ظافر الجبيري - زميل فرناندو...

لم ترسل شركةُ المصاعد المهندسَ الذي كانت ترسله كل مرة ،كان فرناندو مشغولا في عمل آخر ، وكان لابد من إرسال غيره لإصلاح مصعد الإدارة . (فراندو) ( هكذا استقر اسمه عند الفرّاشين كبار السن) ،كان وجها مألوفاً للكثيرين ،حتى لكبار السن ..يقدّمون له الشاي ، و يمازحونه بأحاديث ثقيلة عن النساء تنتهي بضحكات وتعليقات ... ما يلبث (فراندو) أن يغادرهم تاركاً الشاي إلى نصف الفنجان متهماً أولئك الشيبان بالجنون ..!

أصلح المهندسُ الجديدُ المصعدَ في زمن وجيز .. وصعد به إلى الأدوار العليا حيث المشرفون يتحدثون كثيراً عن إصلاح التعليم ..

دخل الغريب المصعد ليجد عدداً من المشرفين متجهين للمصلى في الأعلى ..رأوا أنفاً عريضاً يتوسّط الوجهَ الدائريًّ الداخلَ عليهم بعينين ضيقتين وشعيرات مبعثرة أسفل الذقن .. ألقى عليه السلام آن دخوله.. ردًّ أكثرُ من واحد بصوت خفيض ، وامتدت يد الرجل مصافحًا لهم فتشاغل الأول بجواله ،ثم حوّل نظره نحو المرآة المليئة بذكريات وهموم المراجعين ،ومدّ صاحب اللحية يده بفتور ونظرة سريعة نحو العامل ، وحرك السواك بقوة بين شفتيه ..أما الثالث فقد كان حليقاً تزيّن حركةَ يدِهِ مسبحةٌ فضيةٌ ثمينةٌ ، قبض عليها بيُسراه، وصافح العاملَ صاحبَ اللباس الأزرق ..

شدّ صاحب الذقن (العارض الخفيف) على يد الرجل : هواريو؟ لتأتيه على الفور:
" فاين ثانكيو " مع هزة رأس وابتسامة هادئة.
مع رنة جرس الوصول ، وانفراج الباب إلى جهتي اليمين واليسار ..خرجوا جميعاً.
كان المهندس قد جاء قبيل ساعة بديلاً عن زميله فرناندو ، كان سعيداً بتوفيق الله ،إذ انتهى من إصلاح المصعد وقت الأذان،
الذي لم يصافح انسل باندفاع نحو المصلّى ، بينما وقف الثلاثة بانتظار الإقامة ، وفجأة ندَّ صوت صاحب اللحية من بينهم :

-" يا إخوان هل نعيد الوضوء؟

رد صاحب المسبحة على الفور:

-"هل أحدثتَ في المصعد ؟" وبغمزة نحو المشرف الآخر: "أكيد من مصافحة هذا الأمرد!"

وقهقه عالياً بافتعال ، لتتلقاه عينا الملتحي بنظرة زاجرة ، بينما تبسّم الآخرُ بشماتة، فعاود الكلام بصوت أخفض وجديّة مهزوزة من سخرية الحليق :"سلّم علينا هذا وكما تعرفون.. المشركون نجس ..."

أحدثتْ كلماتُه جديةً مفاجئة في نظرات المشرفَيْن أمامه ، ليجد صاحبُ المسبحة فرصة مناسبة للقول :

" ذكّرتنا والله.. جُزيت خيراً "ليغادر مغمغماً بكلام سمعا منه "حسبي الله" وغاب تحت لوحة: دورات المياه !

لم يجد ذو العارضِ الخفيف بُداًّ من القول ، وقد صار وحيداً مع الملتحي :
"المصافحة ليست من نواقض الوضوء ، إلا إذا .." قاطعه بحدة :

" أرجوك! انتهى المزاح ، هذا من صلب الدين ولابد من الـعلم به".

-"طيب ، هذا رأيي ، ولكن لا داعي للمبالغة و التعالي على الآخرين مثل صاحبنا الذي أدار وجهه عن المصافحة "

مسّد لحيتَه التي ما زالت تلمع خلالها قطراتُ ماء.. وشعر بثقة أكبر:
" يا أخي ، ليس تعالياً ، ولكنه الدين ، يجب أن يشعروا بعزة المسلم وذلّتهم في أرضه .. نعم .." ثم حرك السواك في فمه يمنة ويسرة ..

حاول الآخرُ اختصارَ الحديث لاقتراب وقت الصلاة :

" يبدو لي أنك وضعتَ الدليل في غير محله " و أكمل بودّ واضح :" لاحظ ،يا أبا معاذ ، أن النجاسة معنوية ، وليست بالملامسة، وإذا أردتَ إعادة الوضوء، مثل صاحبنا فأنت وما ترى ، لكن ،الآن صلاة .. وللحديث بقية "

ومضى إلى المصلى . بينما انقبض وجه الملتحي لدى سماع كلمة " معنوية " ، وشعر أن هذا الزميل يتعالَمُ عليه ، ويُدخل على الحديث كلماتٍ لا داعي لها ، نظر إلى الصفوف التي التأمت للتو ، ثم لحق بصاحب السبحة الفضية.

بعد قليل خرج من دورة المياه ثلاثة ، تبدو عليهم سيماء الوضوء : الملتحي وحليق اللحية وزميل فرناندو ، كان الأخير يحملُ في يده منديلاً بلون أبيضَ ناصعِ يقلّبه على كفيه ، ويمرره على مقدمة رأسه ، ثمّ دخل المصلى مُشمِّرَ اللباس عن ذراعيه وأسفل ساقيه .. كان المشرفان ينظران لبعضهما البعض باستغراب ، وقد قرأ الملتحي بطاقة التعريف على صدر العامل ،كان شعار الشركة واضحاً والاسم بلغتين أمكنه قراءتَهُ : محمد أمين ميجواري.

دخل الثلاثة في صلاة الظهر، وبسمل ميجواري وانضم إلى الصفوف بهدوء مغتبطاً بانتهاء مهمته في الإصلاح .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى