مصطفى نصر - الليل الطويل...

تتابع البنت الزينة الحارة من شرفتها. الأنوار تشع في كل ركن فيها. فوانيس مدلاة من الشرفات والنوافذ في وسط الحارة، ورايات من الورق والقماش صنعها الأطفال إحتفالا بقدوم المولد النبوي الشريف، وتمثالا معلق أمام بيت توحيدة، صنعه ولدها سيد. حشا بدلة من بدله العسكرية بملابس قديمة وبالقش، وألبسه خوذة قديمة، وعلق على كتفه بندقية من التي يجدها الزبالون في زبالتهم. فبدا التمثال – من بعيد – كجندي حقيقي يشهر سلاحه.
سمعت الزينة صوت زوجها في الداخل يطلبها، فأشاحت بيدها في ضيق. الشارع العمومي مضاء أيضا من أول الجبل الذي يعلوه وحتى منتصفه. وأضاء البقال لمباته المعلقة فوق بابه من ناحية الحارة، وأضاء أبو دومة كل لمباته خارج مقهاه، هذا غير فرع نور مده الكهربائي فوق التندة القماشية.
جو الحارة يغري بالسهر. وزوج الزينة – عوض – يستعد للذهاب إلى عمله في وردية الحادية عشرة، سيقضي الليلة كلها خارج البيت.
كم تحب الزينة هذه الوردية وتنتظرها بشوق. وتحسب الأيام لمقدمها، ففيها تنام فوق فراشها وحدها. ترتاح من عناء مرافقتها لعوض، وتتمنى لو يعمل الأيام كلها في هذه الوردية.
دخل عوض الشرفة وهو مازال يشد قميصه فوق جسده، أتته الأصوات الصاخبة من الحارة. لولا ضرورة الذهاب إلى العمل الليلة، لبقى وشاهد الإحتفال الذي لا يحدث إلا مرة واحدة في العام. لكنهم في الشركة سيصرفون أجور العمال اليوم. وإن لم يذهب فستضيع عليه أمواله التي يجمعها من المشترين. فقد أعطته توحيدة رأس المال الذي يتاجر به هناك. قال عوض: سأتأخر في الصباح قليلا، سأنتظر عمال الوردية الصباحية.
تمتمت الزينة بصوت خافت: ليتك لا تأتي أبدا.
دخل عوض ليكمل إرتداء ملابسه، وإنشغلت هي بالحارة وما يحدث فيها. سعد – صديق أخيها سيد، وصديق زوجها عوض – يسير أمام عينيها. يمازح حسن إبن عزيزة. كادت الزينة تناديه: " سعد، سعد " لكن زوجها قد يسمعها ويأتي غاضبا. لا بأس، فأقل من نصف ساعة ويخرج إلى عمله. إنها تنتظر ذهابه بفارغ الصبر.
.....
يقف سعد مع حسن بجوار دكان البقال، ينظران ناحية شرفة كريمة – إبنة عباس الأعور – التي تطل على الشارع العمومي. تحركت الزينة في شرفتها الضيقة وكأنها حيوان محبوس في قفصه يبحث عن طريقة للنفاذ منه.
لا تستطيع الزينة رؤية كريمة من مكانها. لكن لا شك هما يشيران إليها، فالبنت درست في مدرسة، وتخرج كما تشاء من بيتها، وقد يفضلها سعد عليها.
سمعت الزينة عوض يناديها من الداخل، فأشاحت بيدها. لكن الصوت إزداد علوا. ليس مهما فقد إقترب موعد خروجه، ولن يعود إلا صباحا، وستتفرغ هي لسعد. نعم، لن تتركه الليلة.
صعد سعد وحسن بن عزيزة الجبل. أقل من نصف ساعة ويكون عباس الأعور قد ذهب إلى أصدقائه في الإبراهيمية ليسهروا حتى الصباح، ويفترق حسن عن سعد. فموعد حسن مع كريمة الليلة. البنت كريمة وجهها جميل وجسدها نحيف بعكس أبيها وأمها الحاجة.
أقامت البنت علاقات كثيرة مع العديد من شباب الحي، خاصة المتعلمين منهم. لكن الولد حسن يكذب هذا. ويؤكد بأنها لم تحب سواه، وكل ما يقولونه عنها كذب في كذب وحقد من الذين أرادوها ولم يستطيعوا الوصول إليها.
قال حسن:
- ماذا ستفعل عندما أذهب إلى كريمة؟
- لا أريد أن أعود إلى البيت مبكرا.
وقفا معا فوق الجبل ( أقامت البلدية ثلاث حدايد وسلالم بازلتية لتفادي وقوع العربات أسفل الجبل وذلك كان يحدث كثيرا من قبل )
بجوار الحدايد الثلاث دكان الشيخ عاشور المتزوج من امرأة بيضاء جميلة، وجهاً وجسداً. تقف في الدكان، تبيع الحلوى والبقالة، بينما زوجها منشغل بقراءة القرآن في السرادقات وفي البيوت.
بجوار الدكان من الناحيتين قطع رخامية تجلس المرأة وزوجها عليها، وبعض معارفهما، يتحدثون ويشربون الشاي خارج الدكان.
ذهب سعد وحسن إليها. جلسا، نظرت إليهما وإبتسمت. كانا يتحدثان في أمور بعيدة عنها ( لا يستطيع سعد أن يتحدث مع حسن في أمر مهم، كل همومه منحصرة في بنات الحارة والنسوة اللاتي يأتين إلى عزيزة الخياطة – زوجة أبيه – فيتابعهن من خلف الباب الموصد، ومن فتحة المفتاح دون أن يحسسن به، فعزيزة تمنعه من الجلوس معهن )
تخرج المرأة من الدكان بردائها الريفي، وطرحتها السوداء المنسجمة مع وجهها الأبيض الرائق. ساقاها تلمعان، تهتم هي بزينتها ونظافة جسدها. تسير خطوات قصيرة للناحية الأخرى لتضع الطعام للخروف المعقود هناك. وتتابع الدجاج الذي يتحرك في حرية أمام دكانها، ملتقطاً ما تبقى من الحبوب التي تبيعها في الدكان.
المرأة لم تنجب. يقولون إن زوجها هو السبب، وإنها أصيلة، فلم تعترض، وعاشت معه رغم ذلك.
يريان – سعد وحسن - من جلستهما بجوار الدكان- الأنوار الساطعة في شارع راغب باشا القريب، ويسمعان أصوات مكبرات الصوت المعلقة فوق الأعمدة المزدانة بالرايات والأنوار الكثيرة هناك. فالليلة يحتفل حي غيط العنب بالمولد، وتشاركه الأحياء المجاورة في ذلك.
في غيط العنب أغنياء الإسكندرية الذين يمتلكون مئات الرءوس من المواشي، فيجمعون النقود بعضهم من بعض، ويأتون بقارئ شهير ليقرأ في السرادق الكبير الذي يقيمونه بعد كوبري راغب باشا.
تابع سعد ساقي المرأة اللتين تلمعان، تزحزح وهو جالس حتى صار قريبا من الحيز الضيق الذي تمر فيه من الدكان إلى الخارج. أو العكس.
عندما عادت تظاهر بالحديث مع حسن. طرف جلبابها لمس ساقيه. أحست بأنه إقترب بجسده من منطقة مرورها الدائم، فنظرت إليه مبدية إعتراضها، قال حسن:
- ماذا بها؟
- لا تهتم.
قالت من الداخل في حدة: ماذا تريدان؟
قال سعد بصوت خافت: لا تجيبها.
لكنها سمعته، فصاحت غاضبة: إذهبا إلى شارع راغب لتشاهدا الاحتفال.
قال سعد: شاهدته العام الماضي.
خرجت المرأة ثانية في طريقها إلى الناحية الأخرى، مد سعد يده وشدها من طرف جلبابها، فصاحت: إعقل يا سعد.
لم يجبها، تحدث مع زميله وكأنه لم يفعل شيئا.
عندما عادت لمت جلبابها ودخلت، قال سعد:
- المرأة جميلة وشهية.
- لكنها وفية لزوجها.
- هذا عيبها.
وجه المرأة مستدير، عيناها زرقاوان، وشعرها ينسدل تحت الطرحة حول الجبهة، والعينان مكحلتان دائما مما يعطي للوجه جمالا أخاذاً.
زوجها فوق أنه عقيم، أصيب بالبهاق، فغطى اللون البني أجزاء من الوجه واليدين. فبدا وجهه وجسده مبقعين. قال سعد لها:
- أين الشيخ عاشور زوجك؟
- وما شأنك؟!
- ذهب ليسمع الشيخ مصطفى إسماعيل في السرادق؟
قال حسن بن عزيزة لإثارة غضبها: يريد أن يقلده في قراءته.
صاحت غاضبة: زوجي قارئ على قدره، وهذا نصيبه.
قال سعد في أسى: ونصيبك أنتِ.
خرجت من مكانها، أنساها غضبها أن تلم جلبابها، فلمس الجلباب ساقي سعد. بل إلتصق جسدها بجسده.
- سعد، إذا أردتما الجلوس هنا، فأحفظا أدبكما.
- حسن لا يقصد الإساءة.
عادت إلى مكانها، وقفت خلف البنك تتابعهما وهما يحاولان إخفاء ضحكهما، قال سعد: لكن، أنت سهرانة الليلة أكثر من اللازم.
- إتفقت مع زوجي - الشيخ عاشور - أن أنتظره حتى يعود، لكن من أجلكما، سأغلق الدكان الآن.
وقف سعد: بل سنتركه لك، إنتظري شيخك كما تشائين.
وقفا لحظات أمام الحديدة التي تتوسط الحديدتين الأخريين ليكملا ضحكهما، قال حسن:
- مضطر لمفارقتك الآن، فأكيد والد كريمة خرج من البيت.
- سأقف هنا وحدي.
هبط حسن عدة درجات ثم عاد إليه ثانية:
- أتظن أن المرأة ستلين لك الليلة؟
- اذهب إلى فتاتك ودعني.
أسرع حسن هابطا الدرجات وهو يقفز قفزا.
**
وقف حسن في مواجهة بيت كريمة، قهوة أبو دومة مزدحمة أمامه أكثر من كل ليلة. الأطفال يلعبون أمامها، يعرف حسن صاحب محل البقالة، يتحدث معه كلما جاء لشراء شيء منه. الرجل غاوي سياسة بطريقة تجعل الكل يتندر عليه. كل مشتر يسأله: هل إنتهت حربنا مع اليهود، أم لا. وهل حقا أن سنة 71 سنة حاسمة كما يقول الرئيس السادات؟
ويتحدثون في أشياء أخرى كثيرة، خاصة إذا كان المشتري متعلما، ويجيد قراءة الجرائد.
وقف حسن أمام البقال، وهو يراقب شرفة كريمة، والبقال ينشغل أحيانا بزبائن يأتون إليه من الباب الآخر - من ناحية الشارع العمومي- فجأة وجد حسن البنت كريمة تضع يدها فوق رأسها، إشارة منها بأنها تريد أن تحدثه. إستأذن من البقال الذي كان يحكي له، ولم يكمل حكايته.
وجد حسن الفتاة تقف في دخلة البيت الواسع بجوار السلم، أسرع إليها، قالت:
- كنت أخاف أن تأتي كما إتفقنا.
- ماذا حدث؟
- لن يذهب أبي إلى أصحابه في الإبراهيمية.
- لماذا؟
- سيسمع الشيخ مصطفى إسماعيل في غيط العنب.
- نصعد إلى سطح البيت حتى يعود.
- لا أستطيع، فالحي كله ساهر الليلة، كما أن أبي قد يأتي فجأة.
ينام شقيق كريمة – أحيانا – في الشونة بشارع 8. أو يسافر لإنهاء بعض المتعلقات بعمل والده. وأمها الحاجة تنام مبكرة. وتبقى الفتاة ساهرة وحدها في البيت. إذا ما ذهب والدها إلى أصدقائه، تقابل حسن – عادة – فوق سطح البيت. يجلسان في الظلام. أو تدخله البيت مطمئنة لنوم أمها العميق وعدم رجوع أخيها من الشونة، لكن الليلة الأمر يختلف.
أسرع حسن إلى الخارج خشية أن يراه أحد معها. لم يذهب إلى البقال ليكمل له الحكاية التي لم تنته. أسرع إلى الجبل قبل عودة سعد إلى بيته، وجده أمام المرأة يتحدثان، إبتعد سعد عن الدكان عندما رآه آتيا: ماذا، لم تجد الفتاة؟
قال خائبا:
- لن يذهب أبوها الليلة إلى أصدقائه في الإبراهيمية.
- كادت المرأة تلين، عودتك المفاجئة أفسدت كل شيء.
تابع سعد المرأة وهي تتحرك، بيتها قريب جدا من الدكان، تذهب إليه بجلبابها وطرحتها وشبشبها الذي تطرقع به فوق الأرض.
دفعت الخروف داخل الدكان، ولمت دجاجاتها أيضا. تركت الحظيرة خاوية أمام البيت المقابل لدكانها، وأطفأت أنوار الدكان إيذانا بانصرافها. أسرع سعد إليها:
- ألن تنتظري شيخك؟
- لا.
كانت تحدثه بود. وتتفادى لمسات يده وجسده لجسدها: سأساعدك في غلق الدكان.
لا تستطيع هي أن تشد الباب الصاج الثقيل وحدها، تنتظر كل ليلة أن يجيء الشيخ عاشور ليساعدها في غلقه.
حملت بعض أشياءها لتعود بها إلى بيتها، وإبتعدت ليغلق سعد وحسن باب الدكان.
**
عادا ثانية أسفل الحارة، قال حسن:
- المرأة أغلقت الدكان لتعطيك الفرصة لمقابلتها في البيت قبل عودة الشيخ.
- لا، إنها لا تقصد ذلك.
واجههما الجندي المعلق أمام بيت توحيدة، قال سعد:
- ربنا يمسيك بالخير يا سيد.
( منذ سنوات طوال إحتفل المسلمون في غيط العنب بالمولد النبوي الشريف على المستوى الذي يحدث الآن. وكان الدافع لذلك وجود الأقباط بكثرة هناك. والتنافس في الإحتفالات الدينية بينهما. فالأقباط يحتفلون – أيضا – بمولد القديس ماري جرجس، ويقيمون الزينات والأنوار في الحي كله، وفي شارعي راغب باشا وإيزيس. لكن بعد حرب 67 إهتم الناس في غيط العنب والأحياء المجاورة بتعليق تماثيل الجنود والدبابات والمدافع. . إلخ. بدلا من تعلق الفوانيس الورقية )
وعندما وصل سعد وحسن قرب بيت توحيدة، صاحت الزينة من شرفتها وفي صوت حذر: سعد، أريدك.
النوافذ والشرفات حول بيت توحيدة مظلمة، والحركة تزداد في بؤرة الضوء ( بين قهوة أبو دومة، ودكان البقال )
نظر سعد إلى أعلى وصاح: سأنتظرك لدى البقال.
قال حسن الذي إبتعد عندما رآها تحدث سعد:
- ماذا كانت تريد منك؟
- لا أعلم.
وقفا أمام البقال الذي كان يعد الأرغفة المتبقية عنده، والتي سيعيدها إلى المخبز ثانية لمعاودة بيعها بسعر أقل. قال: ألم تسمعا الأخبار؟
قال سعد:
- ماذا حدث؟
- أقال السادات وزير الداخلية.
- حقا؟!
- أذيع النبأ في الراديو.
وأخذ البقال يحلل الموضوع، ويتساءل عن رأيهما في قوله. حتى جاءت الزينة ترتدي ملاءة أمها التي تلمع. فليس لدى الزينة وقت لكي تعد نفسها للخروج، بفستانها وحذائها العالي: مساء الخير.
تراجع سعد إلى الخلف. وحل حسن محله في الحديث مع البقال.
يظن سعد أن الزينة تريده في أمر يخص سيد صديقه وشقيقها، أن يكتب له رسالة في الجيش، أو يتصل بأحد زملائه يكون في إجازة الآن. لكن الزينة لم تضيع وقتها، فأمسكت يده بيدها التي تمسك طرف الملاءة:
- أريدك يا سعد.
- تحت أمرك.
- لا، أريدك في شقتي، لدي حديث طويل وعوض زوجي في عمله الآن.
نظر سعد حوله حائرا:
- لكن......
- أرجوك، سأعود وتأتي أنت بعد لحظات، أدخل البيت لا تخش شيئا فالحارة كلها تعرف إنك صديق أخي سيد وتدخل بيته في حضوره وغيابه.
- نعم.
عادت وهي تنظر إليه مبتسمة من وقت لآخر. لو رآها أحد هكذا لأدرك دون عناء مدى حبها لسعد.
وقف لحظات وحسن منشغل تماما مع البقال الذي يحكي عن العلاقة بين السادات ومساعدي عبد الناصر القدامى.
أسرع سعد إلى البيت. دخله وقلبه يرتجف من الخوف. ماذا لو رأته أمها توحيدة صاعدا الدرج إلى الزينة في غياب زوجها، ماذا سيقول لها.
لكن حجرات توحيدة كانت مغلقة وضوء خافت يخرج من بين الدرفتين.
صعد الدرج مسرعا، لم يدق الباب لقد صعد إلى هذه الشقة في الأسبوع الأول لزواج عوض منها. دعاه هو وسيد وحسن بن عزيزة إلى مأدبة غداء. كان عوض يرتدي بيجامة بيضاء، ووجهه يلمع من الفرحة.
أتاه صوت أحد عملاء توحيدة الذين يبيعون أعقاب السجائر لها. كان يتحدث بصوت مرتفع ( يبدو أنه خارج من شقتها بعد أن باع دخانه ) وهي خلفه تودعه، تحدث عن إستقالة وزير الداخلية وعن الفوضى التي ستحدث بعد ذلك.
- قد تأتي أمك فجأة.
- اطمئن، لن تأتي.
أغلقت الزينة الباب، كانت ترتدي قميصها الذي يشبه ملابس الخروج التي ترتديها قريباتها النجعاويات اللاتي يذهبن إلى الحفلات. لكن الزينة الآن تعلمت من عزيزة الخياطة، ومن البنات المتعلمات في الحارة.
- سعد، لماذا لا تأتي لزيارتنا؟
- تعلمين أن عوض لم يعد صديقنا، فقد إنشغل عنا بتجارته.
- لا أريدك أن تأتي لعوض، وإنما تأتي إلي.
يجب أن تعترف الآن بإنها قد أخطأت عندما وافقت على الزواج من عوض، أخافتها أمها من المستقبل: أنت كبرتِ، إلحقي القطار قبل أن يفوتك.. إلخ. جعلتها تخاف من أن تعنس. ليتها بقت كما هي وتعنس، تعنس. سعد الذي أحبته كثيرا كان بعيدا عنها. ولم يبد إهتماما بها، رغم كل ما فعلته لتلفت إنتباهه. تبتسم له، وتترك يدها بين أصابعه عندما يصافحها، إذا ما جاء لزيارة أخيها سيد. وهو ولا هو هنا. قالت أمها لها: عندما يجيء الولد سعد، يركبك ألف عفريت.
أحست بالخزي لأن أمها لاحظت ما يحدث، وكشفت عن شعورها الذي تخبئه. قالت الأم:
- سعد لن يتزوجك.
- لماذا؟
قالتها في أسى وكره لأمها: لأنه يدرس في مدرسة.
ثم قالت في ضيق، وفي دفعة واحدة لتنتهي: وأيضا، لأنه يصغرك بأعوام كثيرة.
تصرفت الزينة وقتها بعصبية، رمت الأشياء في طريقها وبكت. إنها لم تحب سواه. منذ أن كانت طفلة تلعب في الحارة وهي تحبه. لكن أمها هي السبب. تجارتها في الدخان ومطاردة الشرطة الكثيرة لها. وسيرتها وشجارها الدائم مع النسوة والرجال، جعل الكل يخافها ولا يفكر في مصاهرتها. لا ليس كما تقول هي.
هو حقا أصغر منها، لكن يبدو بجسده الكبير وكأنه هو الأكبر. كما أن دراسته ليست عائقا قط.
وقتها مصمصت توحيدة شفتيها أسفاً على نفسها وعلى إبنتها. دارت الأيام وما نابها، ناب إبنتها أيضا. لقد أحبت هي حسان – شقيق زوجها – وأخلصت له، ولم يعطها إهتماما. وهاهي إبنتها الخائبة تحب ولدا لن تكون له زوجة أبدا. فتوحيدة تعرف أهله، يعاملونها بود وحذر، لكن لا يصادقونها ولا يصاهرونها. كما أن الأولاد الذين تعلموا في المدارس وأمسكوا الكتب في ذهابهم وإيابهم. لا تعجبهم بنت مثل إبنتها. قد يقضون معها بعض الوقت للتسلية أو المتعة. لكن لا يتزوجون منها أبدا.
إقتربت الزينة منه. أصوات الأطفال في الشارع تزداد علوا, الأضواء الباهرة في الحي تدفعهم للسهر. تلك الليلة لا تأتي إلا مرة واحدة في العام. ليغتنموا الفرصة ويلعبوا كما يشاءون.
- سعد، أنت تعرف مدى حبي لك.
- زينة، أرجوكِ.
يحس بالوحدة، سيد مجند الآن، ويقابله مرة كل شهر ونصف ( معظم شباب الحي في الجيش الآن. بعضهم مضى عليه في الجيش أكثر من ثماني سنوات ) وعوض إنصرف عنه وكأنه قد كبر فجأة. وهو يدور في حواري غربال دون هدف. كتبه الدراسية مكدسة فوق المائدة التي يستذكر عليها، وكتب أدبية كثيرة ملقاة في كل ركن من الحجرة. جو الشقة خانق. والده منشغل بزوجته وأولاده منها. كأنه يعيش بعيدا عنه. كل ليلة يغلق باب حجرة النوم عليه وعلى زوجته، ولا يحس بما يحدث خارج الحجرة. لا يعرف في أية سنة هو الآن. حتى عندما رسب في العام الماضي وأعاد السنة، لم يحس والده بذلك.
لديه إحساس بأنه سيرسب هذا العام أيضا. ويؤكد هذا الإحساس موقف المدرسين منه، هو لا يشترك في الحوار معهم. يقرأ كتبه الأدبية وهم يشرحون الدروس، بعد أن يأسوا منه تركوه وشأنه.
ينام بعد جهد، مطمئنا نفسه بأن رسوبه ليس بمشكلة، فسيد وعوض صديقاه يعملان في شركة الغزل دون مؤهل دراسي، من الممكن أن يفعل مثلهما.
مدت الزينة ذراعها العارية، طوقت رقبته. لقد أفسدت حياتي مع عوض.
صاح غاضبا: أنا، كيف؟
عوض كان أقرب إليك من سيد وحسن بن عزيزة. كنتما تختلفان كثيرا. يعارضك أحيانا، بعكس سيد وحسن اللذين يوافقانك على أي شيء تقوله أو تفعله. لكن عوض كان محقا في الكثير مما قاله، لقد قال يوما وأنتم سائرون في محطة الرمل وبجوار سينما فريال: إن إسرائيل أقوى منا، وكل ما يقال عن ضعفها وقوتنا من قبيل الدعاية الداخلية لا أكثر. قال هذا قبل حرب 67، وقتها ثرت عليه وسخر سيد منه. وإكتفى حسن بمتابعة البنات في ميدان محطة الرمل إلى أن تركتم عوض وحده عقابا له عما جناه في حق الجيش.
وظللتم هكذا لعدة شهور، دخل عوض فيها الجيش، وجاءك ذات يوم، وكنت تقف مقضيا وقتك في المزاح وتضييع الوقت بلا طائل. عندما جاءك عوض لم تتعاتبا أو تتعانقا. كل ما قاله – محاولا إخفاء ابتسامة: إتبعني.
أعطاك وقتها كتبا كثيرة، كان قد إشتراها من الإسكندرية، وزادها بعد أن عرف باعة الكتب القديمة بالأزبكية. لكن والده صرخ فيه وأمره بأن يتخلص منها لأنها تجلب الفئران والحشرات إلى حجرتهم الوحيدة والصغيرة. يومها، نقلت الكتب إلى بيتك على عدة مرات.
- سعد لماذا لم تتقدم للزواج مني بدلا من عوض؟
- إنني لم أنته من دراستي للآن.
- لو وافقت، لكانت أمي أنفقت عليك من نقود الدخان إلى أن تنتهي من دراستك.
- آه.....
- سأطفئ نور الحجرة التي تطل على الشارع، ليظن الناس أني قد نمت، ما رأيك؟
- في أي شيء.
- تعال لتراها.
سارا إلى حجرة النوم، الشرفة مغلقة، لو فتحت الآن سيراه الجيران المقابلين للبيت، وستكون فضيحته، فضيحة لا مثيل لها.
سعد لا يجد ما يفعله، تصرفاته مع المرأة الريفية زوجة الشيخ لم يكن يقصد منها شيئا. فهو يعرف أنها وفية لزوجها. وحتى لو أرادته، سيهرب منها. كل ما يفعله هذه الأيام هو متابعة أخبار المحبين في الحارة والحي كله. وقد تغير الوضع. فتيات كثيرات إنتقلن من التعليم الإبتدائي إلى الإعدادي ثم الثانوي، وهذا لم يكن يحدث من قبل، يغتسلن كثيرا ويلبسن الحذاء. ويسرن بحرية في محطة الرمل والمنشية. إخلع ملابسك.
أصوات الأطفال في الشارع تأتيه من خلال الشيش المغلق. خافتة:
وقع مني شلنين
في الحتة داهية، شلنين
قولوا معايا، شلنين.
تحسس الفراش الناعم تحته، والبنت الزينة تتلوي بجواره وصور معلقة لها ولعوض. بدت هي ناشفة وفي زينة تثير السخرية. وعوض بأنفه الأكبر من المعتاد. وعيناه متورمتان، وأختلطت الأصوات في الحارة. صوت خافت يأتي من شارع راغب باشا البعيد. لا يتضح إن كان صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، أو أدعية تقال بعد أن ينتهي من قراءته. أو أصوات إستحسان من المستمعين. وصوت الأطفال الذين يلعبون ويبحثون عن الشلنين الضائعين، وتعليقات المارة عن الحرب وعن إستقالات الوزراء.
عندما خرج سعد من البيت كان يرتعش من البرد ومن الخوف. والبقال يغلق دكانه. وحسن بن عزيزة ليس له أي أثر في الحارة كلها، وأبو دومة قد أطفأ أنوار مقهاه بعد أن إنتهت إحتفالات غيط العنب بالمولد النبوي الشريف.
قال البقال:
- أين كنت، لقد بحث حسن عنك طويلا.
- نعم؟
- تابعت ما حدث؟
- عن أي شيء تتحدث؟
- لقد استقال وزير الحربية والإعلام أيضا.....
لم يكمل الرجل قوله، وقال:
- ماذا بك، هل تحس بشيء؟!
- لا، لا.
- وأسرع سعد إلى بيته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى