل العملية الاولى، عمد الطبيب الى بتر حدى كليتيها.
السيدة كنت قد التقيت بها مرارا من قبل، لحد يمكن القول معه انها كانت تعرف كيف كانت احوالي قبل المرض، وبالتالي فقد لاحظت بسهولة التوتر وتقلب الاحوال التي كنت اعيشها. ولهذا استطاعت ان ترصد حجم التدهور والهوة التي كنت قد انحدرت البها. فقالت لي: " واش سمعت من قبل بشي واحد كيكتب للسخانة قبل ما تجيه؟"
قلت: نعم.
عقبت: إنه الحال الذي انت فيه. فإن لم تعجل بالخروج من هذا الوضع، فسيدمرك.
من وجهة نظر المريض، فالحديث مع شخص سوي صحيا هو مجرد بروتوكول فارغ. وهو لا يختلف في شى عن صورة تجمع بين غني ومحتاج. اذ لكل واحد واقعه ومصيره المختلف عن الاخر. وهو يختلف عن حوار بين مريض واخر حيث الارضية منبسطة وعلى قدر من التساوي, ولذلك تحضر الثقة وتتغير القناعات والافكار بسهولة.
لقاىي بتلك السيدة كان القعر الذي بلغته نفسيتي المهزومة المنهارة. وبعدها بدأت معركة استرجاع ثقتي بنفسي وقدراتي، وهو ما لاحظه أطباء الاشعة الذين ابلغوني انهم كانوا قلقين بشأن وضعي في الحصص السابقة، وزفوا الي خبرا في كوني لست في حاجة الى اخذ حصة جديدة من العلاج بعد اطلاعهم على الصور. ولا ينقصني سوى العودة الى الطبيب المشرف من اجل نزع الانبوبين المطاطين لاتاحة المجال للحصى التي تم تفتيتها للخروج من الكلية.
حين رٱني الطبيب ادخل عيادته، ابتسم وقال لي اني حين كنت ادخل عيادته واغادرها في السابق، كنت بالنسبة له شخص قد مات. وانه لم يكن يمنحني سوى نسبة ضئيلة جدا للبقاء على قيد الحياة. وان جسدي عنيد لا يتقبل العلاج.
وجدت حديثه مناسبة كي افرغ كل سخطي وغضبي بسبب ما عشته والذي كانت اخطاؤه هي السبب في كل ذلك. قلت معقبا: لا. ها انت تؤكد لي ان تشخيصك لما تراه عيناك يجانب الصواب في كل مرة. وانا ان بقيت حيا فلأن مناعتي هي التي انقذتني. فهل كنت تعتقد اني " كراند دايزر" تلتئم اطرافه بالنحاس المذاب حين تركتني خمسة ايام بدون دواء بعد العملية؟ وتلك الانابيب التي رميتها داخلي، هل كنت تعتقد انها ستثبت من تلقاء نفسها ؟ لقد جعلتني انزف دما طوال ثمانية اشهر. وبماذا تفسر لي قرارك بصرفي من المصحة ونزعت عن الكلية الانبوب الذي كان ينقل الدم خارج الجسم بينما كان الجرح لم يلتئم بعد والدم ما يزال يقطر داخلي؟ هل كنت انا صاحب القرارات في كل هذا؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى