سمير لوبه - خميس وجمعة...

في صباح مثل تلك الأصباح التي يستبدل فضاؤها بنباح الليل شقشقة النهار، من نومه ينهض خميس ، لم نكن في حاجة الآن لذكر اسمه لكن على كل حال كان على خميس بسيوني أن يغادر ضيق شقته المبعثرة سريعا، في الحارة الناعسة تسابق خطاه المسافات فبلوغه الشارع الرئيس يستغرق ربع الساعة سيرا على الأقدام عبر الحارات والأزقة المتثائبة، يمر على جارته العجوز أم سعدية التي تفترش الأرض بجوار المخبز البلدي تبيع الخضرة، يلقيها بتحية صباحية؛ فتهيل على مسامعه الدعوات، يسعده دوما نداؤها له بصوتها المتهدج
- صباح النور يا (أبو جمعة).
يسرع ليلحق بحافلة نقل عام تقله إلى الميدان الفسيح الذي تتوسطه نافورة صامتة تطوف حولها السيارات مسرعة، إلى أحد الشوارع المنحدرة من الميدان يسعى فيبلغ محل عمله، خميس تخطى من عتبات الثلاثين تسعا واقترابه من بوابة الأربعين يؤرقه، ليس هذا فحسب بل دخله البسيط يجرف أحلامه إلى أعماق سحيقة في محيط مظلم عميق، كل صباح وفي ذات الطريق لا يشغل باله سوى سؤال واحد يطرق رأسه كل صباح .
- كم يوما تبقى لأبلغ يوم الجمعة فأنام ملء جفوني؟
في كل جمعة يستيقظ خميس مع الظهيرة، بالكاد يلحق الدقائق الأخيرة من خطبة الجمعة فلا تفوته الصلاة الوحيدة التي يصليها في الجامع ولكن الحقيقة أنه يصليها في الشارع على حصير مفروش أمام الجامع، وفي كل جمعة بعد انتهاء صلاتها يتسكع خميس في السوق تلتقط عيناه الأسعار الملتهبة وكالعادة ينتهي به الطواف عند ذات الدكان يشتري الفول والفلافل، وعند أم سعدية اعتاد الشراء ليس حبا في الجرجير ولكن من باب المساعدة لتلك العجوز التي تجاوره في السكن وترعى ابنتها الأرملة سعدية وطفلتها هناء ذات الأعوام الثلاثة، يبتاع منها:
- أحسن حزمة جرجير لـ ( أبو جمعة)
وأمام المخبز البلدي يقف في الطابور، يسعده أن يجد في بيته قليلا من الزيت يكفي طبق الفول، ينقضي يوم الجمعة المتكرر المشاهد فينام، وتبدأ الأصباح تجرجر سلسلة الأيام المتشابهة حد التوأمة، لا تحيد مشاهدات خميس عن تكرار عنيد صلد لا يتغير، وفي ليلة عاد منهكا وفي يده طعامه يجلس وحده يلوكه ببطء يتأمل حاله فيبكيه بكاء متهجد في جوف ليل يصلي ثم يعانق سريره لا توقظه الأحلام، يرى في منامه نارا ذات لهيب أخضر تلتهم هشيما هزيل العود مصفرا، تتضاءل أحجام البشر فيصيرون أقزاما يهرولون في الشوارع حفاة تتداعى البيوت أمامهم ركاما، هذه المرة يصفعه الحلم ينهض مفزوعا فإذا بشقشقة نهاره تملأ أصواتها فضاءه؛ ينطلق بين الأزقة والحارات يفكر في غرابة ما رآه حلما في نومه حتى أنه لم يلق التحية على أم سعدية التي انطلق لسانها يدعو له، يجلس في الحافلة يناديه الكمساري فينتبه ليجد الحافلة خالية من الركاب على غير العادة، ينزل إلى الميدان الذي غاب عنه طواف السيارات إلا من قليل لا يسرعن، تزداد دهشته، ينحدر للشارع بخطوات آلية اعتادتها أقدامه منشغلا في حلمه فلم ينتبه لخلو الشارع من الناس، وما أن توقفت أقدامه أمام محل عمله فإذا بالأبواب مغلقة، تدور عيناه تنظر للشارع في عجب فينتبه
- يبدو أن اليوم جمعة
يعود أدراجه ماشيا في الشوارع الفسيحة الخالية إلا من سيارات اصطفت على الجانبين في سبات عميق، يفكر خميس في حلمه، لم يشعر بحرارة الشمس المتزايدة ولا المسافات الطويلة حتى وجد نفسه أمام الجامع، والعامل يكنس الشارع ثم يفرش الحصير فأقبل عليه يشاركه عمله، يدخل خميس المسجد الذي لم يره من الداخل سنوات طوال، يتوضأ يركع ركعتي تحية المسجد، يجلس على سجاده الأخضر يركن ظهره للعمود الرخامي الرطب يمدد رجليه يشعر بالراحة تسري في بدنه، تنبعث في الجامع روائح البخور الطيبة، تطوف عيناه تتأمل زخارف السقف الملونة، تنساب لمسامعه آيات الذكر الحكيم قبل الأذان تطيب خاطره، تحلق روحه تدور في ساحة الجامع مثل درويش من المولوية؛ ينشرح صدره، وعند أم سعدية بعد انتهاء صلاة الجمعة تقبل عليهما سعدية بوجه باش تحمل شنطة السوق بيد وبالأخرى تحمل هناء فيمد خميس يديه للصغيرة فتلقي نفسها في حضنه تتوسد صدره يضمها إليه بحنان ينظر لسعدية الباسمة في خجل، يرفع الصغيرة بيديه لأعلى يتأمل وجهها يفتر ثغرها له؛ تعود لوجه خميس البسمة بعد غياب، يجلس القرفصاء بجوار أم سعدية يهمس لها؛ تنظر لسعدية التي ابتسمت؛ تتهلل أسارير العجوز تطلق الزغاريد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى