عبدالله عبدالإله باسلامه - فناجين الوطن...

24 فنجانا من الصيني الأصلي مع صحونها المطلية بالذهب (الحقيقي) كما تؤكد أمي لكل من يدخل بيتنا يتفرج على هدية الملك الخاصة لجدي نظير إخلاصه ووطنيته، والذي لم يهنأ - كما تقول أمي - بسبب قيام الثورة وإعلان الجمهورية.

لكن مع تولي أبي منصبا كبيرا عادت أمي لتخرج الطقم وتقدم القهوة للضيوف حتى فاجأنا موته بسكتة قلبية إثر انقلاب الثوار .

كانت مهمتي وأختي الصغيرة مراقبة الفناجين خوفا عليها من السرقة، والتأكد من عودتها إلى قواعدها سالمة في الصحن الفضي. بحذر نحملها، وبحذر أكبر نعيدها إلى مغسلة المطبخ بانتظار مغادرة أم حسن التي تدخل إصبعها الشبيه بالمخلب في حلقة الفنجان وتظل تراوحه بين حجرها وفمها الذي لا يكف عن الحديث عن ولدها حسن الذكي القوي الشجاع... وعن أمنيتها امتلاك طقم فناجين مماثل تقدمه هدية لأمي دليل محبة.. وكي تتذكر موضوع توظيف حسن عند قريب لنا فترد أمي:
- سأفكر في الأمر .

بخروجها تسرع أمي إلى المطبخ، تحصي بسرعة عدد الفناجين، تبتسم لنا مكررة وعدها لي بالدراجة الهوائية، ولأختي بالفستان.
برفق تغرق كل فنجان مع صحنه على حده في الماء النظيف.. تجففه بالمنديل القطني .. ترفعه نحو الضوء.. تبقيه عند مستوى عينيها تقلبه وتتفحصه.. وتتفقد الصحون والحواف المذهبة ..تفتح الصندوق الذهبي وتضع كل فنجان في مهده الوثير، تغلقه بإحكام متمنية أن لا تخرجها مجددا.

لكن بعد بضعة أيام فقط نشبت الحرب، وانظم خالي إلى (الجيش الوطني)، ثم أصبح قائدا كبيرا يتردد اسمه بين الناس، وتدفع صدى انتصاراته الناس لزيارتنا، أمي التي أصبحت أخت القائد أخرجت الطقم، تقدم القهوة وهي تتحدث بفخر، وتدعو الله أن ينصره على أعداء الوطن.
تؤمن أم حسن - بصوت عال - على دعاء أمي، ثم تميل نحوها وتهمس:
- ماذا فعلت بشأن حسن؟ هل أخبرت سيادة القائد ؟

لكن الأخبار وصلت عن هزيمة الجيش، تحت ضربات المقاومة الوطنية التي انخرط فيها أخي الكبير .
ظهر ضيوف من نوع آخر يتحدثون عن بطولات أخي الذي صار فجأة قائدا كبيرا للمقاومة فصارت أمي (أم قائد المقاومة الوطنية) تدعو الله وهي تقدم القهوة أن ينصره، وتجاهد في إخفاء قلقها على مصير خالي، وحدها أم حسن من كانت تدعو الله أن ينصر الجميع .

أما أنا وأختي فقد أصبحنا نقدم الفناجين في صحنين، في كل صحن 12 فنجانا أحدهما قهوة مرة لضيوف أصدقاء خالي، والثاني قهوة سكر لضيوف أصدقاء أخي، ومع عودة الجيش إلى قوته تحولت الحرب بين الطرفين الوطنيين إلى كر وفر، كما اختلطت علينا الفناجين .
وأصبح النقاش في ديواننا يحتد، والحوار يشتد ويتحول إلى ملاسنة وتوتر يصيبني وأختي بالقلق والخوف على الفناجين التي ترتفع وتنخفض، وأحيانا تتأرجح فوق صحونها مصدرة أصواتا تجعل قلبي يرتجف ويهوي بين ساقي، أما أمي فقد عصبت رأسها بربطة سوداء مكتفية بالصمت. وتكرر وعدها لأم حسن بأنها ستتوسط أن يكون إبنها مرافقا للقائد المنتصر سواء أكان أخي أو خالي، لكن بعد أيام قليلة وقع كليهما أسرى لدى طرف ثالث يدعى (الجبهة الوطنية) .

أصبحنا نقدم القهوة مُرة لجميع الضيوف الذين فترت بمرور الأيام زياراتهم ثم شحت وانقطعت، وحدها تجلس أمي تحدق بقلق في الفناجين المقلوبة على أفواهها بانتظار خبر الإفراج عن الأسرى، وكلما نما إلى علمها شيء من الشائعات بعثتني إلى بيت أم حسن أدعوها لزيارتنا فتتعذر قائلة (نسيت)، في آخر مرة قالت: سأفكر في زيارتكم.

لم نر أمي بكت في جنازة أبي الملفوف بالعلم الجمهوري يوم دفنه كما رأيناها تبكي ساعة أصيل، تأكدت فيها أخبار تولي حسن زعامة البلد. فتحت أمي الصندوق وأخذت تقبل الفناجين واحدا واحدا قبل أن تسجيها برفق داخل تجاويفها الموسدة بالقماش المخملي، وتلف الصندوق بشرائط الهدايا، وتحمله إلى بيت أم الزعيم حسن.


عبدالله عبدالإله باسلامه
اليمن / ذمار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى