مصطفى الحاج حسين - بين أنياب الموت..

طوال الليل لم يهدأ أزيز الرّصاص، ودوت الانفجارات في سماء مدينة (حلب). لم أستطع أن أخلد للنوم، وحمدت الله أن مرّت الحكاية على خير في سهرتنا عند (سعيد).. وكنت أسمع وقع خطوات راكضة في حارتنا أو أصوات لكلمات مبهمة.. وهناك من أسفل الحارة، يتناهى إليّ صوت هدير الدّبابات، والمراكب العسكريّة.. فكَّرت أن أنهض من سريري، وأشعلُ الضّوء، لأكمل قراءة رواية (المصابيح الزّرق)، للكاتب الذي عشقت أسلوبه (حنّا مينا) و قد بدأت قراءتها، عصر اليوم.. أو أكتبَ قصيدة، ولكن ربما إن أشعلتُ الضّوء، جاؤوا يطرقون علينا الباب.. ولهذا بقيت أتقلّب على سريري، في الظّلام.
وأخيراً.. ولا أعرف كيف، ومتى غفوت، وها هي، أمّي تأتي لغرفتي، وتوقظني، لأذهب مع أبي إلى الشّغل.
قلت لها، وأنا أفتح عينّي بصعوبة:
- أيّ شغل يا أمّي؟!.. والدّنيا خربانة في (حلب)!.
قالت أبوك استيقظ، وأنا جهزت لكم الإفطار.
نهضت لأفطر، فأنا أحسّ بالجوع، ولأتكلّم مع أبي، بخصوص شغل اليوم.
وعلى مائدة الطّعام، رويت لأبي وأمّي، وقائع ما حدث بالأمس ليلاً، عند (سعيد).. فحمدت أمّي الله، لأنه تلطّف بي وبأصدقائي، وقال أبي:
- يا ابني.. لا داع للسهر مع رفاقك، في هذه الأيّام.. الوضع مخيف وخطير.
سألته.. هل ستذهب إلى الشّغل في هذا اليوم؟!.
أجاب، وكلّه حيرة:
- نحن مجبرون أن نذهب، لقد أعطينا وعداً لصاحب الشّغل.. وهو بانتظارنا، ولقد جهّز لنا مطالبنا بالأمس، ثمّ هو أعطاني سلفة، ولم يخجّلني.
- نعم.. يا أبي.. ولكن مكان العمل بعيد.. في آخر الدّنيا، و(حلب) مشتعلة.
رمى رغيف الخبز من يده، وتغيّرت ملامح وجهه.. وقال:
- قلت لك سنذهب، يعني سنذهب.. لا لا تتذرع بالحجج.. أنا أفهمك جيداً.
قلت.. بعد أن تركت الطّعام:
- أنا لن أخرج من البيت، وأنت يجب ألّا تذهب.. القضيّة ليست سهلة.
غضب منّي.. صار يسبّني ويشتمني، غادرت الغرفة، وأنا أصيح بإنزعاج:
- أنت دائماً هكذا.. اذهب لوحدك، فأنت حرّ.
عدت إلى غرفتي، أشعلتُ سيجارة، وجلست خلف طاولتي.. وقبل أن يغادر
أبي، فتح عليّ عابساً، وقال:
- من أين أجد غيرك يشغّلني اليوم ؟!.. أنت تجبرني، بمثل هذه الأجواء، على الذّهاب إلى (باب أنطاكيا).
- يا أبي.. أتمنّى ألّا تذهب.. أنتظر ليوم غد.. لنرى ما سيكون اليوم.
قال:
- ومن أين نعيش، إن لم نشتغل؟!.
وأغلق الباب عليّ، وانصرف، ساخطاً.
نمتُ بحدود السّاعتين، وإذا بأمّي وأختاي (رائدة، وعائدة) توقظاني، بلهفة وخوف وهلع:
- أنت نائم، والدّنيا خربانة، إنهض ودوّر على أخوتك، وأدخلهم إلى الدّار، لم يسمعوا كلامي، وخرجوا.
وسمعت صوت الانفجارات، وإطلاق الرْصاص الغزير.. فنهضت.. وهرعت في (البيجاما) للشارع.. كانت الدّواليب والإطارات مشتعلة، في الطّرف التحتاني من الحارة، والطّرف الفوقاني أيضاً.. وركضت نحو تجمّع الأولاد، باحثاً عن أخايَ (أحمد.. وعمار).. ووجدتهما بعد جهد.. وصرخت
بهما، أن يعودا إلى البيت.. فسبقاني راكضين.. وبينما نحن نهمّ بالدّخول، وإذ برشقة كبيرة، من الرّصاص تنهمر صوبنا، فأسرعت، ودفعت بأخوتي للداخل، ودخلت، وإذا برصاصة تصيب باب دارنا.
كان يوماً عصيباً، وفظيعاً على مدينة (حلب).. في كلّ مكان، من الأزقّةِ، والحارات، والشّوارع، والمناطق، اشتعلت نيران إطارات السّيارات، وصار
تصادم عنيف، بين الفتية والكثير من رجال (الجوامع).. مع عناصر الجيش، المدّجّجين بأحدث وأفظع أنواع الأسلحة، إلى جانب الدّبابات، والعربات العسكريّة.. وكان إطلاق الرّصاص لا يهدأ، أو ينقطع، وكذلك الرّشاشات والقاذفات، وسقط القتلى، و الجرحى، واعتقل الكثيرون.. وكان هناك بعض عناصر، (الإخوان المسلمين)، مسلّحين، يقتلون، ويغتالون، ويفجّرون
، ويقنصون.. والسّماء سكنها السّوادُ، والدّخان، وروائح البارود، والحرائق.. تم تفجير المؤسّسات، وأهمّها المؤسّسات الاستهلاكيّة، والحافلات الحكوميّة، وبعض الأفران.. وعلى كلّ من يمرّ من حارة، أو منطقة، سواء كان ماشياً على قدميه، أو يقود سيارة، أن يهتف كيفما يؤمَر، فإن كانت السّيطرة (للإخوان)، عليه أن يسقّط (الرئيس)، وحكومته، وحزب (البعث).. وإن كانت السّيطرة للجيش، فتتحوّل هتافاته لاسقاط، جماعة (الإخوان المسلمين)، الرّجعيين والمتخلّفين، والخونة، والعملاء.
الدّماء على الأراض في كلّ مكان،
والمشافي مكتظّة بالجرحى، والقتلّى والمصابين.. وتمّ إغلاق المحلات عنوة،
والويل كلّ الويل، لمن يتجرّأ ويفتح محله.
وانبعثت الصّرخات من حارتنا، مرّة أخرى، سبقها، صوت رصاص، كثيف وغزير، فتجرّأت، وفتحت الباب، وأخوتي يقفون من خلفي، ليراقبوا، رغم احتجاج أمّي، وأختيّ.. وشاهدت ابنة جيراننا مصوّبة، ومرميّة على أرض الحارة، والتمّ من حولها أهلها، وبعض الجيران، وكانت النّسوة يولولن، ويصرخن، ويبكين، والرّجال ينادون، على من يحضر، سيارة للإسعاف، وأزيز الرّصاص، ما زال يقتحمُ حارتنا، دون توقف، أو تمييز بين رجل، أو امرأة، أو حتّى طفل. و أخذت أدفع، بأخوتي وندخل إلى دارنا، فقد كان أزيز الرّصاص، بالقرب منّا، ويرتطم بالحيطان، وإذ بنا نسمع صرخة هائلة، انبعثت قريباً من ابنة الجيران، المصابة بفخذها، و هي تنزف، بانتظار سيارة، ليتمّ اسعافها إلى المشفى الجامعيّ.. في هذه المرّة، سقط ابن جيراننا، الآخر، قتيلاً، فقد طالته، رصاصة طائشة، واستقرّت في عنقه.
وتضاعف الصّراخ، والبكاء، والنّحيب، والعويل، و الولولة .. فجرّتني أمّي، ودفعت بأخوتي إلى الدّاخل، وأغلقت الباب علينا، بقوّة، وعنف.
كانت أختي (رائدة) تسأل، عن الفتاة التي أصيبت بفخذها، والخوف ينساب من صوتها المرتعش:
قال أخي الصّغير (عمار):
- إنها ابنة جيراننا (عجم)، رفيقة (عائدة).
وصارت (عائدة) تبكي، تأثّراً على صاحبتها.. وقال أخي (أحمد):
- الشّاب الذي قتل، هو ابن سائق (التكسي) ، (نجيب).
وسألت أمّي، بخوف وحرقة، وحسرة:
- وأبوك.. أين هو الآن؟!.
قلت بقهر:
- حتّى تصدّقوني.. قلت لكم.. وحذّرتكم
، فلم تردّوا عليّ.. وذهب إلى الشّغل، وهو غاضب عليّ.
دخلت غرفتي، بعد أن طلبت الشّاي،
أشعلت سيجارة، وأخذت أستمع، للرائع (مارسيل خليفة)، الفنان الثّائر الجميل، الذي عرفته، منذ فترة قصيرة، ومن
خلال أصدقائي الجدد، (عاطف، ومصباح)، فقد كان يغنّي بطريقة جديدة، من حيث اللحن، والصّوت، والكلمات الرّاقية، وذات المعاني القويّة.. إنه مختلف عن (عبد الحليم حافظ)، وعن كوكب الشرق (أمَّ كلثوم)، ولكنّه مدهش.
(عاطف) صديقي الجديد، هو ابن حارة (سعيد)، وكان (سعيد) يعرفه، ويعرف أهله قبلي.. لكنّه لا يحتكّ به، بل يرفض التّعرف عليه.. لأنّ (عاطف) كان منبوذاّ، من قبل أهل الحارة، وجيرانه،
وأصحاب المحلّات، والدّكاكين، والورش والشّباب، الذين هم في عمره، ومن كانوا بمستواه التّعليميّ.. ولقد ساهم والده، المختل عقليّاً، في تشويه سمعته، وكره النّاس إليه.
تعرّفت عليه، وهو في السّنة الثّانية بكلّيّة الحقوق، جامعة دمشق (لم تكن كلّيّة الحقوق، قد أحدثت بجامعة حلب بعد).. كان يكبرني بسنة على ما أعتقد،
مثقّف، يكتب القصّة القصيرة، وعنده مكتبة غنيّة، وهامة، ورائعة.. يهتمّ بالموسيقى، والفكر، والسّياسة، لديه أصدقاء مختلفون عن شلّتنا، من حيث الاهتمام، بالثّقافة، والفكر، والسّياسة، والمواهب، والمعرفة.. وكان على رأسهم (مصباح، ومروان وسومر).. وانا تعلّقت (بمصباح) ، فهو يفوق (عاطف) بالثّقافة، والفكر، والسّياسة، يجيد اللغة التّركيّة، واللغة الكرديّة، ويقوم
بالتّرجمة، ويدرس في كلّيّة الاقتصاد.
على مضض، ومجاملة لي، تقبّل
الأصدقاء، أن ينضمّ إلى مجلسنا (عاطف).. سواء في منزلي، أو منزل (سعيد).. أمّا هم، فلم يقدموا، على زيارته، في بيته.. رغم اعترافهم بسعةِ ثقافته، وتمّكنه، وقدرته البارعة، على الجدل، والمناقشة، والحوار المستفيض.
وكان أخي (رامي) خلال عطلته، ومجيئه، من (عين العرب) إلى بيتنا (بحلب).. خصمه الأوّل في مخالفته، الرّأي، والفكر، والتّوجه الفلسفيّ.
كان (عاطف) مرفوضاً، وغير مرغوب بصحبته، لا أحد من شلّتنا، يرحب بصداقته.. أخي (رامي) يرفضه، على أساس فلسفيّ، أو فكريّ.. وصديقي (سعيد) وبقيَّة الأصدقاء، كانوا
يرفضونه، بسبب سمعته السّيئة، التي سبقته إليهم.. ينظرون إليه، على أنّه ملحد، وكافر، وشوعيّ قذر.. وبشهادة أبيه.
حدث، ووقف (عاطف) مع بعض شبان حارته.. وبدافع حماسته، ورغبته بتغيّر العالم، من حوله.. أخذ يناقشهم، ويسخر من عاداتهم، وتقاليدهم، البالية، ثمّ ارتفعت، لديه وتيرة الحماسة والانفعال، والثّوريّة، فهتف يسألهم:
- قولوا لي، أين الله.. بل من هو الله.. ومن خلقه.. وماذا كان من قبله.. ومن سيكون من بعده؟!.
وجنّ.. جنون الحاضرين.. فراحوا يسكتونه.. ويستغفرون الله.. وأخذ البعض منهم، يشتمه، ويسبّه، ويلعنه،
وتجرأ آخرون على ضربه، وطرده من بينهم.. فهرب منهم وصعد إلى بنايته..
ومنهم من قام بملاحقته، والصّعود لعند باب شقة أهله.. وطرقوا الباب، وخرج عليهم والده، المشوّش العقل، وقالوا له:
- ابنك كافر.. زنديق.. ملحد.. مرتد.. شوعيّ.. يستحق القتل.
وهكذا تمّت، فضيحة كفر (عاطف)، في الحارة، وانتشر صيته في الحارات المجاورة.. وهناك من صار يحتقره، ويزدريه، ويمقته، بل تعدّى الأمر، إلى معاداته، والاعتداء عليه، في الشْارع.
وكان أبوه غاضباً عليه، يحاول ألّا يرى وجهه.. و(عاطف) أساساً، كان منعزلاً عن أهله، في غرفة مستقلّة، تقع فوق غرفة أبيه.. وأخته معلّمة المدرسة، المتزوّجة، من مدير (معهد الفنون الجميلة)، الذي كان (سعيد) منتسباً إليه، كانت مستأجرة، من أبيها شقة، مقتطع منها، غرفة (لعاطف) بلا (مرحاض)، مّما يجعله مضّطر، حين يشعر بالضّيق، للنزول إلى شقة أهله، ليفكّ زنقته.
والد (عاطف) في حالة غضب وانزعاج
من ابنه (عاطف)، الذي اشتكى منه أهل الحارة، والجيران.. وبسببه أيضاً صارت عائلته، عرضة للتهكّم، والسّخرية، والاحتقار، والكره، والقرف، بل والاشمئزاز، والعداء الواضح، والظّاهر والمعلن.
وبعد صلاة العشاء، في جامع (سعد بن أبي وقاص)، وعند خروج المصلّين، تقدْم (أبو عماد) من (فضيلة الشّيخ)، إمام المسجد، واستوقفه بقوله:
- أتسمح لي سيّدي (الشّيخ) بسؤال.
توقف (الشّيخ) ذو اللحية الكثيفة، والضّاربة إلى البياض والاحمرار، مع شيء من الاصفرار، حول الشّفتين، و الشّوارب المحفوفة بعناية، وتحت الفم الخرب من الأسنان، قليلاً، وقال:
- تفضّل يا (حاج).. هيا اسأل.
وكان والد (عاطف)، متوتراً، وحائراً، وقلقاً، ومنقبض الوجه.. قال:
- (شيخي)..عندي سؤال، هام وضروري
، أتمنّى أن أعرف جوابه، منك.. فأنت أعلم منْي، في الدّين، وأفهم.. ولهذا استوقفتك، أسألك، فاعذرني، وسامحني
، إن أخذت من وقتك الثّمين.
ابتسم (الشّيخ)، وعدّل قبّعته الفضّية على رأسه.. وهمس بوقار مصطنع، وقال:
- تفضل يا (حجي)، قل ما عندك، فأنا أستمع إليك.
تشجّع (أبو عاطف)، وتلتفّت حوله، قبل أن يقول:
- (شيخي).. عندي ولد طالب جامعي، يدرس الحقوق.. كان من أتقى الشّباب، لكنّه منذ فترة، بدأ يتغيّر، ولم يعد يعترف بخالق الكون.. استغفر الله العظيم، صار شيوعياً، يدعو للإلحاد، والكفر، وعدم إطاعة الله، ورسوله، وأنا منذ أن ذهبت إلى (الحج)، وزرت (الكعبة) المشرّفة، صار يحضر عليّ، في كلّ ليلة، عند صلاة الفجر، سيّدنا وحبيبنا ونبيّنا (محمد)، عليه أفضل صلوات الله وسلّم.
فدمدم (الشّيخ)، القابض على سبحته:
- عليه الصّلاة والسّلام.
وتابع ( أبو عاطف) الكلام:
- ولكن يا (شيخي)، توقف مجيء رسول الله، صلّى الله عليه وسلم.. لم يعد يحضر عليْ، منذ عدّة أيام، وهذا ما يؤلمني، ويزعجني، ويضايقني.. ولهذا أنا أريد أن أسألك،، هل يكون السبب، هو ابني، المغضوب في هذا الأمر؟!.. فهو ينام في غرفة، فوق غرفتي.. وكيف للرسول، أن يهبط، وينزل إليْ، وابني الشّيوعي، يقف عائقاً، بيني وبين سيّد البشريّة، (محمد) صلّى الله عليه وسلم ؟!.
وارتفع صوته أكثر، وتضاعف توتّره،
فأخذ ينشج بشدّة ومرارةِ، ويهتف:
- مؤكّد يا سيّدي (الشْيخ)، ابني الضّال هو السّبب، في هجران رسول الله لي.. فماذا أفعل به؟!.. هل أطرده من بيتي؟، أم أذبحه كالنعجة؟.. أم لديك طريقة ما لإنقاذه من ضلالته، وإنقاذي من ذنوبه، الفظيعة؟!.
قال (الشّيخ)، وعلامات القرف، والاشمئزاز، بادية على ملامح وجهه المتجعّد:
- أعوذ بالله من ابنك هذا.. وكان الله في عونك يا أخي .. ابنك هذا بحاجة لمعالجة، وكتابة (حجاب)، تعويذة وحماية .. وبسرعة، قبل فوات الأوان.. يا لطيف.. من هذا الجيل العاق.. استغفر الله العظيم.
وانهمرت دموع (أبو عاطف)، وبلّل الدّمع، لحيته المخضّبة بالبياض، وهتف:
- أرجوك يا (شيخي).. أنا أريد أن يعود (النّبي) الكريم، للحضور إلى غرفتي.. كما كان في السّابق.. وابني هذا الكافر، لا يعنيني، ولا يهمّني، لو لا تدخّل أمّهِ، لكنت طردته منذ زمن بعيد.
قال (الشّيخ)، وقد تفتّحت عيناه، بعد أن مسح عنهما (العمص):
- لك هذا.. تكرم يا (حاج)، ولكن هذا الموضوع، مكلف لك.. فهل عندك القدرة الماليّة؟.. وهل أنت مستعد، للدفع يا (حجّي)؟..وأنا أتعهّد لك، أن يحضر عليك، سيّدنا (النّبي) ، مرّتين في اليوم الواحد.
وكان بعض الذين خرجوا من (الجامع)
التفّوا حول(شيخهم)، يريدون التّحدث
معه.. لأمور تخصّهم.. فتابع (الشّيخ)، قوله:
- أنت تعرف بيتي.. تعال إليّ.. لكي نتفق.
وبعد أن انتصف الليل، وكان (عاطف) في غرفته، يذاكر للامتحان النّصفي، الذي اقترب.. فجأة شعر بانقباض حاد، في أحشاءه، فرمى الكتاب من يده، وأسرع وفتح الباب.. وهبط الدّرج، دقّ باب أهله، مستعجلاً، ووقف ينتظر فتح الباب.. وندم لأنّه لم يحمل معه المفتاح
، الذي في غرفته.. وخيّل له أن وقتا طويلا قد مرّ عليه، وهو واقف ينتظر، وحين حرْك يده ليعاود الدّق، فتح الباب، وبرز في وجهه والده، في قميص (الفانيلا) (وتحتانيّة البيجما)، فوقف في وجه ابنه، ليعيق دخوله، ويقطع الطّريق عليه.. فقال (عاطف) بعجلة:
- مساء الخير يا بابا.. اسمح لي أن أدخل.. أنا مستعجل.. لأنِّي متضايق.
قال هذا، ووضع يده على بطنه، ليفهم والده، قصده.
لكنّ والده استمر في وقفته تلك.. مصرّاً على منع ابنه، (المزنوق) من الدّخول، إلى بيته.. ليدخل (المرحاض)،
فمدّ يده ليزيح أباه عن طريقه.. لكنّ والده استطاع أن يتمسَّك بدرفة الباب، ويتمركز خلفه بقوة.. و(عاطف) في حالة يرثى لها.. هو غير قادر على العراك مع أبيه، ليدخل البيت عنوّة.. اكتفى بالقول بصوت يشبه التّرجي والتّوسل:
- أبي..
فدفعه أبوه بصدره، وصاح مهتاجاً:
- لا دخول لك لبيتي يا كافر.. اذهب لعنك الله.
وجد (عاطف)، أنّ من الأفضل له، أن يترك أباه، وينزل إلى الشارع، ليبحث عن حلّ سريع، ينقذه مّما هو فيه.. فترك أباه متمسّكاً بباب منزله، واتّجه يهبط الدّرج بسرعة، وذهنه يعمل، ويفكر:
- أين أذهب؟!.. لم أعد أحتمل.. أنا متضايق جدّاً.. الخوف أن أعملها تحتي
، على نفسي.. يا للفضيحة يا أستاذ (عاطف).. هذا موضوع يصلح لكتابة قصة قصيرة، عنوانها (البراز)، نعم.. سيكون عنواناً لمجموعتي القصصيّة..
ولكن الآن أين عليّ أن أذهب؟!.. فكر بنفسك الآن.. وفيما بعد فكر بكتابة القصة.. التي ستفضح بها أباك، الظّالم والمتخلّف، والقاسي القلب.
وحين صار في الشارع، وقف وتلفّت وفكر:
- من أين أذهب؟!.. الجامع الآن مغلق.. ولا يمكن الدّخول إليه.. سأذهب من هنا، إلى الطّرف الآخر.. هناك في أرض (العجم)، توجد كومة أحجار، وهناك في العتمة.. سأختبئ خلف الأحجار وأفعلها.. الحمد لله إن الوقت ليلٌ ..و السّاعة تجاوزت الثّانية عشر.. والسّماء توشك أن تمطر.. والعابرون قلّة.. في هذا الوقت، وبمثل هذا الجو الشتويّ.
كان يسرع في خطواته، من ينظر إليه من الخلف، كيف يمشي.. يدرك أن هذا الشّخص ليس بالطّبيعيّ.. وحين اقترب
، وجد السّمان (أبو علي) ما زال فاتحاً دكانه، وعنده أكثر من ثلاثة شباب.. اللعنة إين أذهب؟!.. لمن ألجأ؟!.
في هذه اللحظة، كنت أنا قد غادرت السّهرة من عند صديقي (سعيد).. ومرّرت بالقرب من (عاطف) .. وكنت لا أعرفه، ولا تربطني به صداقة، أو معرفة.. وخاصة في هذا الليل المظلم..
لذلك عبرت، دون أن أنتبه إليه، وبعد أن تجاوزته، بعدّة خطى.. سمعته يهمس:
- مرحبا يا أخ..
توقفت، تلفّت، نظرت إليه مستطلعاً:
- أهلاً وسهلاً أخي.
تقدّم منّي أكتر.. بالكاد لمحت وجهه،
على بصيص الضّوء، المنبعث من النّوافذ المغلقة.. وخيّل إليّ أنّني أعرف هذا الوجهِ.. أو قد صادفته من قبل.
- من فضلك.. هل أستطيع أن أطلب، منك طلباً؟..
لا أعرف، إن كان استطاع، أن يلمح إبتسامتي، في الظّلام.. قلت:
- تفضّل.. أنا في خدمتك.
قال.. وكلّه حياء، وارتباك:
- أنا متضايق.. هل تسمح لي أن أدخل بيتك.. وأدخل إلى (دورة المياه)؟.
فاجأني طلبه هذا.. ولكنّي أسرعت لأقول له:
- تفضّل.. أهلاً وسهلاً.. بيتنا هناك.. بعد ثلاثة دور.
طرقت الباب بعجلة.. فتحت أختي.. دخلت خطوتين، وطلبت منها، أن تعطينا طريقا.. صديقي سيدخل إلى ( التّواليت).
وعلى الفور أدخلته.. وأشعلت ضوء غرفتي المنعزلة عن بقيّة الغرف.. وطلبت من أختي، أن تعمل لنا الشّاي، بعد أن أدخل وصديقي، لغرفتي.
بعد أن خرج وتنفّس الصّعداء، وغسل يديه في المطبخ.. ابتسمت له،. رحبت به من جديد.. فشكرني، وهو يهم بالمغادرة.. فدعوته إلى دخول الغرفة، وحاول أن يعتذر.. فالوقت متأخر وغير مناسب.. وأمام إلحاحي، دخل.
- أنا أعرفك.. أنت صديق جارنا (سعيد) في الحارة.
قلت.. وأنا رأيتك مرات عديدة، في الحارة، وأنا نازل من أمام بنايتكم..
وذاهب إلى موقف (الباص).
ضيفته سيجارة.. أخذها قائلاً:
- آسف لم أحمل معي علبة سجائري.. ولكن لعلك تسأل نفسك؟.. عن هذا الذي حدث؟!.. ولماذا لجأت إليك.
- لا.. عادي.. أهلاً وسهلاً بك.
وضحكت، وأنا أكمل كلامي:
- فرصة سعيدة.. فقد تعارفنا.
انفجر ضاحكاً.. وهو يهتف:
- فرصة سعيدة.. تعارفنا.. ما أجمل هذه المناسبة، التي لن تنسى.. على أيّ حال، سأقص عليك حكايتي.
فتحت أمّي عليّ باب غرفتي، وهي
محمرّة العينين.. وقفت عند الباب، لتسألني بجزع وقلق:
- أين أبوك؟!.. لقد تأخر.. أذّن المغرب ولم يأتي!!.. انشغل بالي عليه كثيراً..
قم ابحث عنه.. ألم يخطر ببالك أن تسأل عنه؟!.
- أين سأسأل يا أمّي؟!.. ولمن أسأل عنه؟!.. حذّرته.. أن لا يذهب اليوم.. فلم يردّ عليّ.. وبعد ساعة، سيبدأ منع
التّجول.. سيرمون بالرّصاص كلّ من يشاهدونه خارج منزله.
صاحت.. وكان الرّعب والخوف قد تملّكانها:
- أنا لا أعرف.. أخرج وأسأل عنه.. أو أنا
التي سأخرج وأدّور عليه.
فتحت باب الدّار، لألقي نظرة على الشارع.. كان الليل قد تمكّن من فرض سيطرة ظلامه على السّماء والشّارع.. وجاءني صوت أمّي من خلفي.. ساخراً
ومنزعجاً:
- هل أنت ذاهب، في (البيجاما) تبحث عن أباك؟!.. خذ هويّتك معك، على الأقل.
ولمحت في منتصف الحارة، جارنا
(الهندي)، بائع الخضرة في (باب جنين)
قادماً وسط الظّلمة، ويحمل كعادته كيساً من (الخيش)، فيه خضار لبيته.. فهو أب، للعديد من الأولاد والبنات، ماتت زوجته، في اليوم الأول، لسكنتنا
في هذه الدّار.. نزلت لأستقبله، فدارنا
في منتصف الطّلعة.. وسلّمت عليه، وسألته:
- ألم تصادف أبي، في (الباص)، وأنت قادم؟.
كان متعبا، ويلهث، وفي وضع يبعث على الأسى والشّفقة.. أجابني:
- أنا لم آت في (الباص)، جئت مشياً من (باب جنين)،إلى هنا، اليوم، لا توجد (باصات) تعمل في كل مدينة (حلب).. لقد فجّروا صباحاً (باصاً) في المنشيّة، وتوقفت على أثرها (الباصات) عن العمل.
قلت:
- أبي ذهب صباحا إلى (باب أنطاكيا) ليأخذ عاملا معه، ويذهب ليشتغل في منطقة (الصّاخور)، ولم يعد حتّى الآن.
صمت جارنا.. بعض الشّيء، أنزل كيس الخضرة عن كتفه، ووضعه بين فخذيه، على الأرض.. وقال:
- سأقول لك بصراحة.. في الصّباح، وقع اشتباك أيضاً في (باب أنطاكيا)، وراح في هذه الاشتباكات، العديد من القتلى.. مدنيّون وعساكر.. أنا لم أشاهد ما حدث بعينيّ.. ولكن هناك من قال، إن الأرصفة مليئة بالجثث.
صدمتُ، صعقتُ، دارت بي الأرض، تخيّلت أبي، ملقى على الأرض، جثّة هامدة، ينزف منها الدّم.. وصرخت جوارحي بكلّ حرقتها:
- آه أبي.. قلت لك لا تذهب.
وقبل أن أستفيق، من شرودي وذهولي، وصل إليّ كلّ من (فاروق) طالب الجغرافيا، و(عبد الرّزاق) طالب الطّب.. وحدّثتهم باكياً.. فقالا لي صلّ على النّبي، واطرد هذا التّفكير.. وحتماً سيصل والدك بعد لحظات.
وأخذ (فاروق) يتكلّم، بألم ومرارة،
ونفاذ صبر.. قال:
- إلى متى سنظلّ صامتين؟!.. مكتوفي
الأيدي!!.. يجب علينا أن نفعل شيئاً.. إنّ من يقتلون هم أهلنا.. ومن يعتقلون هم أخوتنا.. والبلد يتدمّر.. وهذا البلد بلدنا.. فمتى نهبّ هبّة واحدة؟!.. ونقف جميعنا في وجه الطّاغية؟!.
لم أكن جاهزاً، لمثل هذا النّقاش.. عقلي، وقلبي، وروحي، ودمي، ليسوا معي، أنا أفكر بأبي، بما حدث معه، بمكانه الآن، و (فاروق) يحدّثنا، عن ضرورة مناصرة (الإخوان المسلمين).
ردّ عليه (عبد الرّزاق) ، الشّاعر النّابغة، وهو من كان يقرض الشّعر، وذهب معي إلى اتّحاد الكتّاب العرب، لأوّل مرّة، يوم التقيت بالشْاعر الفلسطينيَّ (عصام ترشحاني)، ولم يجد تشجيعاً من أحد أعضاء الإتّحاد:
- إذا الشّعب يوماً أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي
ولا بدّ القيد أن ينكسر
ونحن شعب لا نريد الحياة، ولا نريد لقيدنا أن ينكسر.. ولا حياة لمن تنادي.. فاصمت، ودعنا نذهب.. بعد ربع ساعة، سندخل مرحلة منع التّجول.
سألتني أمّي عن أبي.. هل لمحه، أو شاهده، أو كلّمه أحد؟!.. من أهل حارتنا.. أجبتها بالصّمت، والدّموع الحبيسة، وهرعت إلى غرفتي، هاربا من أسئلتها وأسئلة أخوتي.
- (ليتني ذهبت معك يا أبي، حتّى لا أجبرك على الذهاب، إلى معرض العمال في (باب أنطاكيا).. بل ليتني ذهبت معك، لأقتلَ معك إن قتلت.. أو جرحت
.. أو اعتقلت.. كنت جباناً، عندما لم أرافقك.. كنت حقيراً، كلباً، حماراً، عاقاً، أنانيّاً، وسخاً، ساقطاً، تافهاً، وغداً.. ألا لعنة الله عليْ، قبّحني الله.. ماذا أقول لأمّي؟!.. هل أحدثها عن قتلى (باب جنين)، أم عن قتلى (باب إنطاكيا) ؟!.. والحادثتان صارتا في لحظة تواجد أبي هناك.. يا ربي.. يا الله.. ألطف بأبي، وأعدّه لنا سالماً.. وخذ عمري أنا.. ذهب وضحّى بحياته، من أجلنا نحن عائلته.. ذهب لأنّه مفلس، لا نقود عنده ليشتري لنا الطّعام.. العمارة التي نشتغل بها، أوقفت الشّغل، فذهب يدبّر شغلاً مؤقتاً، في (الصّاخور)، البعيدة، من أجل أن آخذ منه ثمن دخاني.. ويحاً لي كم أنا ظالم وشرّير؟!.. أبصق عليّ يا قلبي، يا وجداني، يا دمي.. قسماً لو عاد، لأسجد عند قدميه، وأطلب منه الصّفح والغفران، سأقبّل يديه، اللتين حملتا ما يوازي حجارة الأرض، ليشيّد وطناً، ربّما قتل على رصيف له، مكسّرُ، متّسخ، حقير لا يليق بالزّواحف، ولا بالصّراصير، أبي الذي عمّر أعظم المدارس، وأجمل المعامل، وأرقى صالات الرّياضة، والأبنية الفاخرة، والمرتفعة، والجديدة، والجميلة، وبنى الحدائق الخضراء، أيضاً، والسّاحات الكبيرة، والمشافي، والأسواق، والمحلّات، والدّكاكين، والأرصفة، والجسور، والقناطر، والأسيجة، والأفران، والدّرج، والنّوافذ، والأبواب، والمدافئ، والمسابح، والمؤسّسات، والمراكز، عمّر كلّ ما تحتاجه المدينة.. واليوم ذهب ليعمل، لأجل ألّا يعجز عن تأمين حاجاتنا.. وأنا تخاذلت، ولم أذهب معه.. ولم أشاركه المصير).
- (قد يكون هو المعمار الوحيد، الذي يعمل في اليوم الواحد، يوماً ونصف.. كلّ المعمارين، ينتهي دوامهم في تمام السّاعة الثّالثة، إلّا هو، لا ينصرف حتّى السّابعة مساء، وأيام العطل الأسبوعية كان يعمل، وأيام الأعياد أيضاً، عيد الفطر، وعيد الأضاحي، وأحياناً في ليالي الصّيف، لا يتكاسل، ولا يشكو، ولا يملّ، وكلّ هذا لينفقه علينا، ولا يحرمنا من شيء.. يحاول ما استطاع أن يلبّي طلباتنا).
- (لو عاد سأقبّله من خدّيه.. أنا لا أذكر مرّة قبّلته من خدّيه.. لماذا؟!.. لا أعرف، لعلّي أخجل، كنت أكتفي في المناسبات العظمى، أن أقبّل يده.. لو جاء الآن، أو غداً.. لن أخجل، وأغير عليه لأقبّل خدّيه.. سأتوّقف عن آخذ نصف أجرتي
.. ربع الأجرة تكفيني، سأقتصد بنفقاتي
.. وأتوقّف عن شراء الكتب والمجلات.. وأكتفي بالاستعارة.. (عاطف) عنده مكتبة، أستعير منه.. و(مصباح) لديه مكتبة غنيّة ومتنوّعة، وهو لا يمانع في إعارتي.. وهناك مكتبة في اتحاد الكتّاب العرب، والأستاذ (سعيد رجو)، يعيرني الكتب المعروضة للبيع، فقط لي، لأن هذا ممنوع.. وعندي المكتبة الوطنيّة، ومكتبة المركز الثّقافي في (العزيزية)، ومدرسة(الكواكبي)،فيها مكتبة ضخمة عظيمة، والمسؤول عنها، ابن خال أبي، وكذلك (عبدالله)، زوج خالتي، عنده مكتبة مدهشة، وقد استعرت منها الكثير).
- (أقسم.. أنّي لن أغضبه طوال حياتي، فقط لو أنّه يعود.. سأطيعه، وأسمع كلامه، ولن أعصاه، أو أخالفه، لن أناقشه، أو أعارضه، أو أخالفه، أو أجاكره، أو أتحدّاه).
- (إن كسّر رأسي، أو ظلمني، أو ضربني
أو طردني، أو وبّخني، أو حقّرني، أو سخر منّي، أو سبّني، أو شتمني، أو صرخ بي، أو أكل حقّي، أو سلبني شخصيّتي، لن أعترض، أو أحتج، أو أزعل منه، أو أغضب، أو أثور عليه، أو أتمرّد.. سأقول له حاضر، أمرك، تكرم، كما تشاء، وتريد يا أبي.. فقط رضاؤك،
ومحبتك، وحنانك).
- (فقط لو يعود.. فقط لو يرجع.. فقط لو أراه.. فقط لو أسمع صوته.. فقط لو أشمُّ رائحته.. فقط لو أعمل معه).
- (ما أجمل سعاله؟!.. ما أروع ضحكته
؟!.. ما أحلى صوته؟!.. ما أبهى طلّته.. ما أعظم أوامره).
كنت أبكي.. كنت أتحسر.. كنت أتمنّى
.. كنت أحلم.. كنت أناجيه.. أناديه.. أتوسّل له أن يعود، ويسامحني.
وبين اللحظة والأخرى، كنت أدخل إلى الصّالون، لأطمئنْ على أمّي، وأخواتي، وأخوتي، الذين يبكون بصمت، وحرقة.
ليلة من أصعب الليالي أمضيتها، وأنا أدخن وأراقب، وانتظر.. وأرجو، وأتوسّلُ إلى الله.. وفجأة طرق علينا باب الدّار.. قفزنا جميعنا.. أنا وأمّي وأخوتي.. وراحوا أخوتي الصّغار يهتفون بفرحة:
- جاء أبي.. عاد أبي.
وفتحت الباب.. وإذ بعناصر كثيرة، من الجنود المدجّجين بالأسلحة المتنوّعة، بندقيّات، رشّاشات، (أربيجي )، (هاون)، مضاد للطيران، مضاد للدّبابات والمدرّعات، قنابل، حراب، رصاص كثير، قوانص، مناظير ليليّة، خوذات، مطرات، وأحذية عسكريّة ملوّثة، وخوذ لامعة، وكمّامات، وغيرها.
صاح بوجهي الضّابط الذي يرافقهم:
- افتح.. تفتيش.. ولا حركة.
واندفع الجند إلى الدّاخل، بلا إذن،
وبلا إعطاء فرصة للنساء.. وتوزّعوا، منهم، من تسلّقَ الدّرج، وصعد إلى السّطح، ومنهم من دخل غرفتي، وباقي الغرف الأربعة، والصّالون، والمطبخ، والحمام، والمرحاض، والزوايا
وما تحت الدّرج، طلبوا الهويات، ودفتر العائلة.. سألوا عن أبي.. وعن مكانه.. وسألوا عن أخي (رامي).. وكنت أجيبهم، والخوف أكلّ حنجرتي.. رباه!! ماذا لو وجدوا المنشورات السّرية الممنوعة لرابطة (العمل الشيوعي)؟!.
التي خبّأتها (لمصباح)؟!.
الوقت اقترب على منتصف الليل..
قلت لهم عن أخي (رامي) هو في أحدى قرى (عين العرب) معلّم مدرسة.. وعن أبي، أخبرتهم بأنه ذهب للشغل صباحاً، ولم يرجع.. في البداية، لم يصدّقوا كلامي.. ولكن يبدو أن بكاء أمّي، وأخواتي، كان له التّأثير.. ونظر إلى مكتبتي.. وسأل:
- ما هذه الكتب.. وعلى ماذا تحتوي؟!.
أخبرتهم، أنّها تخصّني أنا وأخي..
وامتدْت يد الضّابط إلى الطّاولة، والتقط الرّواية التي كنت أقوم بقراءتها
، وقرأ غلافها، (المصابيح الزّرق) ، (حنّا مينا)، فقال:
- أنا أحبّ (حنّا مينا)، سآخذ كتابه، مع بعض الكتب التي سأختارها، وسأعيدها إليك حين أقرأها، فأنا أقيم بالقرب منكم، في مدرسة (صالح حجار).
وما كان منّي، إلّا أن أقول:
- تفضّل.. خذ ما تريد.. أهلاً وسهلاً.
قال، وهو يختار أجمل ما عندي، من كتب.. (نزار قباني، ونجيب محفوظ)، و(إحسان عبد القدّوس)، وغيرهم:
- على والدك وأخيك، مراجعتنا في المدرسة، وأنا.. كان عليّ أن آخذك معنا، حتّى مجيئهم.. ولكن يبدوا عليك ابن حلال، وكرامة لوالدتك لن نأخذك.. وأنت المسؤول، إن لم يحضر أبوك
وأخوك.
تنفّسنا الصّعداء.. حمدت أمّي الله، لأنّهم لم يأخذوني.. وحزنتُ على كتبي.. وعلى الرّواية، التي لم أكمل قراءتها بعد، والتي اشتريتها مؤخراً، بنقود كنت بحاجة لها.. لكن، يعود ويلح عليّ موضوع أبي.. فليأخذوا جميع كتبي، ويعود أبي.. شكراً لأنّهم لم يفتشوا غرفتي جيداً.
كيف استسلمت للنوم؟!.. كيف غفوت؟!
.. وهل نمت حقّاً؟!.. وهل نامت أمّي؟!.. وأخواتي، وأخوتي؟!.. النّوم عمل غادر، وحقير، يأتينا دون استئذان .. يتسلّل إلينا غفلة.. ينقضّ على أنفاسَنا بغتة، خجلت من نفسي، حين استيقظت، وأنا على الأريكةُ مستلقي.. سامحني يا أبي، لأنِّي سهوت.. لن أخبر أحداً، عن رقدتي تلك.. سيكون هذا الأمر سراً.. ذنباً اقترفته، مثل ذنوبي الكثيرة، والتي لا يعرفها غيري.. ولم أبح بها أمام أحد.. حتى أخي (رامي)، الذي يعرف، معظم أسراري.. نهضت، اختطفت نظرة للساعة، المعلّقةُ على الجدار، لمحت وجه أخي (رامي) المبتسم، صورة رسمها له صديقنا (سعيد)، وهو بكامل أناقته، وعذوبته، وروعته.. شعرت بحاجة له.. ليته كان هنا، يشاركنا هذا القلق، والانتظار، المخاوف.
وأسرعت لأفتح باب دارنا، وألقَيّ نظرة على الحارة.. ومن بعيد، لمحت أبي، يقف مع السّمان (أبو علي).. صرخت بأعلى فرحتي:
- أمّي.. لقد جاء أبي.
وركضت نحوه، الأرض من تحتي، ترقص وتشاركني فرحتي، السٌماء من فوقي تزغرد.. الدّور، والجدران،
والأبواب المغلقة، والنّوافذ المتنهّدة..
الكلّ فرح، يبتسم، ويحمد الله.. وكانوا أخوتي قد تبعوني.. راكضين، وفرحين، ومبتهجين.. وصلت عنده، سلّمت عليه، أخذت يده، قبّلتها.. ولكنّي خجلت أن أنفّذ ما عاهدت نفسي عليه.. خجلت أن أحضنه، أن أقبّله من خدّيه.. أن أركع عند قدميه.
استقبلته أمّي.. غارت عليه، وقبّلته من خدّه.. لأوّل مرّة في حياتي، أبصر أمّي تقبّل أبي.. أمّي الخجولة، التي يعرف عنها، الجميع مدى حيائها وخجلها، كانت أشجع منّي.. بادرت، وبلهفة، خطفت منه قبّلة، رغم دموع عينيها التي تترقرق.
فهمنا، من أبي، أنّه اضطرّ أن يلجأ لعند خالتي.. قال:
- كنّا نعمّر في (الصّاخور).. وفجأة انهمر الرّصاص من كلّ صوب، ودوت الانفجارات، وبدأت المطاردات، ونحن لم نعرف كيف نحمي أنفسنا.. رميت نفسي من فوق السِقالة، زحفت إلى القبو.. اختبأنا قرابة السّاعة هناك، أنا والعاملين.. وحين هدأت الأصوات بعض الشّيء، تسلّلنا نحو الخارج، ومشينا (الحيط الحيط)، نريد الابتعاد عن المنطقة.. تركنا العدّة مكانها، وجبلة الإسمنت، وكلّ شيء، وهربنا، ثم افترقنا، وعادت الانفجارات تدوي، وأزيز الرّصاص، والقذائفِ تنهمر.. ركضت، واختبأت في مداخل العمارات.
جلست في غرفتي، سكبت قدحاً من إبريق الشّاي، وأشعلت سيجارة، وباشرت بكتابة قصيدتي:
(من يفتح الباب)؟!.
أكشطُ عن عينيّ الضّباب الدّبق
شمس الصّباح غاربة
في الفجرِ لم يجرؤ الدّيكُ
أن يحيّي الضّوء
والطّيور الغافية بأعشاشها
خشيتْ التّغريد والتّحليق
مغلقة كلّ الأبواب
النّوافذ مغلقة
وورود الشّرفات لم تشرب اليوم
تصطكُّ المدينة
ترتعدُ الطّرقات
والحدائق منتحبة
لا تبكِ أيّها الطّفل
خذ نهديّ أمكَ رغيفاً
خبئوا المحافظ يا أخوتي
المدارس غدت معتقلات
وأنتَ أيّها الأبُ البائس
ممنوعٌ من العملِ
اختبئوا في الرّكنِ
جهزوا بطاقاتكم الشّخصية
ودفتر العائلة
وكونوا شجعاناً أثناء التّحقيق
قد يفتّشون سروالكِ يا أمّي
وأنتِ يا شقيقتي عليكِ أن
تقبّحي شكلكِ
أخاف أن تروقي لأحدهم
نفايات الأمس
وكسر الخبز المجفّف
بلّوها بالماء ..
وسدّوا شدق الجّوع
كتبي التي أخفيتها
إيّاكم أن تنظروا نحوها
لا ترتعدوا …
هذا الرّصاص المنهمر
لم يقتحمُ صدورنا بعد
اصمتوا..
ها هو الباب يدقّ
يركلُ..
تطرقهُ أعقاب البنادق
ماذا انتابنا؟!
من يفتح الباب يا أبي؟!
من يجرؤ يا أمّي؟!
من؟!.. من؟!.. من؟!.

مصطفى الحاج حسين
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى