انجيلا النويرية تطرق أزقة الفريق، زقاقاً إثر زقاقاً. حافية القدمين – لقد اعتادت ذلك، تحمل حزمة الحطب فوق كاهلها التعس، تلقى تحيتها هنا وهناك، على من تعرف من أهل الحي، تضحك من أعماقها، تبكي من أعمق أعماقها، تغني برطانة حلوة حزينة النبرات تتعثر انجيلا، يلفحها تيار الهواء الحار تري أديم الأرض يدنو منها كثيراً، فتعتمد على يديها كي لا يعفر التراب وجهها وتهمهم: (ووب ألي.. سجم خشمك انجيلا .. تدور تقأ … والله إن وقأ … تكتر سكاكينو) تحكم انجيلا عقدة اللاّوه فوق كاهلها الأيسر وتمضي.
انجيلا ستفارقين الفريق في قادم الأيام، قلاب الطوب الذي ارتكز على حائط الجالوص – ذلك الصباح الخامل – أعلن ذلك. عثمان خليل الذي هجر الفريق إلى إحدى حارات الثورة، قرر بعد أن طاب له المقام هناك أن يبيع بيت الورثة للخواجة جرجس الذي سيقطنه عاجلاً أم آجلاً.
انجيلا خيمتك التي صنعتيها من جولات الخيش وشرائح الصفيح وخرق الثياب وكل ما أفسده الدهر من متاع، فرقد على مقلب القمامة منسياً .. خيمتك تنتصب اليوم في كبرياءٍ رغم عريها بحوش عثمان خليل الفارغ إلا من خيمتك ومن شجيرات العشر، ومن مستعمرة طحلبية تحت صنبور الماء العتيق، وأكوام مهملة من حجارة وأطلال هنا وهناك. غداً ستحملين اطناب خيمتك .. غداً ستحملين حطب الراكوبة وتطوين برش الحصير وتطفئين سراج الرتينة...رتينة يا انجيلا.. رتينة فى زمن أعمدة الكهرباء يا أهل الكهف هووى أكانت بينكم امرأة نويراوية اسمها انجيلا ؟!!.
ستأكلين ما تبقى من كسرة الأمس بالمشلعيب، و ترحلين تاركةً خلفك كماً من ذكريات امدرمانية مؤلمة. بعد أن تهبط علينا فجأة عمارة أنيقة مخملية الستائر، شققها المضاءة تمد لنا ألسنة بعدد نوافذها، حينما يحال باب الحوش الصدئ للصالح العام، بمكأفاة نهاية الخدمة. التي بالكاد تكفى لمسح شاربه (الضبانة). أما حوائط الجالوص فستذهب إلى الجحيم دون تعزية.
لن أراك- انجيلا- هائمة في أزقة الفريق باحثة عن شئ أجهله. حينما ترينني، نلتقين لي بالتحية، غالباً ما تبادرينني بالتحية:
- ( شبّو .. كويسين ؟).
- (إزيك يا انجيلا ؟ إن شاء الله كويسه ؟).
- (الهمد لله ! ناس هبوبة كويسين ؟).
- (كويسين .. الحمد لله ! إنتو كيف ؟).
- (الهمد لله !).
ونفترق كل في زقاق ..
طفليك يا أنجيلا .. المتسخين دائماً … الجميلين أبداً … العاريين تماماً… بيتر واستيلا .. لن أراهما غداً يلعبان أمام الباب الصدئ .. بيتر يخلق من الطين تماثيلاً لبعير وأزيار وأشخاص أقسم أن أبادماك(1) كان أحد تماثيله.. أما استيلا فتصنع بنات أم لعاب وفساتينها الدلقانية(2) بينما بوبي ينبح دائماً ولا يعض .. ألقمه حجراً كلما هر في وجهي، فيتوارى داخل الحوش.
بيتر واستيلا أبداً يضحكان، ضحك طفولي مرح من القلب تماماً. حاولت أن أقلدهما لكنني فشلت .. حاولت ثانية .. فشلت ثانية، لم أكرر المحاولة!. أتصدقين أصوم وأفطر على ابتسامة ناحلة بطعم القرض .. الأرض السمراء شوف عينيّ يا انجيلا يجتاحها طوفان المحل، أرتال الجراد، جيوش الضفادع، أكداس القمل .. دم بشري مسفوح، دم دونما ضحية، دم وحسب .. يا شغبة(3) هووي ماذا أنت قائلة والأمر هكذا؟!.
حاولت أن أضحك من شر البلية لم أقدر .. سمعت كل نكات العام الماضي والذي مضى علّني أضحك كضحك بيتر واستيلا، مضت جهودي أدراج الهبباي(4) … عاقرت العرقي كي أنسى شقائي وربما أضحك … ظل شقائي مشتعل القنديل .. فازددت شقاء على شقاء. سنوات وسنوات لم أضحك فيها يوماً .. حتى أنني نسيت كيف يكون الضحك .. أهو فغر الفاه دهشة أم جزعاً أم بكاءً… انتهي بي الحال نزيلاً بمستشفى التجاني الماحي بحجة مرض نفسي لعله الاكتئاب الحاد.. لما خرجت ابتعت ثلاثة كتب، دوماً ابتاع ليس في معيتي شيء يصلح للبيع .. الكتب الثلاث كانت (اضحك مع الدنيا)، (سمعت آخر نكتة)، (كيف تكون سعيداً).
قرأت الكتب جميعها لم أضحك .. لم ابتسم حتى .. انتزعت أغلفتها وعلقتها على جدار الماضي ثم صنعت من أوراقها لفائف تبغ عوضاً عن البرنسيس … وطفقت أدخن عقب اللفافة يشعل أخرى وثانية تشعل ثالثة … وثالثة تشعل … ورابعة و… و … جوفي محترق يا انجيلا … الدخان من خيشومي يملأ ثلث الحجرة الجالوصية .. دخان .. دخان .. دخان .. جوفي دخان .. جوفي خواء .. خواء وخمر.
بيتر واستيلا يلعبان الحِجلة أمام الباب الصدئ، أتعمد معاكستهما دائماً:
- ( أنا في رابعون! دوري جا !!).
- ( لا شبّو .. إنتي ما ماآنا !).
- ( لا … معاكي .. حتى شوف هاندا حجري … حجري كبير … وي وي وي ي ي ي.. أها .. أها .. أها .. أنا في سوادس … لك .. لك .. لييييك !! ).
- ( شبو .. إنتي خَرّخَارة ساي (1) ما تلأبي ماآنا ! ).
- ( إلا استيلا .. تقول لي ما تلعب معانا !!).
وتضحك استيلا من أعماق أعماقها .. تصمت برهة مفكرة، ثم تنطق أخيراً وقد اكتسى بوجهها الصغير بشيء من الجدية:-
- ( خلاص يا .. شبو .. خلاص إنتي .. إنتي … م.. ما تلأبي ماآنا !).
- ( ألعب مش؟!! وينو حجري … أيوا .. هدا.. ليهو .. يلا أنا كنت وين ؟ .. وين يا شبّووووو وين ؟ وين ؟؟؟ أيوا .. في سابعون .. مش كدي يا بيتر؟! ).
- ( وآآآ … وآآآ .. شبّو إنتي خَرّخَارة .. انجيلا .. يا انجيلا .. نف .. نف .. انجيلاآآآ .. شبو دي ما يلأب مأآنا .. أمشي يلا !! .. والله أفلأك بي هجر بتائي أنا .. نمن تجيبي دم… !! ).
زوجك – يا انجيلا – ملوال هذا امقته كثيراً .. كلما عاد إلى خيمتك في هزيع الليل يرغي غضباً ويزبد .. دون ما سبب تنالين حصتك من الضرب اليومي .. عينو في الفيل وبطعن في ضلو.. يكاد يقتلك ضرباً لولا بيتر واستيلا، أرمقه شذراً .. تتكسر نظراته نافذة إلى الأرض بعيداً عن مرمى بصري كثيراً حتى تغشى بيوت النمل .. أتراه يبحث فيها عن فتات خبز آخر ؟!!.(2)
انجيلا عند ظهيرة كل يوم جديد ... قديم قدم حزنها .. تحمل حزم الحطب .. قدميها الحافيتين .. أدمتهما وعورة الطريق .. لكنها رغم رهق عيشها وشظفه لم تزل بعد، تخبئ ما تبقى من أنوثتها السودانية .. تصيح في حدة: وآآآي!!. كلما وخذ قدميها الصغيرتين الحافيتين حجر ناتئ لعين بقارعة الطريق.
أطفال الفريق دوماً يزفونك: (عَرّت .. كارو حصان .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت عَرّت)
تضعين أحمالك تكيلين لهم السباب .. فيكيلون لك الحجارة .. أنض عني حذائي وأجعله حجراً مشفعاً إياه بزوجه صائحاً فيهم: (إتنعل أبو شكلكم يا أولاد الكلب .. أبوكم لأبو أم درمان ذاتا، شُفّع مقطوعين ريحة .. أبالسة .. ملاعين... أولاد حرام .. يلاّ غوروا .. يلا .. قبال ما أجي أهرسكم واحد ورا التاني!!.. عواليق ما مربيين).
يغربون عن وجهي فزعين .. وحينما يدركون ناصية الشارع يتصايحون:
- (ألحقنا كان إنت راجل).
- (يا أبصلعة عامل رأسك زي كورة الشُرّاآآآب!!!)
- (وبكره بجييي،،، وي وي وي ي ي ي).
- (وبنفلعا … وبنفلعا..!!).
- (عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت .. عَرّت .. عَرّ….).
أترك بيتر يبكي في غيظ وبيسراه حجره الإنذاري المتربص بي. استيلا تحاول جاهدة أن تغسل غيظه، نهشني ندمي حينها، لقد أثقلت على ذلك الطفل كثيراً هذه المرة.
أمضي عنهما إلى السوق، حيث مريم الفاتنة ست الشاي تحتل حيزاً لا بأس به من شارع الشوام. أفرغ أحزاني لديها تنفحني القهوة .. تعزيني بفنجان من القهوة، سيان عندها إن نقدتها ثمن الفنجان أو لم أفعل … وهاتك يا شبّو تشربا ساكت ! أحياناً أغافلها وألقي بالنقود بين البرطمانات على يسارها، أعدها صاحبتي وكاتمة أسراري، تبادلني نفس المشاعر، أحدثها عن أحزاني الأمدرمانية.. تحدثني عن أساها خدين طفولتها منذ نعومة أظفارها لا حَوّاشة .. لا فابريقا ولا شفخانة.. الديش .. الديش(1) البلد صبحت جبجانة … النزوح للعاصمة بحثاً عن عملٍ شريف .. ارتضت مرغمةً أن تبيع الشاي للغرباء عوضاً عن أضياف الهجعة. وكانت تلك أولى تنازلاتها وليست آخرها .. مالاً كثيراً أثقل جيبها .. هماً كبيراً أثقل قلبها .. تصنع الشاي والقهوة والحِلّبة.. تشرد بين الفينة والأخرى … حِليلكم .. ُتمني نفسها بعفريت سليمان، يقلها شرقاً على وجه السرعة إلى أهلها .. لكن واقعها يصدمها، فيسكنها أساها خدين طفولتها .. تحاول أن تسمو فوق أحزانها وأحزاني فتسمعني نكاتاً: (في واهد هلفاوي بني ليهو جامئ …)، (قالو أدروب جا الآسمه أول مرة…)، (في رباتابي وجألي وشايقي ركبو القتر…)، (إسهاقه قال لي آدمو …)، (في جنوبي فته ليهو متأم يافتت المتأم مكتوب فوقا: فول بالجداد …).
وتسألني مريم عقب كل نكتة تلقيها: بايخة مُش؟ فأومي لها بأن: أيوه ! .. وتظل تسرد النكات ولا تضحك .. لا تبتسم حتى. وأظل أصغي للنكات ولا أضحك .. لا أبتسم حتى. يتسلل السأم إلينا خلسة، أشتم رائحة تفوح من ثيابها فأشمئز .. ليس من مريم، ولكن من زماني أشمئز .. أراكوبة لبيع الشاي .. أم كرخانة لبيع الجسد ؟!!. منعول أبوك زمن.
- ( إنت عارفة يا مريم .. البنات القدرك برلومات في الأحفاد ؟ )(2)
- ( صَحي!!).
- ( شايلات كتبن ودفاترن وإنت شايلة عِدّة الشاي .. الكفتيرة والمنقد والكبابي والبرطمانات).
- ( قدري !!..)
- ( منو القال ليك دا قدرك !!).
- ( أها شنو ؟!! الله غضبان ألى يأني ؟!!).
- ( عايني يا مريم .. شغل الليل دا ما في داعي ليهو ).
- ( شنو؟؟! …… شغل الليل ؟!! … إنت ما آآرف هاجة ساكت يا شبو ).
- ( ولا عاوز أعرف أي حاجة !! ).
أبارحها مجرجراً قدميَ والشمس قد عقصت ضفائرها الأسيلة، خلف رأسها.. كعكة. ها هي ذي الظلال الوسنانة، تحكم قبضتها على أروقة السوق الكبير كإعلان رسمي عن غروب شمس هذا اليوم. أمضى بعيداً عن مريم كي احتسي العرقي. أبحث في الجَزُر(1) عن مَزّه، فلا أجدها إلا أمام إحدى الدكاكين .. يكاد يسبقني كلبٌ إليها.. أتلفت حولي .. لا أدرِ لما تلفت حولي .. دكاكين السوق الهرم مغلقة أبوابها دوني .. الليل بعد في أول الغسق .. أقطم قطمة من مَزّتي .. الليل بعد في أوله .. أغالب نوبة حزن مباغت .. وأجوب السوق صامتاً .. هائماً .. متعباً …
أحدهم بسوق الصياغ ينحني ليحكم القفل على مجوهراته، حانت منه التفاته، عاد يجذب القفل ولما تأكد من إحكامه مضى. فتاة سيفانة وفتى ضاحك القسمات مهفهف البطن .. يجتازاني في طريقها إلى سوق العناقريب دون أن يلتفتان ناحيتي وهما يضحكان في صخب .. أحس الدمع أقرب إلى حلقي منه لمقلتيّ … آه في مثل هذا اليوم من العام الماضي كنا جلوساً ذات صباح على تلكم القهوة بفم شارع العدني .. يحوم علينا عم حسبو ذو الرأس الأشيب والقامة المحدودبة بأكواب الشاي .. فأتبادل مع رفاقي في القهوة، أنخاب تسريحنا من الخدمة المدنية وإعفاءنا من العمل النقابي.
ألقي المَزّه جانباً .. لم تعد لي رغبة بها .. يا الله هووي أنجدني يا الفوق .. إنني لا شيء إنني فقط .. سلسال خمر ورماد وهم .. هم .. هم وخمر وخواء .. كنت أمقت السكارى والآن صرت نديماً لهم .. هه هه .. اليوم خمر وغداً لا أمر .. ثكلتك أمك من ظلمة .. أريد شمسي .. أريدها أن تشرق .. فتمزق ظلاماً قميئاً .. أريد أن…..
أتراه بيتر غاضباً مني حتى اللحظة – ذلك الأونطجي – لابد أن الغضب قد سكت عنه سيبسم في وجهي عندما أحل بالفريق قبل شروق الشمس بثوانٍ.. سيضحك ملء شدقيه لدقائق، قبل أن يحييني بتلك التحية الأثيرة لديه:
- ( أبصلأه قد القرأه .. رأس النيفة إنقلب تأريفه).
أجل بي صلعٌ .. لكن رأسي كرأس النيفة ؟!! هه هه … تعريفه بتاعت الساعة كم ؟! يا حليل زمن التعاريف. يحمل النسيم الفاتر إلىّ أصوات منشدي المديح النبوي .. تأتيني فأرهف سمعي لقرع النوبة(2) وحناجر المدّاحين تشرخ هدأة الليل بوقارها:
دآيم … دآيم الله .. دآيم كريم الله … الدآيم دايم الله .. دآيم كريم الله .. دآيم .. الله .. دآيم كريم الله .. الدآيم … دآي……. إذناي بوصلة تحدد اتجاه الصوت .. قدماي آلتان تشداني لحلقة الذكر .. تشداني إليهم .. أحس حزني تلاشي .. لا حزن البتة .. شيء ما يدغدغني … أظنها النشوة ! لم أنتشي يوماً رغم أن الخمر تجري مني مجرى الدم .. تهفو نفسي إلى حلقة الذكر .. تهفو نفسي إليهم .. أجدني أعدو لألحق بالليلية.
أندس بين صفوف المدّأحين غرقاناً، أتمايل مع الإيقاع الرتيب .. تل .. تل .. تلل .. تل تلل .. تل .. تلل .. تل .. مجذوباً أرفع عقيرتي بالمديح .. أحس صوتي طرق السماء متوسلاً:
دآيم … دآيم الله .. دآيم كريم الله … الدآيم دايم الله .. دآيم كريم الله .. دآيم .. الله .. دآيم كريم الله .. الدآيم … دآيم كريم الله .. هي لا إله إلا الله .. محمد يا رسول الله … الدآيم دآيم الله .. دآيم كريم الله .. الدآيم .. دآيم …
ألج زقاق بيتنا صباحاً ونقر النّوبة بإذني عالقاً لا زال … كأنما المدّاحين ما انفضوا .. ألج الدار والشمس قد ارتفعت بطول قامتي عن سطح الأرض، فاتتني تحية بيتر إذناً، اجتاز الباب إلى رواق الدار، والجو شديد الحر .. لا كلب ينبح .. ما نهق حمار .. الليمونة التي تحرس باب المخزن تمثالاً من الشمع .. مطرقة أوراقها .. كديستي بيضاء اللون مستلقية بجوار اللقاية(1) تتشاغل بالتهام ما تبقى من لحمٍ، على عظمةٍ صغيرةٍ، أسطوانية الشكل. أحدهم يشخر بالداخل لعله أخي.
أتمدد على عنقريب القد(2) إنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة دون تغيير .. بينما تغير كل شيء في الدار .. غيرنا اثاث الدار عدة مرات، واستبدلنا البلاط الحبشي بالسيراميك، وجددنا طلاء الدار كثيراً، تغير كل شيء بالدار إلا هذا العنقريب. يالك من عنقريب مخضرم، تمدد عليك جدي ثم أبي وها أنا ذا أتمدد عليه .. ترى هل سيتمدد عليه من بعدي ال…
- ( ورا .. رووك .. ورا .. رووك .. ألهقونا يا .. أبو مُرّووه .. هوويّ .. هوويّ … الهلة .. يا ناس الهلة .. هوويّ .. هوويّ .. يا شبو .. يا ناس هبوبة .. يا … هوويّ .. ما تلهقونا .. ألهقونا .. الليلة ووب .. ووب .. وووووووووووب .. النار أكلتنا .. النار أكلتنا .. ألهقونا .. ألهقو….الناااااااااااار).
- ( أمنو .. الكهرباء !! ).
- ( في شنو ؟ ).
- ( بيت انجيلا أتحرق ! ).
- ( يا الله ياخ .. استغفر الله .. أستغفر الله العظيم … الحمد لله، اللهم لا اعتراض على حكمك يا الله).
- ( يا جماعة .. البيت ولع كيف ؟! ).
- ( قالو البنجوس الصغير دا .. اسمو مين ياخ .. أآي .. بيتر .. لقي ليهو صندوق كبريت واقع. وقام يشخت لحدي ما النار بقت في الكُرنك .. أها بعد داك .. قالوا في لستك عربية كان مجدوع في الحوش .. بعد ما ولع .. إدردق على الراكوبة .. طبعاً الراكوبة ما كضبت.. قامت هي الأخرى ولعت ).
- ( والله غايتو .. حكمتو بالغة … أها أختو الخادم الطليشة دي مشت وين ؟ ).
- ( إنت في أختو .. ولاّ انجيلا ذاتا ! بالله الذي … الجنوبية دي زي كلب الحر .. النهار كلو مساسقة .. من بيت لي بيت !! ).
- ( والله كلامك صحيح .. بس إنت تعال .. وين أبو نواس راجلها شقي الحال دا ؟! ).
- ( منو ؟ ملوال ! .. يا خي سيبك منو .. الله ينعلو .. دا عتيق خَمّله ساكت … بالله شوف النار دي باقة كيفن … اللهم لا حوله ولا قوة إلا بك ! ).
الدخان يتصاعد إلى السماء، يمسك بخناق الديمات العطشى .. فتصفق ألسنة اللهب له طرباً. ساكني الحي وكل من ألقى به الدرب تجمهروا حول حوش عثمان خليل .. سدوا الأفق دونه.. يضربون كفاً بكف ويكتفون بالثرثرة.
- ( لا حوله !! ).
- ( الليلة ووب !! ).
- ( أجي(1) يا بنات أمي .. ما في راجلاً يطفي النيران دي !! ).
- ( أصبّري يا السرة يا ختي .. ديل رجال آخر زمن ).
- ( حليل الكانو بِشموا الدم وبقولوا حَرمّ !! ).
- ( يا الله ..!! ).
- ( حاسب النار ما تبق في سلك الكهرباء .. !! ).
- ( يا زول ما تخاف أمنا الكهرباء .. ! ).
- ( ياخي ما أمنتوها ولا حاجة .. النور قاطع من أمس ..!! ).
- ( ياه مين اللي عمل كدا يا رب !! ).
- ( صدقيني معرفش .. جايز يكون بيتر .. أصلو على طول بيلعب بالكبريتة ).
- ( تشيباك … ).
- ( تشيباك … )(1).
- ( دي شنو دا !! ).
- ( الكُرنك .. ولع يا ميري !! ).
- ( إيلويل !! )(2).
أرقبهم لا شيء سوى حوقلة وثرثرة .. ثرثرة وحوقلة .. مرت دقائق مثقلة بالانتظار .. مرق عم عشميق من بيننا، حاملاً خرطوم ماء .. ناوله إحدى الصبية الذين تجاسروا ودنوا أكثر من ألسنة اللهب المأفونة .. يا الصبية الأشقياء !!.
عاد عم عمشيق إلى مكانه خلفنا بعد أن فتح الصنبور. فأندفع الماء جارياً، وجهته أصل النار .. مرت لحظات ما خمد فيها لسان للهب .. أهل الحي ومن ألقى به الدرب يكتفون بالحوقلة والثرثرة .. الثرثرة والحوقلة .. إنبرى عم سوميت يشق الجمع، حاملاً دلو ماء مملوء بالتراب.. ناوله صبياً حافي القدمين تنطق ملاحمه بدماء غير سودانية مازجت دمه .. وخلفت وراءها بشرة قمحية وعينين عسليتين وشعراً بنياً مجعداً فوق قامة قصيرة.
أودع الصبي ما في الدلو في جوف اللهب الذي لم يزل ظامئاً. وكأنه لهب ينتمي لنار السعير .. قفلت راجعاً للدار كي أجلب مزيداً من الدُلِي والتراب.. عدت فوجدت النار خامدة .. عم عشميق وعم سوميت والصبية، وقوف حول النار لا ليصطلوا .. كانوا يدفنون أشلاءها بالتراب .. إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها مراسم دفن تجري خارج مقابر البكري أو مقابر احمد شرفي .. حدث جديد .. جديد لنج .. لكنه قديم .. قديم قدم النيل ! قدم حضارة أهلي.
- ( سِكَرفي ؟ )(3).
- ( الحمد لله !! ).
من يسألني عن حالي بعدك يا دارا؟ا. من يا ترى؟. دا حالنا .. إنتو كيف؟ لسع في ..؟ كويس إنو سد الهنا دا ما قام .. كويس إنكم .. لقد انعوج لساني يا دارا .. إنني الآن عارٍ تماماً، أقف أمامك كما ولدتني أمي ، لقد أضعت رطانتي عندما تركت أمي الجرَّجار هناك .. وقدمت إلى أم درمان بالزراق(1) تاني بلاش من القُرّاصة .. تنازل ثاني من أمي، بعد أن طاب لها المقام في أم درمان …
دعيني أجعلك تضحكين قليلاً .. فأنت طالما أضحكتني .. عاد أبي في أحد الأيام مهموماً.. لقد ُسرِّح من الخدمة المدنية لأنه لم يدفع الأتاوه … اقترحت عليه أن نسافر إلى حلفا، حيث ثمالة أهلنا ورطانتنا … قالت لي أمي: ( سُب عليك !! ) . صمت أبي كاتماً غيظه .. أعدت اقتراحي عليه، .. انفجر في وجهي: ( تاني كان جبت حلفا على لسانك إلا أطلع …… ).
وا وي .. وا وي .. وآآآآ .. وا .. وي .. انتشلتني صافرة عربة الإطفاء من ذاتي .. تلفت ناحية الصوت .. أراها قادمة من ناصية الشارع نحونا تختال كطاؤوس .. تلفت حولي .. أهل الحي ما زالوا يتحلقون حول حوش عثمان خليل .. النظّارة يرقبون نهاية العرض المسرحي بصبرٍ عظيم.
- ( ناس المطافي جو .. الحمد لله !! ).
- ( الله يطلع ميتينك .. بس دا الفالحين فوقو !! ).
نظر إلى جاريّ دهشاً، حتى أن الدهشة ألجمته .. ربما الفزع أسكته .. نظر إلى، ولم ينبس ببنت الشفة. وقفت عربة الإطفاء أمامنا في أنفة مزيفة .. طالعت جمعنا من الرأس حتى أخمص القدم، ثم صّعرت لنا خداً .. باغتتني رغبة ملحاحة في التقيؤ .. صددتها بعد لأي .. فمضت عني.
بصقت عربة الإطفاء في الجمر فانطفأ .. أصلاً كانت جمرات صغيرات في الرمق الأخير من دورة حياتها.. تأكدت من أنها قد أنجزت مهمتها بنجاح، فنفخت رماد سقط المتاع .. صفق لها الرجال، والنسوة زغردن .. بصقت أمامها .. ارتدت إلى الوراء قليلاً قبل أن تصلح من وضع خرطوم الماء على رأسها ومضت عنا.
مرت لحظات مسرعات .. لكن أنجيلا ؟؟ .. النسوان هناك في ركنٍ قصي .. يتهامسن يتغامزن .. يثرثرن … أين انجيلا ؟! تسائلني نفسي .. تسلقت عيناي المتلهفتان .. هامات الرجال بحثاً عن انجيلا .. لا شيء هناك سوى جمرة صغيرة، لم تخمد بعد. وأكوام من رماد تناثر هنا وهناك.
قبل ساعتين من الآن كانت هنا خيمة تشمخ في كبرياء رغم عريها .. تسكنها امرأة عظيمة رغم فقرها اسمها انجيلا .. قبل ثلاث ساعاتٍ من الان، كنا بيتر واستيلا، ينامان ملء اجفانهما، قبل أربع ساعاتٍ من الآن، كان بوبي يمارس تمشيطه المعتاد امام الخيمة، لعل حظه مع النساء قليل، أو لعله لا يكثر من عادة التبول على أعمدة الكهرباء وإطارات السيارات، كي يعلم النساء من جنسه انه على استعداد تام لتقديم خدماته لهن، إن كن في موسم التزاوج، قبل ساعتين من الآن كنت عائداً للدار وخيمة انجيلا تجاورني المكان.
هبطت عيناي المتحسرتان .. تتصفح وجوه النسوة.. بعضهن مَبّلمات .. بعضهن بثوب الجارات .. وبعضهن نسيت ثوبهن وخرجن بفساتينهن القصيرة.. بحثت في وجههن جيداً لعل انجيلا تختبئ بينهن .. لعلني أقرا في وجه إحداهن أخباراً عنها .. انجيلا إنت وين ؟!! ..
ملوال تذكرته الآن .. لم أره بين الجمهور المتحلق، وكأن الحريق لم يندلع بخيمته .. أو أن تجمهر أهل الحي ومن ألقى به الدرب، حول خيمته لا يعنيه كثيراً.. عاودتتني رغبة التقيؤ .. صددتها ثانية .. ملوال أيها الكريه .. انجيلا تحتاجك الآن أكثر من أي وقت مضى .. ترى أي إندايه تواري سوأتك الآن ؟؟.
انتشلتني من ذاتي أصوات أقدام الرجال وقد تفرق شملهم وثرثرتهم .. النسوان حملن أثوابهن ومضين ملؤهن الثرثرة .. أتى طفل عفريت بِكُرة شرّاب فلحق به الصبية مهرولين .. اجتازوني إلى الميدان والشمس ارتفعت من الارض بقامة أطول كثيراً من قامة انجيلا.
وحدي في ذلك الزقاق، وطفلة خلاسية حلوة القسمات .. تحدق في مكان الحريق فعلت مثلها.. كان يسوع مصلوباً، عاري الصدر، مطبق الأجفان، مسدل الشعر .. بجواره على الأرض إتكأ كتاب صغير أنيق احترقت بعض صفحاته .. والطفلة الخلاسية تحدق في الصليب الفضي بتساؤل مفضوح وجدتني ابتسم .. لا أدر كيف فعلت ذلك .. اقتربت من الطفلة دون أن تلحظ ذلك، لقد كانت محدقة في ذلك الصليب الفضي باهتمام شديد جداً.. اقتربت منها أكثر .. دريت شعرها الجميل بيسراي .. تنبهت .. نظرت إلىّ دَهِشة .. واجفة إن شئت.
- ( اسمك منو يا حلوة ؟! ).
اتسعت حدقتا الطفلة الخلاسية جزعاً .. نهشني ندمي، ما كان عليّ أن أسالها .. هرولت الطفلة مبتعدة عني في هلع ظاهر تصرخ بكل ما تملك من صوت:
- ( يمه .. يمه .. السَحّاري .. يمه .. يمه .. شفت لي سَحَ…. آ … ري !!).
تعثرت .. إنكفأت على وجهها .. اقتربت منها، أعاونها على النهوض .. رأتني اقترب منها نسيت بكاءها .. متحاملة على نفسها، ركضت بكل قوتها .. واندست في إحدى بيوت الفريق. سيطول حديثها لأمها.
إيييييييييه .. دنيا فَرَن دَقَس .. دنيا أم بناين قش .. دنيا .. ولادة بدون مخاض .. الشوارع فارغة، الشوارع صامتة .. عيناي تريان ضحية دونما دم .. عيناي تريان سكيناً، تآكلت شفرتها… ذبحوك يا انجيلا بسكين .. لكنها سكين ميتة، شفرتها تآكلت بعوامل الزمن والتاريخ والجغرافيا.. وتركونك في قارعة الطريق .. تركونك وأحزانك .. أحزانك يا انجيلا أرها قد بللها الدم .. دمك .. ليتني منديلاً يكفكف أحزانك السرمدية ..
معذرة .. معذرة بحجم دموعك الخرس التي ما انفكت تنهمر من مقلتيك فتداريها بكفيك .. لعلك كنت تدخرين نواحك لهذا اليوم .. معذرة .. معذرة سيدتي، لأن أم درمان عن عمد نزعت عنك رَحَطِك فبدوت عارية كيوم ولدت أمك، كنت عارية تماماً، إلا من كبريائك .. يا الداقسين هووووي.. يا النايميين هووووووي .. يا الميتين هوووووي .. القيامة قامت، القيامة قامت .. القيامة قامت.
طافت عيني بيوت أهل الحي .. بيوت مفرغة من ساكنيها … حيطان هنا.. حيطان هناك. يأتيني صدى صوتي وأنا احادث أهل المدينة بحديث القيامة .. أنا وحدي في الزقاق، لا طفلة خلاسية بقربي .. لا انجيلا.. لا خيمتها .. بيتر واستيلا تأتيني ضحكاتهما العِذاب من مكان ما خلف تلك الحيطان .. ضحكات من القلب تماماً، ضحكاتٍ لم يغلفها الزيف ولا النفاق، بينما اختفى بوبي حتى إشعار آخر.
أحسست الغربة تنهشني .. أولدت ها هنا أم أنني كنت ابن سبيل منح ماءاً وأداماً .. وأصاب ظلا فنام .. وحينما آبت الشمس تحامل على نفسه ومضى.
أنا منو يا أنجيلا .. أنا الرّطاني .. ولا ود أم درمان .. ولاّ شيتاً تاني .. أنا منو … منو يا أنجيلا ؟!!
- ( سبُ عليك .. !!).
- ( شنو .. شغل الليل !! .. انت ما آآرف هاجه ساكت يا شبو !! ).
- (هوويّ .. يا شبو .. يا ناس هبوبة .. يا … هوويّ .. ما تلهقونا .. ألهقونا .. الليلة ووب .. ووب .. وووووووووووب .. النار أكلتنا .. النار أكلتنا .. ألهقونا .. ألهقو….).
- (أجي يا بنات أمي .. ما في راجلاً يطفي النيران دي !!)
- (منو ؟ ملوال ! .. يا خي سيبك منو .. الله ينعلو .. دا عتيق خَمّله ساكت …)
- ( شبو .. كويسيين).
- (أصبّري يا السرة يا ختي .. ديل رجال آخر زمن )
- (الهمد لله ! ناس هبوبة كويسين ؟ ).
- (عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت .. عَرّت .. عَرّ….).
استند على طلل خيمة انجيلا .. فيتهاوى الطلل .. يلفحني تيار الهواء الحار .. أرى أديم الأرض يدنو مني كثيراً .. اعتمد على يديّ كي لا أرتطم بالأرض مهمهاً بالمثل (التور إن وقع تكتر سكاكينو).. ثم استوي قائماً
- ( وهاتك يا شبو تشربا ساكت !!).
- (إزيك يا عم حسبو !!).
- ( حباب(1) الأفندية .. !!).
أتحامل على نفسي .. أتجه للدار .. أريد أن اتمدد على عنقريب القد، والشمس كأن بينها وبيني ثأر قديم، فتعبس في وجهي .. وتجلدني بسياط لاهبة.
- (والله غايتو .. حكمتو بالغة … أها أختو الخادم الطليشة دي مشت وين ؟ ).
- (إنت في أختو .. ولاّ انجيلا ذاتا ! بالله الذي … الجنوبية دي زي كلب الحر .. النهار كلو مساسقة .. من بيت لي بيت !! ).
- ( يا زول ما تخاف .. أمنا الكهرباء ).
- ( وبنفلعا .. وبنفلعا !! ).
- (عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت .. عَرّت .. عَرّ….).
- ( الخادم الطليشة دي … ).
- ( الخادم الطليشة دي … ).
- ( الخادم الطليشة دي … ).
ذبحوك يا انجيلا بسكين .. لكنها سكين ميتة .. شفرتها تآكلت بعوامل الزمن والتاريخ والجغرافيا … وتركونك في قارعة الطريق .. تركونك وأحزانك .. أحزانك يا انجيلا أرها قد بللها العرق.. ليتني منشفة تجفف عرقك العزيز، الذي سكبتيه غزيراً، في زمنٍ حقير .. حفيت قدميك وأنت تبحثين عن وطن .. وطن يضمك وصغارك بيتر واستيلا وربما زوجك ملوال .. وطن يربت على أحزانك السرمدية ويمسح عن جبينك كدر السنين .. وطن يعلم ابناءك الكتابة والقراءة، وطن يعالجك واسرتك من امراضٍ مستوطنة .. وطن يغنيك عن ذل الخدمة في البيوت.. وطن يضحك لك عندما تبسمين له .. وطن يمنحك الشعور بالانتماء.. وطن رؤوم يسعك انت ومريم ودارا .. وطن يمنحك الشعور بالأمان .. وطن وحسب.
أولدت ها هنا يا انجيلا في هذه البقعة؟ .. أم أنني كنت ابن سبيل ساقته قدماه عفواً إلى امدرمان.. وعاكسته ازقتها فهام بها؟ .. السوق الكبير .. سوق الأناتيك .. سوق الجلود .. شارع الشوام .. الملجة .. زقاق التيمان .. القصاري .. التشاشة .. شارع الرباطاب .. سوق النسوان..الباعة المتجولون.. زقاق العرديبة .. الاسكلا .. سوق المويه .. بحر أبروف .. ود الأغا.. السينمات .. ساعة البلدية .. المسرح القومي .. الإذاعة .. مسرح العرائس .. سجن الساير .. أكشاك الصحف .. الناس .. البنات .. البيوت .. الجيران .. جيراني .. جيرانك ..هه هه.. جيراننا..
وجدتني أقف في الشارع .. في قارعة الشارع تماماً .. أدخل سبابتي في حلقي .. وعنوة وجدتني أفرغ كل ما بجوفي من قهوة وخمر ومزّه وضيق وخواء .. وصرخت بملء حنجرتي .. صرخت في مدينة الوسن.. هوووي يا أم درمان… هوووووووووووي .. منعول أبوك .. منعول.. أبوك .. منعول أبوك…. بلد.
مزمل الباقر
الاثنين 14/6/1999م امدرمان
*(أنجيلا) .. أحدي قصص مجموعتي الأولى ( #تضاريس_النزوح_الأخير) الصادرة في الخرطوم في 2016م عن دار عزة للطباعة والنشر والتوزيع
انجيلا ستفارقين الفريق في قادم الأيام، قلاب الطوب الذي ارتكز على حائط الجالوص – ذلك الصباح الخامل – أعلن ذلك. عثمان خليل الذي هجر الفريق إلى إحدى حارات الثورة، قرر بعد أن طاب له المقام هناك أن يبيع بيت الورثة للخواجة جرجس الذي سيقطنه عاجلاً أم آجلاً.
انجيلا خيمتك التي صنعتيها من جولات الخيش وشرائح الصفيح وخرق الثياب وكل ما أفسده الدهر من متاع، فرقد على مقلب القمامة منسياً .. خيمتك تنتصب اليوم في كبرياءٍ رغم عريها بحوش عثمان خليل الفارغ إلا من خيمتك ومن شجيرات العشر، ومن مستعمرة طحلبية تحت صنبور الماء العتيق، وأكوام مهملة من حجارة وأطلال هنا وهناك. غداً ستحملين اطناب خيمتك .. غداً ستحملين حطب الراكوبة وتطوين برش الحصير وتطفئين سراج الرتينة...رتينة يا انجيلا.. رتينة فى زمن أعمدة الكهرباء يا أهل الكهف هووى أكانت بينكم امرأة نويراوية اسمها انجيلا ؟!!.
ستأكلين ما تبقى من كسرة الأمس بالمشلعيب، و ترحلين تاركةً خلفك كماً من ذكريات امدرمانية مؤلمة. بعد أن تهبط علينا فجأة عمارة أنيقة مخملية الستائر، شققها المضاءة تمد لنا ألسنة بعدد نوافذها، حينما يحال باب الحوش الصدئ للصالح العام، بمكأفاة نهاية الخدمة. التي بالكاد تكفى لمسح شاربه (الضبانة). أما حوائط الجالوص فستذهب إلى الجحيم دون تعزية.
لن أراك- انجيلا- هائمة في أزقة الفريق باحثة عن شئ أجهله. حينما ترينني، نلتقين لي بالتحية، غالباً ما تبادرينني بالتحية:
- ( شبّو .. كويسين ؟).
- (إزيك يا انجيلا ؟ إن شاء الله كويسه ؟).
- (الهمد لله ! ناس هبوبة كويسين ؟).
- (كويسين .. الحمد لله ! إنتو كيف ؟).
- (الهمد لله !).
ونفترق كل في زقاق ..
طفليك يا أنجيلا .. المتسخين دائماً … الجميلين أبداً … العاريين تماماً… بيتر واستيلا .. لن أراهما غداً يلعبان أمام الباب الصدئ .. بيتر يخلق من الطين تماثيلاً لبعير وأزيار وأشخاص أقسم أن أبادماك(1) كان أحد تماثيله.. أما استيلا فتصنع بنات أم لعاب وفساتينها الدلقانية(2) بينما بوبي ينبح دائماً ولا يعض .. ألقمه حجراً كلما هر في وجهي، فيتوارى داخل الحوش.
بيتر واستيلا أبداً يضحكان، ضحك طفولي مرح من القلب تماماً. حاولت أن أقلدهما لكنني فشلت .. حاولت ثانية .. فشلت ثانية، لم أكرر المحاولة!. أتصدقين أصوم وأفطر على ابتسامة ناحلة بطعم القرض .. الأرض السمراء شوف عينيّ يا انجيلا يجتاحها طوفان المحل، أرتال الجراد، جيوش الضفادع، أكداس القمل .. دم بشري مسفوح، دم دونما ضحية، دم وحسب .. يا شغبة(3) هووي ماذا أنت قائلة والأمر هكذا؟!.
حاولت أن أضحك من شر البلية لم أقدر .. سمعت كل نكات العام الماضي والذي مضى علّني أضحك كضحك بيتر واستيلا، مضت جهودي أدراج الهبباي(4) … عاقرت العرقي كي أنسى شقائي وربما أضحك … ظل شقائي مشتعل القنديل .. فازددت شقاء على شقاء. سنوات وسنوات لم أضحك فيها يوماً .. حتى أنني نسيت كيف يكون الضحك .. أهو فغر الفاه دهشة أم جزعاً أم بكاءً… انتهي بي الحال نزيلاً بمستشفى التجاني الماحي بحجة مرض نفسي لعله الاكتئاب الحاد.. لما خرجت ابتعت ثلاثة كتب، دوماً ابتاع ليس في معيتي شيء يصلح للبيع .. الكتب الثلاث كانت (اضحك مع الدنيا)، (سمعت آخر نكتة)، (كيف تكون سعيداً).
قرأت الكتب جميعها لم أضحك .. لم ابتسم حتى .. انتزعت أغلفتها وعلقتها على جدار الماضي ثم صنعت من أوراقها لفائف تبغ عوضاً عن البرنسيس … وطفقت أدخن عقب اللفافة يشعل أخرى وثانية تشعل ثالثة … وثالثة تشعل … ورابعة و… و … جوفي محترق يا انجيلا … الدخان من خيشومي يملأ ثلث الحجرة الجالوصية .. دخان .. دخان .. دخان .. جوفي دخان .. جوفي خواء .. خواء وخمر.
بيتر واستيلا يلعبان الحِجلة أمام الباب الصدئ، أتعمد معاكستهما دائماً:
- ( أنا في رابعون! دوري جا !!).
- ( لا شبّو .. إنتي ما ماآنا !).
- ( لا … معاكي .. حتى شوف هاندا حجري … حجري كبير … وي وي وي ي ي ي.. أها .. أها .. أها .. أنا في سوادس … لك .. لك .. لييييك !! ).
- ( شبو .. إنتي خَرّخَارة ساي (1) ما تلأبي ماآنا ! ).
- ( إلا استيلا .. تقول لي ما تلعب معانا !!).
وتضحك استيلا من أعماق أعماقها .. تصمت برهة مفكرة، ثم تنطق أخيراً وقد اكتسى بوجهها الصغير بشيء من الجدية:-
- ( خلاص يا .. شبو .. خلاص إنتي .. إنتي … م.. ما تلأبي ماآنا !).
- ( ألعب مش؟!! وينو حجري … أيوا .. هدا.. ليهو .. يلا أنا كنت وين ؟ .. وين يا شبّووووو وين ؟ وين ؟؟؟ أيوا .. في سابعون .. مش كدي يا بيتر؟! ).
- ( وآآآ … وآآآ .. شبّو إنتي خَرّخَارة .. انجيلا .. يا انجيلا .. نف .. نف .. انجيلاآآآ .. شبو دي ما يلأب مأآنا .. أمشي يلا !! .. والله أفلأك بي هجر بتائي أنا .. نمن تجيبي دم… !! ).
زوجك – يا انجيلا – ملوال هذا امقته كثيراً .. كلما عاد إلى خيمتك في هزيع الليل يرغي غضباً ويزبد .. دون ما سبب تنالين حصتك من الضرب اليومي .. عينو في الفيل وبطعن في ضلو.. يكاد يقتلك ضرباً لولا بيتر واستيلا، أرمقه شذراً .. تتكسر نظراته نافذة إلى الأرض بعيداً عن مرمى بصري كثيراً حتى تغشى بيوت النمل .. أتراه يبحث فيها عن فتات خبز آخر ؟!!.(2)
انجيلا عند ظهيرة كل يوم جديد ... قديم قدم حزنها .. تحمل حزم الحطب .. قدميها الحافيتين .. أدمتهما وعورة الطريق .. لكنها رغم رهق عيشها وشظفه لم تزل بعد، تخبئ ما تبقى من أنوثتها السودانية .. تصيح في حدة: وآآآي!!. كلما وخذ قدميها الصغيرتين الحافيتين حجر ناتئ لعين بقارعة الطريق.
أطفال الفريق دوماً يزفونك: (عَرّت .. كارو حصان .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت عَرّت)
تضعين أحمالك تكيلين لهم السباب .. فيكيلون لك الحجارة .. أنض عني حذائي وأجعله حجراً مشفعاً إياه بزوجه صائحاً فيهم: (إتنعل أبو شكلكم يا أولاد الكلب .. أبوكم لأبو أم درمان ذاتا، شُفّع مقطوعين ريحة .. أبالسة .. ملاعين... أولاد حرام .. يلاّ غوروا .. يلا .. قبال ما أجي أهرسكم واحد ورا التاني!!.. عواليق ما مربيين).
يغربون عن وجهي فزعين .. وحينما يدركون ناصية الشارع يتصايحون:
- (ألحقنا كان إنت راجل).
- (يا أبصلعة عامل رأسك زي كورة الشُرّاآآآب!!!)
- (وبكره بجييي،،، وي وي وي ي ي ي).
- (وبنفلعا … وبنفلعا..!!).
- (عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت .. عَرّت .. عَرّ….).
أترك بيتر يبكي في غيظ وبيسراه حجره الإنذاري المتربص بي. استيلا تحاول جاهدة أن تغسل غيظه، نهشني ندمي حينها، لقد أثقلت على ذلك الطفل كثيراً هذه المرة.
أمضي عنهما إلى السوق، حيث مريم الفاتنة ست الشاي تحتل حيزاً لا بأس به من شارع الشوام. أفرغ أحزاني لديها تنفحني القهوة .. تعزيني بفنجان من القهوة، سيان عندها إن نقدتها ثمن الفنجان أو لم أفعل … وهاتك يا شبّو تشربا ساكت ! أحياناً أغافلها وألقي بالنقود بين البرطمانات على يسارها، أعدها صاحبتي وكاتمة أسراري، تبادلني نفس المشاعر، أحدثها عن أحزاني الأمدرمانية.. تحدثني عن أساها خدين طفولتها منذ نعومة أظفارها لا حَوّاشة .. لا فابريقا ولا شفخانة.. الديش .. الديش(1) البلد صبحت جبجانة … النزوح للعاصمة بحثاً عن عملٍ شريف .. ارتضت مرغمةً أن تبيع الشاي للغرباء عوضاً عن أضياف الهجعة. وكانت تلك أولى تنازلاتها وليست آخرها .. مالاً كثيراً أثقل جيبها .. هماً كبيراً أثقل قلبها .. تصنع الشاي والقهوة والحِلّبة.. تشرد بين الفينة والأخرى … حِليلكم .. ُتمني نفسها بعفريت سليمان، يقلها شرقاً على وجه السرعة إلى أهلها .. لكن واقعها يصدمها، فيسكنها أساها خدين طفولتها .. تحاول أن تسمو فوق أحزانها وأحزاني فتسمعني نكاتاً: (في واهد هلفاوي بني ليهو جامئ …)، (قالو أدروب جا الآسمه أول مرة…)، (في رباتابي وجألي وشايقي ركبو القتر…)، (إسهاقه قال لي آدمو …)، (في جنوبي فته ليهو متأم يافتت المتأم مكتوب فوقا: فول بالجداد …).
وتسألني مريم عقب كل نكتة تلقيها: بايخة مُش؟ فأومي لها بأن: أيوه ! .. وتظل تسرد النكات ولا تضحك .. لا تبتسم حتى. وأظل أصغي للنكات ولا أضحك .. لا أبتسم حتى. يتسلل السأم إلينا خلسة، أشتم رائحة تفوح من ثيابها فأشمئز .. ليس من مريم، ولكن من زماني أشمئز .. أراكوبة لبيع الشاي .. أم كرخانة لبيع الجسد ؟!!. منعول أبوك زمن.
- ( إنت عارفة يا مريم .. البنات القدرك برلومات في الأحفاد ؟ )(2)
- ( صَحي!!).
- ( شايلات كتبن ودفاترن وإنت شايلة عِدّة الشاي .. الكفتيرة والمنقد والكبابي والبرطمانات).
- ( قدري !!..)
- ( منو القال ليك دا قدرك !!).
- ( أها شنو ؟!! الله غضبان ألى يأني ؟!!).
- ( عايني يا مريم .. شغل الليل دا ما في داعي ليهو ).
- ( شنو؟؟! …… شغل الليل ؟!! … إنت ما آآرف هاجة ساكت يا شبو ).
- ( ولا عاوز أعرف أي حاجة !! ).
أبارحها مجرجراً قدميَ والشمس قد عقصت ضفائرها الأسيلة، خلف رأسها.. كعكة. ها هي ذي الظلال الوسنانة، تحكم قبضتها على أروقة السوق الكبير كإعلان رسمي عن غروب شمس هذا اليوم. أمضى بعيداً عن مريم كي احتسي العرقي. أبحث في الجَزُر(1) عن مَزّه، فلا أجدها إلا أمام إحدى الدكاكين .. يكاد يسبقني كلبٌ إليها.. أتلفت حولي .. لا أدرِ لما تلفت حولي .. دكاكين السوق الهرم مغلقة أبوابها دوني .. الليل بعد في أول الغسق .. أقطم قطمة من مَزّتي .. الليل بعد في أوله .. أغالب نوبة حزن مباغت .. وأجوب السوق صامتاً .. هائماً .. متعباً …
أحدهم بسوق الصياغ ينحني ليحكم القفل على مجوهراته، حانت منه التفاته، عاد يجذب القفل ولما تأكد من إحكامه مضى. فتاة سيفانة وفتى ضاحك القسمات مهفهف البطن .. يجتازاني في طريقها إلى سوق العناقريب دون أن يلتفتان ناحيتي وهما يضحكان في صخب .. أحس الدمع أقرب إلى حلقي منه لمقلتيّ … آه في مثل هذا اليوم من العام الماضي كنا جلوساً ذات صباح على تلكم القهوة بفم شارع العدني .. يحوم علينا عم حسبو ذو الرأس الأشيب والقامة المحدودبة بأكواب الشاي .. فأتبادل مع رفاقي في القهوة، أنخاب تسريحنا من الخدمة المدنية وإعفاءنا من العمل النقابي.
ألقي المَزّه جانباً .. لم تعد لي رغبة بها .. يا الله هووي أنجدني يا الفوق .. إنني لا شيء إنني فقط .. سلسال خمر ورماد وهم .. هم .. هم وخمر وخواء .. كنت أمقت السكارى والآن صرت نديماً لهم .. هه هه .. اليوم خمر وغداً لا أمر .. ثكلتك أمك من ظلمة .. أريد شمسي .. أريدها أن تشرق .. فتمزق ظلاماً قميئاً .. أريد أن…..
أتراه بيتر غاضباً مني حتى اللحظة – ذلك الأونطجي – لابد أن الغضب قد سكت عنه سيبسم في وجهي عندما أحل بالفريق قبل شروق الشمس بثوانٍ.. سيضحك ملء شدقيه لدقائق، قبل أن يحييني بتلك التحية الأثيرة لديه:
- ( أبصلأه قد القرأه .. رأس النيفة إنقلب تأريفه).
أجل بي صلعٌ .. لكن رأسي كرأس النيفة ؟!! هه هه … تعريفه بتاعت الساعة كم ؟! يا حليل زمن التعاريف. يحمل النسيم الفاتر إلىّ أصوات منشدي المديح النبوي .. تأتيني فأرهف سمعي لقرع النوبة(2) وحناجر المدّاحين تشرخ هدأة الليل بوقارها:
دآيم … دآيم الله .. دآيم كريم الله … الدآيم دايم الله .. دآيم كريم الله .. دآيم .. الله .. دآيم كريم الله .. الدآيم … دآي……. إذناي بوصلة تحدد اتجاه الصوت .. قدماي آلتان تشداني لحلقة الذكر .. تشداني إليهم .. أحس حزني تلاشي .. لا حزن البتة .. شيء ما يدغدغني … أظنها النشوة ! لم أنتشي يوماً رغم أن الخمر تجري مني مجرى الدم .. تهفو نفسي إلى حلقة الذكر .. تهفو نفسي إليهم .. أجدني أعدو لألحق بالليلية.
أندس بين صفوف المدّأحين غرقاناً، أتمايل مع الإيقاع الرتيب .. تل .. تل .. تلل .. تل تلل .. تل .. تلل .. تل .. مجذوباً أرفع عقيرتي بالمديح .. أحس صوتي طرق السماء متوسلاً:
دآيم … دآيم الله .. دآيم كريم الله … الدآيم دايم الله .. دآيم كريم الله .. دآيم .. الله .. دآيم كريم الله .. الدآيم … دآيم كريم الله .. هي لا إله إلا الله .. محمد يا رسول الله … الدآيم دآيم الله .. دآيم كريم الله .. الدآيم .. دآيم …
ألج زقاق بيتنا صباحاً ونقر النّوبة بإذني عالقاً لا زال … كأنما المدّاحين ما انفضوا .. ألج الدار والشمس قد ارتفعت بطول قامتي عن سطح الأرض، فاتتني تحية بيتر إذناً، اجتاز الباب إلى رواق الدار، والجو شديد الحر .. لا كلب ينبح .. ما نهق حمار .. الليمونة التي تحرس باب المخزن تمثالاً من الشمع .. مطرقة أوراقها .. كديستي بيضاء اللون مستلقية بجوار اللقاية(1) تتشاغل بالتهام ما تبقى من لحمٍ، على عظمةٍ صغيرةٍ، أسطوانية الشكل. أحدهم يشخر بالداخل لعله أخي.
أتمدد على عنقريب القد(2) إنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة دون تغيير .. بينما تغير كل شيء في الدار .. غيرنا اثاث الدار عدة مرات، واستبدلنا البلاط الحبشي بالسيراميك، وجددنا طلاء الدار كثيراً، تغير كل شيء بالدار إلا هذا العنقريب. يالك من عنقريب مخضرم، تمدد عليك جدي ثم أبي وها أنا ذا أتمدد عليه .. ترى هل سيتمدد عليه من بعدي ال…
- ( ورا .. رووك .. ورا .. رووك .. ألهقونا يا .. أبو مُرّووه .. هوويّ .. هوويّ … الهلة .. يا ناس الهلة .. هوويّ .. هوويّ .. يا شبو .. يا ناس هبوبة .. يا … هوويّ .. ما تلهقونا .. ألهقونا .. الليلة ووب .. ووب .. وووووووووووب .. النار أكلتنا .. النار أكلتنا .. ألهقونا .. ألهقو….الناااااااااااار).
- ( أمنو .. الكهرباء !! ).
- ( في شنو ؟ ).
- ( بيت انجيلا أتحرق ! ).
- ( يا الله ياخ .. استغفر الله .. أستغفر الله العظيم … الحمد لله، اللهم لا اعتراض على حكمك يا الله).
- ( يا جماعة .. البيت ولع كيف ؟! ).
- ( قالو البنجوس الصغير دا .. اسمو مين ياخ .. أآي .. بيتر .. لقي ليهو صندوق كبريت واقع. وقام يشخت لحدي ما النار بقت في الكُرنك .. أها بعد داك .. قالوا في لستك عربية كان مجدوع في الحوش .. بعد ما ولع .. إدردق على الراكوبة .. طبعاً الراكوبة ما كضبت.. قامت هي الأخرى ولعت ).
- ( والله غايتو .. حكمتو بالغة … أها أختو الخادم الطليشة دي مشت وين ؟ ).
- ( إنت في أختو .. ولاّ انجيلا ذاتا ! بالله الذي … الجنوبية دي زي كلب الحر .. النهار كلو مساسقة .. من بيت لي بيت !! ).
- ( والله كلامك صحيح .. بس إنت تعال .. وين أبو نواس راجلها شقي الحال دا ؟! ).
- ( منو ؟ ملوال ! .. يا خي سيبك منو .. الله ينعلو .. دا عتيق خَمّله ساكت … بالله شوف النار دي باقة كيفن … اللهم لا حوله ولا قوة إلا بك ! ).
الدخان يتصاعد إلى السماء، يمسك بخناق الديمات العطشى .. فتصفق ألسنة اللهب له طرباً. ساكني الحي وكل من ألقى به الدرب تجمهروا حول حوش عثمان خليل .. سدوا الأفق دونه.. يضربون كفاً بكف ويكتفون بالثرثرة.
- ( لا حوله !! ).
- ( الليلة ووب !! ).
- ( أجي(1) يا بنات أمي .. ما في راجلاً يطفي النيران دي !! ).
- ( أصبّري يا السرة يا ختي .. ديل رجال آخر زمن ).
- ( حليل الكانو بِشموا الدم وبقولوا حَرمّ !! ).
- ( يا الله ..!! ).
- ( حاسب النار ما تبق في سلك الكهرباء .. !! ).
- ( يا زول ما تخاف أمنا الكهرباء .. ! ).
- ( ياخي ما أمنتوها ولا حاجة .. النور قاطع من أمس ..!! ).
- ( ياه مين اللي عمل كدا يا رب !! ).
- ( صدقيني معرفش .. جايز يكون بيتر .. أصلو على طول بيلعب بالكبريتة ).
- ( تشيباك … ).
- ( تشيباك … )(1).
- ( دي شنو دا !! ).
- ( الكُرنك .. ولع يا ميري !! ).
- ( إيلويل !! )(2).
أرقبهم لا شيء سوى حوقلة وثرثرة .. ثرثرة وحوقلة .. مرت دقائق مثقلة بالانتظار .. مرق عم عشميق من بيننا، حاملاً خرطوم ماء .. ناوله إحدى الصبية الذين تجاسروا ودنوا أكثر من ألسنة اللهب المأفونة .. يا الصبية الأشقياء !!.
عاد عم عمشيق إلى مكانه خلفنا بعد أن فتح الصنبور. فأندفع الماء جارياً، وجهته أصل النار .. مرت لحظات ما خمد فيها لسان للهب .. أهل الحي ومن ألقى به الدرب يكتفون بالحوقلة والثرثرة .. الثرثرة والحوقلة .. إنبرى عم سوميت يشق الجمع، حاملاً دلو ماء مملوء بالتراب.. ناوله صبياً حافي القدمين تنطق ملاحمه بدماء غير سودانية مازجت دمه .. وخلفت وراءها بشرة قمحية وعينين عسليتين وشعراً بنياً مجعداً فوق قامة قصيرة.
أودع الصبي ما في الدلو في جوف اللهب الذي لم يزل ظامئاً. وكأنه لهب ينتمي لنار السعير .. قفلت راجعاً للدار كي أجلب مزيداً من الدُلِي والتراب.. عدت فوجدت النار خامدة .. عم عشميق وعم سوميت والصبية، وقوف حول النار لا ليصطلوا .. كانوا يدفنون أشلاءها بالتراب .. إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها مراسم دفن تجري خارج مقابر البكري أو مقابر احمد شرفي .. حدث جديد .. جديد لنج .. لكنه قديم .. قديم قدم النيل ! قدم حضارة أهلي.
- ( سِكَرفي ؟ )(3).
- ( الحمد لله !! ).
من يسألني عن حالي بعدك يا دارا؟ا. من يا ترى؟. دا حالنا .. إنتو كيف؟ لسع في ..؟ كويس إنو سد الهنا دا ما قام .. كويس إنكم .. لقد انعوج لساني يا دارا .. إنني الآن عارٍ تماماً، أقف أمامك كما ولدتني أمي ، لقد أضعت رطانتي عندما تركت أمي الجرَّجار هناك .. وقدمت إلى أم درمان بالزراق(1) تاني بلاش من القُرّاصة .. تنازل ثاني من أمي، بعد أن طاب لها المقام في أم درمان …
دعيني أجعلك تضحكين قليلاً .. فأنت طالما أضحكتني .. عاد أبي في أحد الأيام مهموماً.. لقد ُسرِّح من الخدمة المدنية لأنه لم يدفع الأتاوه … اقترحت عليه أن نسافر إلى حلفا، حيث ثمالة أهلنا ورطانتنا … قالت لي أمي: ( سُب عليك !! ) . صمت أبي كاتماً غيظه .. أعدت اقتراحي عليه، .. انفجر في وجهي: ( تاني كان جبت حلفا على لسانك إلا أطلع …… ).
وا وي .. وا وي .. وآآآآ .. وا .. وي .. انتشلتني صافرة عربة الإطفاء من ذاتي .. تلفت ناحية الصوت .. أراها قادمة من ناصية الشارع نحونا تختال كطاؤوس .. تلفت حولي .. أهل الحي ما زالوا يتحلقون حول حوش عثمان خليل .. النظّارة يرقبون نهاية العرض المسرحي بصبرٍ عظيم.
- ( ناس المطافي جو .. الحمد لله !! ).
- ( الله يطلع ميتينك .. بس دا الفالحين فوقو !! ).
نظر إلى جاريّ دهشاً، حتى أن الدهشة ألجمته .. ربما الفزع أسكته .. نظر إلى، ولم ينبس ببنت الشفة. وقفت عربة الإطفاء أمامنا في أنفة مزيفة .. طالعت جمعنا من الرأس حتى أخمص القدم، ثم صّعرت لنا خداً .. باغتتني رغبة ملحاحة في التقيؤ .. صددتها بعد لأي .. فمضت عني.
بصقت عربة الإطفاء في الجمر فانطفأ .. أصلاً كانت جمرات صغيرات في الرمق الأخير من دورة حياتها.. تأكدت من أنها قد أنجزت مهمتها بنجاح، فنفخت رماد سقط المتاع .. صفق لها الرجال، والنسوة زغردن .. بصقت أمامها .. ارتدت إلى الوراء قليلاً قبل أن تصلح من وضع خرطوم الماء على رأسها ومضت عنا.
مرت لحظات مسرعات .. لكن أنجيلا ؟؟ .. النسوان هناك في ركنٍ قصي .. يتهامسن يتغامزن .. يثرثرن … أين انجيلا ؟! تسائلني نفسي .. تسلقت عيناي المتلهفتان .. هامات الرجال بحثاً عن انجيلا .. لا شيء هناك سوى جمرة صغيرة، لم تخمد بعد. وأكوام من رماد تناثر هنا وهناك.
قبل ساعتين من الآن كانت هنا خيمة تشمخ في كبرياء رغم عريها .. تسكنها امرأة عظيمة رغم فقرها اسمها انجيلا .. قبل ثلاث ساعاتٍ من الان، كنا بيتر واستيلا، ينامان ملء اجفانهما، قبل أربع ساعاتٍ من الآن، كان بوبي يمارس تمشيطه المعتاد امام الخيمة، لعل حظه مع النساء قليل، أو لعله لا يكثر من عادة التبول على أعمدة الكهرباء وإطارات السيارات، كي يعلم النساء من جنسه انه على استعداد تام لتقديم خدماته لهن، إن كن في موسم التزاوج، قبل ساعتين من الآن كنت عائداً للدار وخيمة انجيلا تجاورني المكان.
هبطت عيناي المتحسرتان .. تتصفح وجوه النسوة.. بعضهن مَبّلمات .. بعضهن بثوب الجارات .. وبعضهن نسيت ثوبهن وخرجن بفساتينهن القصيرة.. بحثت في وجههن جيداً لعل انجيلا تختبئ بينهن .. لعلني أقرا في وجه إحداهن أخباراً عنها .. انجيلا إنت وين ؟!! ..
ملوال تذكرته الآن .. لم أره بين الجمهور المتحلق، وكأن الحريق لم يندلع بخيمته .. أو أن تجمهر أهل الحي ومن ألقى به الدرب، حول خيمته لا يعنيه كثيراً.. عاودتتني رغبة التقيؤ .. صددتها ثانية .. ملوال أيها الكريه .. انجيلا تحتاجك الآن أكثر من أي وقت مضى .. ترى أي إندايه تواري سوأتك الآن ؟؟.
انتشلتني من ذاتي أصوات أقدام الرجال وقد تفرق شملهم وثرثرتهم .. النسوان حملن أثوابهن ومضين ملؤهن الثرثرة .. أتى طفل عفريت بِكُرة شرّاب فلحق به الصبية مهرولين .. اجتازوني إلى الميدان والشمس ارتفعت من الارض بقامة أطول كثيراً من قامة انجيلا.
وحدي في ذلك الزقاق، وطفلة خلاسية حلوة القسمات .. تحدق في مكان الحريق فعلت مثلها.. كان يسوع مصلوباً، عاري الصدر، مطبق الأجفان، مسدل الشعر .. بجواره على الأرض إتكأ كتاب صغير أنيق احترقت بعض صفحاته .. والطفلة الخلاسية تحدق في الصليب الفضي بتساؤل مفضوح وجدتني ابتسم .. لا أدر كيف فعلت ذلك .. اقتربت من الطفلة دون أن تلحظ ذلك، لقد كانت محدقة في ذلك الصليب الفضي باهتمام شديد جداً.. اقتربت منها أكثر .. دريت شعرها الجميل بيسراي .. تنبهت .. نظرت إلىّ دَهِشة .. واجفة إن شئت.
- ( اسمك منو يا حلوة ؟! ).
اتسعت حدقتا الطفلة الخلاسية جزعاً .. نهشني ندمي، ما كان عليّ أن أسالها .. هرولت الطفلة مبتعدة عني في هلع ظاهر تصرخ بكل ما تملك من صوت:
- ( يمه .. يمه .. السَحّاري .. يمه .. يمه .. شفت لي سَحَ…. آ … ري !!).
تعثرت .. إنكفأت على وجهها .. اقتربت منها، أعاونها على النهوض .. رأتني اقترب منها نسيت بكاءها .. متحاملة على نفسها، ركضت بكل قوتها .. واندست في إحدى بيوت الفريق. سيطول حديثها لأمها.
إيييييييييه .. دنيا فَرَن دَقَس .. دنيا أم بناين قش .. دنيا .. ولادة بدون مخاض .. الشوارع فارغة، الشوارع صامتة .. عيناي تريان ضحية دونما دم .. عيناي تريان سكيناً، تآكلت شفرتها… ذبحوك يا انجيلا بسكين .. لكنها سكين ميتة، شفرتها تآكلت بعوامل الزمن والتاريخ والجغرافيا.. وتركونك في قارعة الطريق .. تركونك وأحزانك .. أحزانك يا انجيلا أرها قد بللها الدم .. دمك .. ليتني منديلاً يكفكف أحزانك السرمدية ..
معذرة .. معذرة بحجم دموعك الخرس التي ما انفكت تنهمر من مقلتيك فتداريها بكفيك .. لعلك كنت تدخرين نواحك لهذا اليوم .. معذرة .. معذرة سيدتي، لأن أم درمان عن عمد نزعت عنك رَحَطِك فبدوت عارية كيوم ولدت أمك، كنت عارية تماماً، إلا من كبريائك .. يا الداقسين هووووي.. يا النايميين هووووووي .. يا الميتين هوووووي .. القيامة قامت، القيامة قامت .. القيامة قامت.
طافت عيني بيوت أهل الحي .. بيوت مفرغة من ساكنيها … حيطان هنا.. حيطان هناك. يأتيني صدى صوتي وأنا احادث أهل المدينة بحديث القيامة .. أنا وحدي في الزقاق، لا طفلة خلاسية بقربي .. لا انجيلا.. لا خيمتها .. بيتر واستيلا تأتيني ضحكاتهما العِذاب من مكان ما خلف تلك الحيطان .. ضحكات من القلب تماماً، ضحكاتٍ لم يغلفها الزيف ولا النفاق، بينما اختفى بوبي حتى إشعار آخر.
أحسست الغربة تنهشني .. أولدت ها هنا أم أنني كنت ابن سبيل منح ماءاً وأداماً .. وأصاب ظلا فنام .. وحينما آبت الشمس تحامل على نفسه ومضى.
أنا منو يا أنجيلا .. أنا الرّطاني .. ولا ود أم درمان .. ولاّ شيتاً تاني .. أنا منو … منو يا أنجيلا ؟!!
- ( سبُ عليك .. !!).
- ( شنو .. شغل الليل !! .. انت ما آآرف هاجه ساكت يا شبو !! ).
- (هوويّ .. يا شبو .. يا ناس هبوبة .. يا … هوويّ .. ما تلهقونا .. ألهقونا .. الليلة ووب .. ووب .. وووووووووووب .. النار أكلتنا .. النار أكلتنا .. ألهقونا .. ألهقو….).
- (أجي يا بنات أمي .. ما في راجلاً يطفي النيران دي !!)
- (منو ؟ ملوال ! .. يا خي سيبك منو .. الله ينعلو .. دا عتيق خَمّله ساكت …)
- ( شبو .. كويسيين).
- (أصبّري يا السرة يا ختي .. ديل رجال آخر زمن )
- (الهمد لله ! ناس هبوبة كويسين ؟ ).
- (عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت .. عَرّت .. عَرّ….).
استند على طلل خيمة انجيلا .. فيتهاوى الطلل .. يلفحني تيار الهواء الحار .. أرى أديم الأرض يدنو مني كثيراً .. اعتمد على يديّ كي لا أرتطم بالأرض مهمهاً بالمثل (التور إن وقع تكتر سكاكينو).. ثم استوي قائماً
- ( وهاتك يا شبو تشربا ساكت !!).
- (إزيك يا عم حسبو !!).
- ( حباب(1) الأفندية .. !!).
أتحامل على نفسي .. أتجه للدار .. أريد أن اتمدد على عنقريب القد، والشمس كأن بينها وبيني ثأر قديم، فتعبس في وجهي .. وتجلدني بسياط لاهبة.
- (والله غايتو .. حكمتو بالغة … أها أختو الخادم الطليشة دي مشت وين ؟ ).
- (إنت في أختو .. ولاّ انجيلا ذاتا ! بالله الذي … الجنوبية دي زي كلب الحر .. النهار كلو مساسقة .. من بيت لي بيت !! ).
- ( يا زول ما تخاف .. أمنا الكهرباء ).
- ( وبنفلعا .. وبنفلعا !! ).
- (عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار عَرّت .. عَرّت كارو حصان .. عَرّت .. عَرّت كارو حمار .. عَرّت .. عَرّت .. عَرّ….).
- ( الخادم الطليشة دي … ).
- ( الخادم الطليشة دي … ).
- ( الخادم الطليشة دي … ).
ذبحوك يا انجيلا بسكين .. لكنها سكين ميتة .. شفرتها تآكلت بعوامل الزمن والتاريخ والجغرافيا … وتركونك في قارعة الطريق .. تركونك وأحزانك .. أحزانك يا انجيلا أرها قد بللها العرق.. ليتني منشفة تجفف عرقك العزيز، الذي سكبتيه غزيراً، في زمنٍ حقير .. حفيت قدميك وأنت تبحثين عن وطن .. وطن يضمك وصغارك بيتر واستيلا وربما زوجك ملوال .. وطن يربت على أحزانك السرمدية ويمسح عن جبينك كدر السنين .. وطن يعلم ابناءك الكتابة والقراءة، وطن يعالجك واسرتك من امراضٍ مستوطنة .. وطن يغنيك عن ذل الخدمة في البيوت.. وطن يضحك لك عندما تبسمين له .. وطن يمنحك الشعور بالانتماء.. وطن رؤوم يسعك انت ومريم ودارا .. وطن يمنحك الشعور بالأمان .. وطن وحسب.
أولدت ها هنا يا انجيلا في هذه البقعة؟ .. أم أنني كنت ابن سبيل ساقته قدماه عفواً إلى امدرمان.. وعاكسته ازقتها فهام بها؟ .. السوق الكبير .. سوق الأناتيك .. سوق الجلود .. شارع الشوام .. الملجة .. زقاق التيمان .. القصاري .. التشاشة .. شارع الرباطاب .. سوق النسوان..الباعة المتجولون.. زقاق العرديبة .. الاسكلا .. سوق المويه .. بحر أبروف .. ود الأغا.. السينمات .. ساعة البلدية .. المسرح القومي .. الإذاعة .. مسرح العرائس .. سجن الساير .. أكشاك الصحف .. الناس .. البنات .. البيوت .. الجيران .. جيراني .. جيرانك ..هه هه.. جيراننا..
وجدتني أقف في الشارع .. في قارعة الشارع تماماً .. أدخل سبابتي في حلقي .. وعنوة وجدتني أفرغ كل ما بجوفي من قهوة وخمر ومزّه وضيق وخواء .. وصرخت بملء حنجرتي .. صرخت في مدينة الوسن.. هوووي يا أم درمان… هوووووووووووي .. منعول أبوك .. منعول.. أبوك .. منعول أبوك…. بلد.
مزمل الباقر
الاثنين 14/6/1999م امدرمان
*(أنجيلا) .. أحدي قصص مجموعتي الأولى ( #تضاريس_النزوح_الأخير) الصادرة في الخرطوم في 2016م عن دار عزة للطباعة والنشر والتوزيع