د. سيد شعبان - التي نقِضَت غزلها!...

منذ فترة لاحظت أنه ساهم؛ فلا يشارك في حوارنا، عيناه زائغتان لا تستقران، كأنما هناك هول أو فزع يطارده، جهدت أن أخفف عنه، يشعرك بأن نهاية العالم الآن، غريب الأطوار، حاولت النأي عن عالمه، يكفيني ما بي، المرء يحتاج العزلة؛ ينظر في بعض أحواله، الهموم لا تترك لي منفذا، ضيق اليد، الأولاد ينهون أعمارنا، يحتكرون أموالنا، ينظروننا مصرف مال يلبي ما يحتاجون إليه، بل يحاولون سرقة ذكرياتنا.
كثيرا ما تخففت من متابعته، كدت ألتمس لنفسي النجاة من متابعة شئون الآخرين، العمل في المدرسة لا تنتهي حكاياته؛ معلمون يعرضون مادة درسهم؛ جلبا للدروس الخصوصية، مباراة تنعقد كل حصة، أشبه بساحة حرب.
دفعتني الشفقة اليوم للجلوس معه، حب الفضول كان الأهم، من العجب أنه رغم انطوائه كان يأنس بالحديث معي، وجد في حسن الرأي، أتصنع الحكمة، أغلف مقالتي ببعض قرآن أو مأثور من بيان.
في أحيان تكون السياسة حديثنا، بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوربي، أزمة الغلاء، خراب "داعش"، حصار "الفلوجة"، البيض والسود في بلد العام "سام"، اللحوم وبدائلها، نسيت أنني مثله له امرأة، فقط هو زاد علي بواحدة، له مطلقة ومعه أخرى، الحديث العام يجتر الهم الخاص، هل أنا بحاجة للثرثرة فوق النيل؟ "أردوغان" وحكاياته التي لا تنتهي مثل الشاطر حسن، ربما التمس فيه المتعبون المخلص، العالم منشغل به، الجوعى يموتون، العراة يقتلهم حر الصيف، حديث العسكر وألعابهم المتكررة، الوطواط يحسن دائما الظهور ليلا.
هل تدق الحرب الثالثة طبولها؟
العوامة مائلة، رست في باطن النهر، تحيط بها طينة الذي يوما يفيض بالخير، النساء لا يغيرن ملابس الشتاء، لهن رائحة الصوف المبلل بالماء، الشمس وحدها تثير الدفء مع قطعة من لحم، سمعت تلك الجملة من زميل لم يتزوج بعد، قهقه الجميع، هو مشغول عن حوارنا، ينظر في أسف ناحية موضع قدمه.
بادرني قائلا: طلقتها !
لم أتفاجأ بكلمته تلك، شواهد حياته تدفع لهذا، كشف كل شيء أمام زملائه، كان يتلذذ بأن يكون الضحية، يراها ظالمة له !
وهل هناك من يتهم عقله؟
كلنا يثني على نفسه، المبررات معدة، والمنطق تلوي عنقه الترهات، بدأت أستدعي مواقفه، أفسر كلماته، قد يكون تجنى عليها، كان يشغل نفسه بالطالبات المتفوقات حين تتعرض واحدة منهن لمشكلة ما، يقوم بدور الإخصائي الاجتماعي، نلتمس فيه عاطفة غالبة، يقص علي نتفا من حكاياتهن، لم يطلب منه أحد أن يحمي تراب الوطن!
يمثل دور الفدائي، انشغل عن زوجه، الثلاجة دائما ممتلئة باللحوم هكذا يتباهى أمامنا.
كل الجمال في هذه وتلك، إلا هي دائما مريضة، يفتعل الشجار معها، الليلة فقط بانت على حقيقتها؛ هكذا أخبرني، ألقت بالأطفال الثلاثة إلى الشارع في ليلة رمضانية، كانوا يجلسون أسفل البناية، مثل أيتام في ليلة ماطرة، لم أتمالك الدموع ملأت عيني، ثم بعد؟
البؤس باد على أطفاله، هنا سألته:
أليس من حقها أن تعيش حياتها؟
أنت تزوجت هل تبقيها خادمة لأولادك !
لم يجب. ألم تتزوج؟ تركتها وبحثت لنفسك عن أخرى، هيهات يصفو الوداد يا عزيزي!
ما كان أصبرك عن المرأة!!
أحسست كأن نصلا قد غرس في قلبه، تأوه في لوعة الثكل والحرمان، أخبرني بأنه يتيم لقد هجرته الثانية فلم تطاوعها نفسها أن تبقى أسيرة أولاده، ظنت أنها حين تغاضبه؛ يرمي بهم ويتدله هياما بها، وقفت أمامه والحيرة تضرب أوتادها، أماتت المعاني الإنسانية تحت وطأة التوحش؟
الحزن يخيم على وجهه، لا يترك له منفذا ليعبر به بحر أحزانه، أي قلب تحجر فلا يلقي بالا لطفولة تيتمت وأبواها ما يزالان في غيهما؟ !!
التمست أن يعطيني رقم هاتفها، تمنع في إصرار، تأبت عليه نفسه أن يحدثها غيره، أفهمته أن لا حاجة لي بها، مازحته، لكن التوجس والظن يكادان يلفان عالمه، لم أشأ أن أرى فيه غير رجل فقد ظله !!
مضيت والأفكار تنتهبني، أي امرأة تلك ؟
هل هي عاقلة؟
ربما تعاقبه، ولأي غاية تلقى بأطفالها وتبيت خلاء من أمومتها؟
هل تأنس بزوج غيره وتدع قلبها هناك؟
تداعت إلي تلك الخواطر حينما تركته، لم أستطع أن أقدم له غير كلمات التصبر، كنت مثل من يقدم الدواء لمعتل يوشك أن يبلغ نهايته، لكن شيئا ما يشغلني؛ ماذا لو رأيتها؟
ثمة كراهية سأبديها تجاهها سأطلب منها أن تأتي- بالتأكيد ليس معي- لتلقي نظرة على رجل فقد وجوده، تلبس ثياب فتاة في العشرين من عمرها، تصبغ شعرها بحنة "كستنائية" كأنما تزدان لحفل زفافها، قص علي تغير حياتها، شيء واحد لفت نظري فيما قال:
من أين له تلك الأخبار؟
يبدو أنه يتبعها، يدور حولها مثل طائر النار فيوشك أن يهوى فيها، يا للقدر يعاقبه بها، يلتمس لنفسه القيد الذي يكبله!
مثل نبات عباد الشمس الذي يزرعه أبي، أتبعه في دورانه.
تخيلته وهو واقف ببابها، يطالع البناية، بل ينتظر خلف شجرة " الفيكس" كأنما هو شرطي سري، يمعن في كل شيء، يترقب خطوها، الأبعاد تتماهى حين تقع عينه عليها، هي غير منتبهة إليه.
أما كان له في الثانية غناء؟
كثيرا ما حدثنا عن أنوثتها الطاغية، العطر "الباريسي" الذي يوصي لها به، حين قامت الثورة أطعمها لحم الغزال، بل ينتشي طربا حين يردد بعض كلماتها-أسير هواها- كل النساء قاصرات دون ميسها وقدها، أشفقت على نفسي، أي حظ لم يوات فلم أصب مثلها، أمنية شيطان، أدري، وهل حظ النفس إلا من فعله، تعددت بي التعلات على المنى، كثيرا ما تمنيت أن يقص بعضا من حكاياته، الحوار يجمل حين يبالغ في السرد، أعلم أنه حكاء ماهر، لكنه غفل كثيرا عن حذائه الممزق، لربما غفلت عن هندامه.
لم يعد ذلك الرجل الذى التقيته منذ خمس سنوات، انقلبت حياته، بل صار حطام ظل مهترئ، تفعل به المرأة كل هذا!
كانت له عنزات وبعض تجارة يعالجها، حين ينتهي من يومه الدراسي، يتاجر في البقول، يحضر التمور والعسل الشهي من بلاده، قالت عنه زميلة ذات مرة:
إنه أشبه بساحر، غامض مثل حامل أسرار الملك.
في الحقيقة اعتقدت إنه جني؛لطول حكايات جدتي عن هذا العالم المليء بالأساطير.
لم يعد يشغله غير أن يقص حكايته لكل من يجلس إليه، بدأت أخاف عليه وأحيانا منه، ربما يفقد ذاكرته، تنتهبه الحياة فتتركه وترمي به بعيدا مثل حجر في طريق المارين، من يخبرها أن هناك أطفالا يقف ببابهم الغول يوشك أن يقتلهم؟
انتبهت من خيالاتي، تصيح بي سأترك البيت، المعيشة لا تطاق!
انتبهت مذعورا، بل وقفت أمامها مثل طفلها الصغير، ما تريدين؟
كل الحكاية تمثلت لي في كلماتها، أسرعت، انتبهت إليها!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى