ناجي ظاهر - ليلة حلم...

أريد أن أخبركم منذ البداية أنني اكتب هذه القصة، لأنني غاضب. نعم أنا غاضب، قد تعرفون فيما بعد لست صاحيا تماما حتى أتمكن من إخباركم بكل ما لدي.
المني جدا أنها اختفت أنها ظهرت لتشعل ليل وحدتي. قد تقولون طيب لتختف هي وما دخلنا نحن بها وبغضبك؟ عندها سأقول لكم انه لا دخل لكم، سوى أنكم تورطتم بقراءة قصتي هذه، الحقيقة أنني أنا من ورطكم، أنا اعرف كيف توضع العناوين الجذابة وبت اعرف لكثرة ما عاركت الكلمات، كيف أحاورها وأداورها وأوقع قراءها في شراك أتقنت نصبها رويدا رويدا ابتداء من أكثر من خمسين سنة إلى الوراء. بينكم من يريد أن يتحداني؟ ليفعل، أنا أيضا اعرف كيف اتحدي. أقول لكم؟ اعتبروا هذه القصة إعلانا للبحث عنها، اعتبروها محاولة للبحث عنها، منذ اختفت وأنا اسأل عنها، ولا أجدها، لم ادع زاوية في عالمي إلا ونقبت فيها عنها، أكاد اجن لغيابها، بعد أن لامست يدي يدها وروحي روحها.
يخرب شر المرأة عندما نريدها تنفض عنا إلى المجهول، وعندما تريدنا هي ننفض نحن عنها، قضيت عمري كله وأنا احلم بها، إلى أن أنهكني التعب، فقلت لنفسي دعها يا ولد، أنا في الواقع لست ولدا في السادسة عشرة، أصدقائي يقولون إنني ولد تزحف سنوات عمره نحو الستين.
هكذا تركتها ومضيت نحو عزلتي، قلت لنفسي، اخسر المرأة لكن اربح الكتابة على الأقل، اعتزل الدنيا واختبئ أنا وكمبيوتري في غرفة صغيرة، نقضي الليالي معا وحينما يتعب احدنا من الآخر يطلب إجازة فتكون له، لا تضحكوا لا تقولوا إن الكمبيوتر لا يتكلم، إذا سألتموني كيف يتحدث أقول لكم، انه يتحدث بلغته، بالضبط مثلنا نحن بني البشر، الفرق بيننا وبينه أننا أحيانا لا نفهم لغته مثلما لا نفهم لغة اليهود والأمريكان، تريدون أن أقدم لكم أنموذجا من لغته؟ طيب حاضر، لكن لن افعل هذا قبل أن احكي لكم ما فعله بي.
كان ذلك في أواخر واحدة من ليالي الشتاء، كنت أكاد أتجمد من البرد، وأنا اجلس إليه، إلى الكمبيوتر، ظللت ابحث عن امرأة فيه، ابحث وابحث، إلى أن أطلت امرأة لم تر عيناي امرأة أخرى في مثل جمالها، رايتها في البداية في صورة عنزة سوداء، تضع رجلها الأمامية على صخرة مرتفعة على جبل سيخ، وتطلق ثغاءها، كأنما هي تنادي فحلها، قلت ها هي فرصتك قد أزفت، أيها الكاتب، لتلتقي بالمرأة التي تمنيت، امرأة من بلادك، وليست من أي بلاد أخرى، امرأة كل ما فيها يشبه بلدتك.
ما أن وقعت عيناي عليها حتى اختفت، قالت لي أعوذ بالله من عينيك، أنت تريد فاكهة تفترسها وليس امرأة تحبها، عندما لمست انك بحثت عني كل هذه السنين، منذ البدايات الأولى حتى النهايات الأخيرة الحالية، قلت لنفسي ربما تنجـّر وأصبح إنسانا، ربما كان فعلا بحاجة لامرأة.
ما أن أدارت ظهرها تريد أن تولي حتى هتفت بها راجيا إياها أن تبقى، أن تستمع إلى بضع كلمات، أن تمنحني فرصة، ثم أنها لا يصح أن تظهر هكذا مرة واحدة وتختفي حال ظهورها، ألا يعقل أنها فهمتني خطا؟ حينما نطقت بهاته الكلمات الأخيرة، أدارت ظهرها وسارت باتجاهي، رقص قلبي، إلا أنني تماسكت، لم يكن أمامي من مفر سوى التماسك، وإلا فإنها ستقرر الانصراف، وما أدراني كم ستغيب وما إذا كان في العمر متسع لعودتها، في المرة الأولى، التي هي عمري، انتظرتها نحو الستين عاما، ترى كم مثل هذه السنين، يوجد في حياة الواحد منا نحن بني البشر؟ لا أنا لن ادعها تولى هذه المرة، أما الكتابة فلتذهب إلى الجحيم، من كتب حتى الستين، ولم يتمكن من إقناع امرأة بان تصبح له، قد لا يتمكن من إقناع امرأة حتى لو كتب للمائة والعشرين.
أخفضت راسي مثل طفل انتابته حالة وجل مفاجئة، ورحت أرسل نظراتي إليها من تحت لتحت، نعم هكذا اقتربي اقتربي، كي أرى الكون فيك، اقتربي فقد انتظرتك عمرا. كانت كلما اقتربت مني يقترب فرح العمر، هل تعرفون فرح العمر؟ أنا ذاتي لا اعرفه. ما أن بات بإمكانها أن تطولني بيدها البضة الرخصة، حتى بادرت إلى رفع راسي من انخفاضته، قالت تريد أن أبقى معك والى جانبك؟ أجبتها، مثل الولد الشاطر، بهزة من راسي علامة الموافقة، قالت اسمع سأمنحك فرصة العمر، سأكون معك، لكن لي شرط.
ما أن قالت لي إنها ستبقى إلى جانبي، حتى ابتدأت براعم الورد تتفتح في كل مكان، لم اعد اسمع كلاما غير ما قالته، رحت أرفرف مع الطيور المحلقة في أعالي الجبال، ولم يهمني أنها أرادت أن تشترط على من اجل وجودها بشرط ما، بدا أنها أدركت ما بي من فرح، فعادت تسألني، ألا تريد أن تعرف شرطي؟ هتفت بها دون أن أفكر، مثلما فعل مجنون ليلى بالضبط، قلت لها اشرطي كما تشائين. قالت أولا أنا لن آتي إلا في الليالي، وفي أواسطها تحديدا، هززت راسي موافقا، قالت سيكون لك كل ما تريده مني، سأكون حوريتك وملهمتك وكل ما أردت وتمنيت، شريطة ألا تفتح عينيك لتراني، وأضافت قائلة، تذكر ما أقوله لك الآن جيدا، تذكر انك إذا ما فتحت عينيك ورأيتني فانك ستخسرني.
قلت لها دون أن أفكر فيما أقوله مرة أخرى، لن افتح عيني، ألا يكفي أنني رايتك الآن؟ ألا يكفي انك سحرتني بكل ما انطوت عليه أعطافك من جمال؟ ابتسمت وولت وهي تؤشر لي بيدها وعينها، هذه هي المرة الأخيرة التي تراني بعينيك فيها.
جلست بعد انصرافها أفكر فيها واعد الساعات حتى يأتي الليل، ما أطول الساعات حينما يكون لدينا موعد هام، أخيرا انصرم الوقت وابتدأ الليل، تمنيت حينما حل الظلام أن امسك به من جديلته وان اجذبه إلي، غير أن هذا لم يكن بمستطاعي، قلت لنفسي والله فيلم، هكذا نحن بني البشر، نبقى عزابا طوال العمر، بيد أننا ما أن تحين ليلة دخلة الواحد منا حتى يشعر بنكبته تطرق أبوابه، وكأنما ما كان فيه من بعد عمن حلم بها، لم يكن.
بقيت على هكذا حال انتظر منتصف الليل أن يأتي، دون أن يفعل، إلى أن هدني التعب، تعب الانتظار، فرحت أسافر موغلا في حلم تلو الآخر، حتى وصلت إلى الحلم السابع، هناك وجدت نفسي استلقى على سرير من الورد يسبح على سطح نهر ممتد، صافي المياه، أغمضت عيني لا أريد أن افتحهما، عندها شعرت بيد تلامس شاربي وتعبث بهما، الله ما أجمل شاربي، لقد أصابني ما أصاب كاتب عراقي، نسيت اسمه الآن، خرجت إليه امرأة أرادها وراحت تعبث بشاربيه، ولم لا، أنا أشبه العراقيين في أكثر من وضع، من ناحية الشكل أكاد أن أكون عراقي القلب واليد واللسان، هناك تشابه لا حدود له بيني وبين العراقيين، أما من ناحية عشقي للنساء فإنني أكاد أن أكون نسخة طبق الأصل من أهلي العراقيين، ناهيك عن أنني اتفق مع الإخوة البغداديين على أهمية الانتساب إلى ألف ليلة وليلة وشهرزادها الفاتنة.
عبث تلك اليد خلب لبي، أردت أن افتح عيني لأراها، إلا أنني خشيت أن اخسرها، قلت لنفسي، وشو عليك يا ولد، بإمكانك أن تنعم بجنتك الحلمية هذه، سواك من الناس نادرا ما تسنح لهم الفرصة لأن يعيشوا مثل ما تعيشه من حلم، غصبا عني رقص شارباي، فرقصتهما أكثر، ثم أدنت فمها من فمي، فعلا أنت تمتلك شفتين ساحرتين، النساء اللواتي لا يرين مثل هكذا شفتين لا يرين شيئا. لامست شفتاها شفتي، شعرت أن العالم يلامسني، احتضنتني، احتضنتها، كان كل منا اخف من النسمة، على من قبالته، رحنا نتقلب على سطح الماء، الطريف أننا كنا نتدحرج كأنما نحن على سطح من زجاج. كنا نتدحرج لاهيين، لا نريد من الدنيا سوى أن تتواصل تلك اللحظة.
ظللنا نتدحرج من غيمة إلى أخرى، وأنا أكاد اجن بها، بالضبط مثلما شعرت بها هي تكاد تجن بي، والله انك ابليس، ابليس من يوم يومك، كل هذا يصدر عنك؟ معقول انك احتبست كل ماضيك، كل تاريخك للحظة مثل هذه؟ معقول أن شيئا لا يذهب وأننا إنما نحتفظ بقوتنا إلى معركة حقيقية مثل أم المعارك؟ معقول أنني امتلك كل هذا السحر؟ يا لله ما أحلى هذا، ما أحلى أن تعيش حلما رافقك طوال سنوات عمرك الماضية، وفجأة يكون لك، كم هي جميلة لحظة تحقيقك لذاتك مع امرأة عشتها خيالا طوال نحو الستين عاما.
نحن، أنا وهي، نواصل تدحرجنا على قطرات ماء النهر، نلامس ما تناثر على سطحه من ورود فيفوح أريجها، كأنما هو خلق لنا، المهم أن أحدا منا لا يشبع من الآخر، ولا يريد أن يفارقه، بقدر ما يريد أن يتداخل فيه، أن يصبح هو هو وليس سواه، كما هو عليه في الواقع. ليس هناك أحلى من أن يضحي الواحد منا إنسانا كاملا له أربعة أعين وأربعة آذان وأربعة أرجل، يرى من الخلف مثلما يرى من الأمام وكذلك يسمع من الناحيتين، أما في حالة السير فانه يمكنه أن يسير في كل الاتجاهات، ما عليه إلا أن يغير الاتجاه وينطلق.
التصق احدنا بالآخر، بات يألفه الفه لنفسه، وسع به دائرته الذاتية، صار أوسع أوسع أوسع، من يعرف مثل هكذا وساع، لا يمكن أن يتقبل أي ضيق، يخرب شر الحياة ما أحلاها، وأنت تسافر في دنيا الماء والورد والمرأة.
كان الليل قصيرا، خشيت أن ينتهي وان يكون ما فيه ما هو إلا حلم، شرعت اضرب أخماسا في أسداس، لماذا لا افتح عيني؟ حتى لو صدقت في تهديدها لي أنني سأخسرها إذا ما فتحت عيني، من المؤكد أنها لن تفعل، هي أحبتني مثلما أحببتها، ولا يمكن أن تتركني لمجرد أنني أردت أن أرى بأذني إلى تناسق جسدها، وإذا ما أردت أن اسمع بعيني موسيقى روحها.
مضى شطر من الليل وأنا أفكر على هذا النحو، في النهاية أقنعت نفسي بأنني ينبغي أن أراها، وانتم تعرفون حاليا ما حصل لي عندما فتحت عيني، نفضتني من على صدرها، طرت في عالم الحلم أتهاوى من حلم إلى آخر إلى أن طويت العالم الحلمي السابع وسقطت على الأرض، عندها أدركت أنني عدت إلى متاهتي السابقة. عرفتم الآن لماذا أنا غاضب؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى