كاهنة عباس - الازرق كما أصفه

الأزرق الذي سأصفه لا علاقة له باللون المعهود فاتحا كان أم داكنا، ذاك الذي تدركه الأبصار من أول وهلة.
الأزرق الذي سأصفه هو أزرق متصل بذاكرتي ، بقصتي، بإحساسي.
هو غياب الحدود في عيني المحبوب، وقد بدت لي زرقتهما الرمادية بعيدة مثل الأفق، تخفي أسرارها بين طيات امتدادها .
الأزرق الذي سأقوله هو بساط غطى مساحة ذلك الباب، فبان تحت أشعة شمس متوسطية كإشارة سماوية انتشرت بقاعها على تلك المباني وجدرانها وأسطحها البيضاء في تلك المدينة الساحلية المعلقة بين البحر والسماء التي اتخذت اسم الزاهد المتصوف سيدي بوسعيد .
الأزرق الذي سأقوله يتقاطر حبرا ويتسارع مع وتيرة دقات قلبي فينزل حرفا حرفا ليرسم خارطة الورق ويحولها إلى حكاية تروى .
الأزرق الذي أقوله، هو من اختراعي الشخصي، من وهمي الذي لا ينضب، غريب بل شديد الغربة ملتحف بوشاح الليل منسحب لتوه مثل انبلاج الفجر ، وهو متغير في كل وقت ومرحلة وزمن ويوم وساعة ولحظة.
الأزرق الذي سأقوله ، قد يكون في صفاء تام فيضحى لازوردي، وقد يتخذ اللون الفيروزي ،وقد يقترب من البنفسجي ، وقد يميل إلى السواد حسب تواتر الليل بالنهار وموقعه من الجهات وأحوال السماوات وتغير الفصول أو حين يتقمص بعض الأشياء و الأجساد .
فهل من سحر أكبر من تغير الأزرق إلى أكثر من إمكانية ؟
وهل من حجة أكبر من أن الصورة وليست اللغة هي القادرة على إبرازه ؟
من قال لكم أن الأيام متشابهة لونا وحالة وشكلا ، من قال ؟
فاللغة ليست بقادرة على وصف تحولات الألوان وإمكانياتها اللامتناهية بالدقة الكافية ، هي عاجزة عن أن تنقل لنا صور العالم ، لاقتصار دورها على خلق المعنى لحاجتنا إليه ، كي نستمر .
تحولات الأزرق لا يمكن حصرها ولا عدها ولا تذكرها بالتفصيل، إنها خارج مناطق الشعرية وخارج كل قول وكل وصف ومع ذلك فهي تأصيل ما كان وما وقع.
أحلامي كانت زرقاء لاتصالها بالليل ،كانت تطمح إلى بلوغ الأبدية ، تهجر الأرض بلونها البني توقا إلى ألوان السماء .
أحزاني كانت زرقاء مع ميولها إلى السواد لاختفائها عن الأنظار وبقائها شبيهة بالظلال التي لم تكتمل ألوانها .
ما كنت أصبو إليه هي الهجرة إلى الأزرق لبعده عني، عن أفقي، عن مكاني وزماني، كل ما لم أنله كان أزرق، بعيدا شبيها بالمستحيل، جميلا مثل السماء، هادئا ساكنا مثل البحر في غياب الرياح.
لذلك، فالصمت والأزرق متوازيان ، متواصلان ، يشيران إلى الامتداد ، إلى المطلق ، إلى اللامتناهي.
إذ يرمز الأزرق إلى عالم الأرواح إلى الماورئيات ، إلى الجانب الخفي السري للوجود ،فهو لون السماء في تقلباتها حسب الأوقات والأزمنة .
إذا ما حاولنا ترجمة الأزرق إلى حركة معينة، ستكون السمو والاعتلاء ثم الانحدار نحو الظلمة.
وإذا ما ترجمناه إلى لحن، سيكون قريبا من أنغام ناي شرقي بما يوحي إليه من حنين وانسياب وانسجام أو إلى سنفونية "أداجيو " لجون سيبسيان باخ وما تعبر عنه من شوق لما هو "ترسدنستالي " أو سنفونية لتشكوفسكي " كونسرتو عدد 1" وما ترويه عن تيه الرياح وجماليتها .
فالأزرق كائن غريب ، ما انفك يكتب الزمان المنسحب المنقضي بحبر متأهب للغياب ،هو الوجه الظاهر للحياة الذي يخفي العدم .
لذلك يذكرني الأزرق بالبحر بالبكاء بالنسيان بالسفر بالغربة بالارتياح بالسلام بالحنين ، بكل ما أعرفه وما أجهله . يذكرني أيضا بروحي، التي من المرجح معرفتي بسرها منذ الأزمنة الغابرة .
ماذا لو طلب مني ، الفاقد للبصر، أن أصف له الأزرق خارج منطقة ذاكرتي ؟
سأقول له ، إذا أردت إدراك الأزرق باللمس فهو اللامحدود ، وإذا أردت إدراكه بالسمع فهو كل لحن يرتقي بالحزن إلى مستويات أخرى من الوجود، أما إدراكه بالشم فإنه يقترب من رائحة زهر الخزامى.
فاعلم أن الألوان لا تسكن أبصارنا فحسب بل قلوبنا مثل شدو الطيور الذي ما انفك يتغنى بالعالم.
هل توجد علاقة بين أصوات الحروف والألوان ، ألم يكتب الشاعر الفرنسي أرتور رامبو قصيدته الشهيرة "الحروف الصوتية" ليصف كيمياء العالم وأطوارها حرفا ولونا وصورة ورمزا .
اقتداء به، أرسل لك هذه الكلمة ، فاعد ذكرها مفردا ثم جمعا ، على النحو التالي : الشاطئ ، الشواطئ ، الشاطئ ، الشواطئ، ستذكرك بحس ارتطام الموج بحافة البحر : إش ، طا ، إش ، طا ، إش ، طا فتوحي إليك بزرقة البحر المنهارة وهي تخر ساجدة بعد تيه طويل برا وجوا وبحرا ، إش ، طا ، إش ، طا ، الأزرق المنهار كان في الأصل شبيها بالدمع ، بالمطر قبل عودته ، إلى الأرض ،إلى الماء.
ذلك هو بعض قلته في الأزرق ذاكرة وإيحاء، لأن الأزرق كما قال الفلاسفة، مثله مثل بقية الألوان : لا يوصف.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى