مصطفى الحاج حسين - طاسةُ الرّعبةِ)..

كنّا عائدين، أنا وأبي من الشّغل، ونستقلّ (باص)، (صلاح الدّين)، وعند (الأعظميّة)، وجدّنا خطّ السّير، قد أغلق، ومنعوا وسائل النّقل، وحتّى المشاة، من الدّخول.. نزلنا من (الباص)، واستفسرنا عن السّبب؟!.. قيل لنا أنّ (الإخوان المسلمين)، قد قاموا بتفجير (المؤسّسة الاستهلاكيّة)، ولقد أسفر هذا التّفجير، عن قتلى وجرحى.. والآن يقوم الجيش، بتفتيش المنطقة، و تمّ منع أيّ إنسان، من الدّخول أو الخروج، إلى (صلاح الدّين)، ريثما ينتهي تفتيش المنطقة.

كان تجمّع النّاس هائلاً، وقت انصراف العمال، والموظّفين، وطلاب المدارس،
والكلّ يريد العودة إلى بيته، ومعظمهم
متعب، وجائع، ومنهك، لم أعد أشاهد أين صار أبي، بسبب الازدحام، وعلى الطّرف الآخر، من الشّارع، لمحت (أبو أحمد)، ابن خالة (سعيد)، الذي لا أحبّه، ولكنّه عنصر أمن، في فرع المخابرات العسكريّة، يخدم في فرع (إدلب)، قلت لنفسي لعلّي أدخل حارتي بواسطته، ذهبت نحوه، سلّمت عليه، ووقفنا نتحادث، وقال لي:
- إن الوضع في (إدلب)، أكثر تعقيداً من وضع (حلب)، لي ثلاثة أيّام، في الفرع، لم أعرف فيها، ساعة نوم واحدة
.. وكنت لا أصدّق متى سأصل إلى البيت، حتّى أرتمي على سريري وأنام.
توغّلنا.. إلى الحارات الخلفيّة، وأينما رحنا، كنّا نجد تجمّع الناس، يزداد عددا و ازدحاماً، حيث النّساء، والرّجال، والصبايا، والشّباب، والفتيان، والفتيات، والأطفال، والطّفلات، والمسنّون، والمسنْات، وحتّى بعض الأحصنة، والحمير. وأقفاص الدّجاج.
ومعظم العالقين، كانوا يحملون بأياديهم الأكياس، المختلفة الأحجام والألوان، فيها من الخضار، والفواكه، والمواد الغذائية، واللحوم، وكلّ ما يلزم للبيوت.
وقفنا عند مفرق، يؤدّي إلى دارنا، بشكلّ مباشر، مفرق طويل، ينتهي بحديقة، ذاهبة إلى (ملعب الحمدانيّة)، وبعد هذه الحديقة، الطّويلة، تأتي حارتنا.. وقفنا مع النّاس، ننظر داخل المفرق الفارغ، إلّا من بعض العناصر المسلّحة، والمتّخذة دور المراقب، والمتأهّب، لأيّ طارئ مفاجئ، ولذلك تجد الأصابع، فوق أزندة البنادق، والرّشاشات، والقوانص، وأسلحة (الأربيجي)، وعيون المدجّجين بالأسلحةِ، تمشط الأبنية، من فوق إلى تحت، حيث الأبواب، والمداخل، والزّوايا، والمحلّات، والدّكاكين المغلقة.
حلّ المساء، وتورّمت أقدامنا من الوقوف، وغاب أبي عنّي، ما عدت أعرف أين هو، ومع من يقف؟، هو متعب مثلي، بل أكثر منّي، فهو طوالَ اليوم، كان في عراك مع الأحجار الثّقيلة، واللئيمة، ولا بدّ أنه جائع مثلي، ومتلهف على كأس، من الشّاي السّاخن.
ابتسمت، وقلت ممازحاً، (لأبو أحمد)، الواقف جنبي، والشّاحب وجهه، والمجهد من قلّة النّوم:
- بما أنّك عنصر من الأمن.. قل لهم أن يسمحوا لنا، بدخول حارتنا.. والوصول إلى بيوتنا.. لقد تعبنا، وتكسّرت أرجلنا
من الوقفة الطّويلة.
وقبل أن أسمع ردّه، وكانت ظلال ابتسامتي، تلوح بعد على شفتيّ.. وإذ بي أتفاجئ، بعسكريّ من الذين يسدّون علينا الشّارع، ليمنعونا من دخوله، والتّوجه إلى بيوتنا.. يتقّدم نحوي، بوجه عابس، مصفرّ، فيه من اللؤم الشّيء الكثير، بيده رشاش، يحتضنه، وأصبعه على الزّناد.. خفت أن يضغط عليه، وحين وصل، سألني باستغراب:
- لماذا تضحك؟!.
انتحرت ابتسامتي، تقلّصت شفتايّ،
تجمّدت قسمات وجهي، رمشت عينايَ بخوف، وحرقة، واضطراب، وقلت، بصوت فقد حنجرته، غار لسانه، جفّ لعابه، وشلّت حباله الصّوتيّة:
- أنا.. أنا لم أكن أضحك!.
تفرّس وجهي بشدّة، عيناه نهشت عينيّ، تأمّلني بقوّةٍ، تفحّص مخاوفي،
تشمّم أنفاسي بعنجهيَّة، وصاح:
- أنا رأيتك، وأنت تضحك يا حيوان.. لماذا كنت تضحك؟!.. وما الذي يضحكك؟!.
يبست الأحرف في فمي، تقصّفت ركبتاي، وهربت منّي قدماي، تساقطت
من علياء قامتي.. بكت من تحتي الأرض، وانكمش الرّصيف على نفسه، حتى الغبار لعق حيرتي، أجبت:
- أنا كنت أمازح صديقي، وهو عنصر أمن، في (المخابرات العسكريّة)، يخدم في فرع (إدلب).
- أين صديقك هذا؟.
التفتُّ لم أجده، بحثت عنه نظراتي،
كان قد غاب، اختفى، طار، توارى، ابتعد، هرب، ولّى الأدبار، نفد بنفسه،
تخلّى عنّي، تخلّص منّي، قلت بيأس:
- كان هنا، يقف معي، وكنّا نتحدّث.
الغضب بوجهه، وبصوته، يزداد ويتضاعف، ويعلو، ويزداد حدّة، وقسوة، وعنف:
- أين هو؟!.. وبماذا كنتما تتحدّثان، حتّى تضحك، تلك الضّحكة الوقحة؟!.
بماذا أجيبه؟!.. ماذا أقول له؟!.. هل أخبره بأنّني كنت أسخر منه، لأنّه عنصر أمن، في (المخابرات العسكريّة)، ولا يستطيع الوصول إلى بيته؟!.. وهو منذ ثلاثة أيّام، لم يذق النّوم، بسبب دوامه في فرعه، (بإدلب)؟!.
وتقدم منّا، من هو أشدّ أهميّة من هذا العسكريّ، وأعلى مرتبة، فهو برتبة (رقيب)، الرّتبة واضحة على زنده، والإشارة التي تشبه رقم ثمانية، بارزة بشكل جليّ، ولم يكن يحمل رشّاشاً، إنّما يضع مسّدساً حربيّاً على خصره، وفي يده (لاسلكي)، جهاز تواصل مع قيادته.. سأل عنصره:
- ما الأمر؟!.
- حضرة (الرّقيب).. هذا.. كان يضحك ويسخر منّا.
يا الله!!.. يا ربيّ.. ماذا يقول هذا العسكريّ، الغبيّ، والبهيم، و غير المتعلّم، جاهل، أحمق، كيف فسّر ابتسامتي؟!.. أنا كنتُ أبتسم فقط، وهو يدّعي أنّني أضحك!!.. وهل الضّحك ممنوع، صار عندنا؟!.. من حقّي أن أضحك، وقت أشاء، وابتسم متى أردت، وأبكي كلّما أحسّست بحاجة للبكاء.. من قال له إنّي أضحك منهم؟!.. كيف عرف؟!.. هذا يتخيّل، ويحلّل الأمور كما يحلو له؟!.. رباه أنقذني!!.. رباه ساعدني!!.
- سيّدي (الرّقيب).. أنا كنت أمازح صديقي، وهو من (الأمن العسكريّ)، ابتسمت فقط.. أقسم لك، لم تكن ضحكة، بل ابتسامة، ربما كانت واسعة،
ولكن لا علاقة لها بكم، أنتم أبطال الجيش العربيّ السّوري.. أنا معكم، وأنا من أنصاركم.. وعمّا قريب، سألتحق بخدمة الجيش الباسل، وأكون وأحداً منكم، أدافع عن الوطن، المقدّسِ.
قال (الرّقيب) باقتضاب وصرامة:
- أعطني هويّتك.
وبسرعة، مدّدت يدي على جيب بنطلوني الخلفي، فتحت زره، وأخرجت الهويّة، وناولتها لسيادة (الرًقيب).
تناولها منّي، تأمّلها بعناية، قرأ إسمي، واسم أبي، وأمّي مع كنيّتها، ثم كنيّتي، ومكان ولادتي، ثم تطلّع بي جيداً، وقال:
- هل أنت من مدينة (الباب)؟!.
- نعم.. ولكنّي أقيم هنا، في (صلاح الدّين).
- من مدينة المجرم، (إبراهيم اليوسف)
؟!.. لعنة الله عليك، وعليه.
- سيّدي أنا من (الباب)،وهو من (تادف)
.. ثمّ أنا أكرهه، وأكره كلّ (الإخوان)..
ثمّ قال لي بحدّة، واحتقار:
- وما الفرق بين (الباب، وتادف)؟!..
المسافة التي تفصل ما بينهما، هما إثنين (كيلو متر) فقط؟!.. أتظنّني لا أعرف؟!.. أنا أعرف البلدين جيٍداً.
قلت.. وقد ظننت بأنّي أمسكته، من خلال كلامه:
- ها.. أنت تقول البلدين بنفسك، وهذا يعني أن (الباب) غير (تادف).. ثمّ سيّدي، هل علينا نحن، أهل بلدته، دفع ثمن جريمته، النّكراء تلك؟!..نحن لا علاقة لنا به، ولا بفكره الرّجعيّ والمتخلف.
الجموع المحتشدة، والتي يتضاعف عددها، وهي تراقب، وتنظر إليّ بشفقة
.. وهناك بعض من يتجرّأ، ويقترب، ويحاول أن يسترق السّمع علينا.. وأنا في كلّ ثانيّة، أبحث بين المحتشدين عن أبي، الضائع وسط هذا الازدحام، أو عن (أبو أحمد)، الهارب منّي.
أشعل الرّقيب مصباحه الصّغير، وجّه ضوءه على هويّتي، التي ما تزال بيده.. حدّق بصورتي جيداً، ورفع نظره وتفحّص وجهي.. ثمّ عمد لمسح هويّتي
، بقماش سترته العسكريّة المموّهة.. ثمّ عاد ليتأمّل الصّورة.. وقال:
- هناك فرق، بين صورتك في الهويّة، وبين صورتك الحقيقيّة.. في الهويّة لك شامة على وجهك، تحت عينك اليسرى،
وأنت في الحقيقة، ليس عندك شامة،
كيف هذا؟!.. فسّر لي الأمر.. هل هذه هويّتك حقاً؟!. أم أنها مزوّرة؟!.
يا ربي!!.. يا إلهي!!.. يا محمّد!!.. يا سماء!!.. يا أنبياء!!.. ماذا يحدث لي اليوم؟!.. من ينقذني من هؤلاء الأغبياء
؟!.. الحمقى؟!.. القساة؟!.. المجرمين؟!..
الكلاب؟!. الأوغاد؟!.
- هذه النّقطة موجودة على الهويّة، منذ أن أخذتها من شعبة (النّفوس).
نادى سيادة (الرّقيب)، العسكريّ، الذي كان يحقّق معي، قبل مجيئه.. و كان، وما زال يقف، بالقرب منّا، يراقب ما يدور، من تحقيق.
ناوله هويّتي، وطلب منه، أن يصحبني إلى سيادة (الملازم أوّلَ)، فاقترب منّي، ودفعني بيده بشدّة، لأمشي أمامه كالدّابة، وهو يصرخ بي، بوحشيّة:
- امش.. وارفع يديك للأعلى، ولا تلتفت.. هيّا.. أسرع.. عجّل.
مات دمي داخل عروقي.. يبّست دقات قلبي.. وشابت خلايا روحي، وتهدّجت أنفاسي.. وصرخت مساماتي،
إلى أين سيأخذني؟!.. وماذا لو أطلق عليّ النّار، من خلفي؟!.. سيكوّمني خلال ثوان.. آهٍ.. آهٍ.
الطّريق الفارغ، إلّا من بضعة عساكر
، كان طويلاً للغاية، وسألت نفسي، لماذا عليّ أن أرفع يديّ؟!.. هل يخاف أن أهرب؟!.. ولكن أهرب إلى أين؟!.. وكيف سأهربّ؟!.. وكلّ هذا الطّريق، له مفرق واحد، في منتصفه؟!.
كان الطّريق الضّيق والطّويل، شاحباً رغم إشتعال (لمبات) أعمدته الكهربائيّة، وكانت الشّرفات تشهقُ بصمتها حزناً عليّ، والورد في الأصص،
يفرك عينيهِ، ويسيل عطره، حتّى بوّابات العمارات، سمعتُ تأوّهاتها، والمحلّات المغلقة، توجّع قلبها.
وفي النّهاية، وعند سياج الحديقة،
كانت سيارة عسكريّة مصفّحة، تقف تحت عمود النّور، وفيها ضابط برتبة ملازم أوّلَ.. أدّى العسكريّ التّحيّة، وخبط بوطه العسكريّ على (الإسفلت)
فارتعبتُ وجفلتُ.. وأعطاه هويتي، قائلاً:
- هل أخبرك، حضرة الرّقيب (جاسم) عنه؟.
- ما به هذا الحيوان؟!.
ثمّ تطلّع بي، وبعد ذلك، نقل نظره، على الهويّة، بهدف المقارنة، بيني وبينها.. وقال:
- عليك مراجعة شعبة النّفوس، من أجل إصلاح هويّتك.
هتفتُ بفرحة.. ولقد شعرتُ، بأنّها قد فرجت.. وإن هذا الضّابط ابن حلال، ويفهم، وعنده نظر، وخبرة بالأشخاص:
- حاضر سيّدي.. تكرم.
لكنّه بادرني، بسؤاله:
- أين كنت ذاهباِ؟.
- إلى بيتي.. بيتي هناك.. صار قريباً من هنا.. ذاك الحائط الأصفر.. وراء الحديقة، لم يبقى إلّا بضعة أمتار.
وعاد يسألني، بصوت فيه حزم وصلابة:
- من أين أنت قادم؟.
- من الشّغل سيّدي.. كنت في العمل.
وانبعث صوته من نافذة سيارته، فهو يجلس خلف المقود:
- ماذا تشتغل أنت؟.
- أنا يا سيّدي.. أعمل في البناء مع أبي، في بنايات الشّرطة، على طريق (حلب الجديدة).
- وأين هو والدك الآن؟.
- إنّه يقف مع الأهالي هناك، ينتظرون من سيادتكم، أن تسمحوا لهم، بالوصول إلى مساكنهم.
صاح على العسكريّ، الذي رافقني منذ البداية، وظنّ بأنّني أضحك منه.
قال للعسكري.. وهو يشير بيده، نحوي:
- بربّك انظر إليه.. وقل لي.. هل هكذا، يكون شكلّ المعمار؟!.
ابتسم العسكريّ الذي لا أطيقه، وأجاب:
- سيّدي أنا ظننته دكتوراً!!.
وصاح الملازم أوّل بي:
- أسمعت؟!.. عسكري (كُرْ)، لا يفهم، لم يصدّق، أنّك تعمل في البناء!!.. إنّك تكذب، وحق الله.. هل هكذا يكون، شكل عمال البناء؟!.
قلت متعجباً، لماذا يا سيّدي لا تصدّق، أنّني أعمل في البناء؟!.. تعال إلى حارتنا، وأسأل أيّ واحد، عن نوعيّة عملي.. أو تعال غداً، إلى مشروع بنايات الشّرطة، وستجدني أعمل هناك.
ردّ محتدّاً:
- هل ثيابك هذه، هي ذاتها التي كنت تعمل بها؟!.. وهل وجهك وشعرك، كانا قد تعرضا، للشمس والغبار.. أنا أخي يعمل في البناء، وكلّ ما يعود للمنزل، منصرفاً من شغله، يأتي وهيئته على شاكلة، (الكلب) الممرّغ بالتّراب!!.
- يا سيّدي الآن فهمت عليك.. أنا أبدّل ثيابي عندما أبدأ العمل، وعند انصرافي أعود، بعد أن أغسّل وجهي، ويديّ، وأسرّح شعري، أرتدي ثيابي، النّظيفة والجديدة.. وكذلك الأمر، بالنّّسبة لحذائي.. فما هو الغريب بالأمر؟!.. وأشعّة الشّمس، التي تتحدث عنها، أنا لا أتعرض لها، في هذه الورشة، لأنّني أعمل تحت مكان مسقوف، وأنا حاليّاً مختص بتعمير المدافئ، وهي من الحجر النّاريّ الأحمر، والقرميد الأسود.
- وأين تأثير (الإسمنت)، على يديك؟!.. وعلى أصابعك، وأكفّك؟!.. أنا أخي دائماً تكون أصابعه، وأكفّه، مجروحة، وملتهبة
، ومتورّمة.. أنت لا أرى أثرَ، (للإسمنت) على يديك!!.. وكأنّك طالب جامعيّ!!.. نعومة!!، ونظافة!!، وأناقة!!، وحلاقة ذقن!!، (وشوارب)!!.. قل لي:
- أيوجد عامل بناء، عندنا، يقوم بحلق شواربه؟!.. لا.. أنت مختلف، ويجب عليك أن تقنعني، بما تدّعيه، وإلّا أمرتهم باعتقالك.
تعبتُ، لم أعد أستطع الوقوف، أريد أن أشعل سيجارة، ولكنَّني لا أجرؤ..
وتساءلت (ما هي القضيّة يا ربّي)؟!.. وكنت مرغماً، على أن أجاوب، علّ محاولتي تقنعه:
- أنا.. يا سيّدي في معظم الأيّام، أنصرف
من عملي.. ولا أرافقُ أبي للعودة، إلى بيتنا.. بل أذهب مباشرة، إلى (مقهى القصر)، حيث ألتقي بأصحابي الأدباء، أو إلى (اتِّحاد الكُتَّاب العرب)، أعرض عليهم كتاباتي الجديدة، أو إلى (المركز الثّقافي)، أشتري، وأستعير الكتب، من هناك، أو أطالع الكتب، في (المكتبة الوطنيّةِ)، فهي تزخر بالكتب النّفيسة، والهامّة، فأنا شاعر يا سيّدي، أحبّ القراءة والكتابة، وشراء الكتب، والمجلات، والجرائد، وحضور الأمسيات
الأدبيّة، وهذا هو سبب اهتمامي، بملابسي، وهندامي، وشكلي.. ولكنَّني حقاً أنا عامل بناء، ولم الغرابة؟!.. ألم يكن الموسيقار العظيم (سيّد درويش)، عامل بناء؟!.. وحتّى القاص الرّائع (زكريّا تامر)، ألم يكن حدّاداً؟!.. أنظر يا سيّدي إلى العُقد، التي في كفّي، وإلى سماكتها، وقساوتها، وصلابتها، بسبب العمل بها، وحملها للأحجار القاسية، والصّلبة، أليست هذه دليلاً، على أنّي معمار؟!.
ولمحت بسمته، وراح يصفّر، ويهزّ برأسه، وكان ينظر إليّ حين قال:
- آه.. اعترف.. اعترف.. فأنت شاعر إذاً!!
والآن قل لي، أين يقع (اتّحاد الكتّاب العرب) عندكم (بحلب)؟.
أجبته على الفور، ومن دون إبطاء:
- في قلب البلد.. ساحة العبّارة.. في الطّابق الأوّل، جانب (جريدة الجماهير)
- سأطلبُ منك أن تقول لي قصيدة، وإن أعجبتني، سأجعلك تذهب من هنا، إلى بيتك.. هيا أسمعني.
وقفت أفكّر بالأمر، حائرا، أسأل نفسي، ماذا بإمكاني، أن أسمعه؟!.
- (( لو ))..
لو جعلوا الليل ظهراً
وجعلوا الشّمس قمراً
وملأوا بيتي نقداً
وسخّروا لي الكون
عبداً
وجاءوني بغريبة
لتصبح منْي قريبة
سوف لا
لن أرضى سواك
يا سوريّة
حبيبة.
- جميلة.. وقويّة.. ولكن، هل كتبت عن سيادة الرّئيس؟.
- سيّدي.. أنا عندما أكتب، عن (سوريا)، بالتّالي تكون كتابتي، عن السّيد الرّئيس
.. من هو قائد سوريّة الآن؟!.. أليس السّيد الرّئيس؟!.. من هو سيّدُ الشّعب وقائده؟!.. أليس السّيد الرّئيس؟!..
قاطعني، وقال بصوت آمر، إن كنت تريد أن تذهب إلى بيتك، فعليك أن تسمعني، قصيدة عن سيادة الرّئيس.
بأيّ ورطة وقعت فيها أنا؟!.. أنا لم، ولن، أكتب عنه، مهما كان، هو (دكتاتور) لا أحبّه، وهو قاتل، ومجرم.. أنظر ماذا فعل في البلاد، والشّعب؟!.. أصلاً أنا في القصيدة السّابقة، أقحمت كلمة سوريّة، بها إقحاماً.. هي ليست من جسد القصيدة.. أنا كنت قد كتبتها عن حبيبتي انتصار)، خاطبته:
- سيّدي.. أنا لست بشاعر، إنّما أنا مجرْد
هاو، مبتدأ، وأنا أتردْد على اتّحاد الكتّاب، من أجل أن أستفيد، من ملاحظاتهم، وإرشاداتهم، ولم أكتب حتّى الآن، سوى بضع قصائد قصيرة، عن الفتاة التي أحبها.
الرّصاص الذي كان صوته يأتينا متقطّع، علا صوته، وأخذ دويّه ينبعث بين اللحظة والأخرى.
قال الملازم أوّل بعد أن أنهى كلامه على جهاز اللاسلكي، وكان قد تضاعف
انزعاجه، ولكن لم أعرف السبب:
- أنا سأختبرك الآن.. إن كنت شاعراً أم لا.. إن استطعت أن تؤلف قصيدة عن سيادة الرئيس.. أفرجت عنك وتركتك تذهب إلى بيتك.. وإن لم تستطع.. فوالله لن تصل بيتك.. سأترك الشّباب، يأخذونك في نزهة معهم.
وحاولت أن أتكلم، لكنّه صرخ بي:
- حيوان.. معك ربع ساعة.. اذهب واجلس عند سور الحديقة.. واكتب القصيدة، وإلْا كما قلت لك.
مَنْ الشّاعر الذي وقع له، ما وقع لي؟!..
وأنا مشروع شاعر، قد أفلح بمجال الشّعر أو أفشل.. ما عدت أريد أن أكون شاعراً.. أريد أن أبقى عاملا بناء، وهذا أشرف لي.. أنا في ورطة، كلّما ظننت أنّي قد خرجت منها، أجدها تتعقّد وتزداد سوءاً، ليتني بقيت قربك يا أبي
ولم أبتعد عنك، أبو (أحمد) ساقط وجبان، ابتعد عنّي، وأنا بأمس الحاجة له.. لكنه حقير في نظري، منذ أن حدثنا عن اغتصابه للفتاة الصغيرة في بيروت.
- النّجدة يا الله.. أتوسّل إليك.. أنا عندما أقع في ضيق أتذكّرك.. وحينما أشعر بالأمان أكفر بوجودك.. اللعنة عليّ
لكنّي الآن كيف أخرج من هذه الورطة؟!.
- سأنافق.. سأكذب.. ألم يفعل (المتنبي) مع (كافور) هذا؟!.. ألم يؤلف شعراً كاذباً، في سبيل منفعة مادّية؟!.. فكيف أنا المهدّد بالاعتقال؟!.
- سأبالغ.. سأمتدح.. سأكذب.. سأعظمه،
وهذا الكلام لن أقوله أمام أحد، من أصدقائي.. جميعهم.. ولكن أهمّهم (مصباح) و (عاطف).. سأقول كلاماً في الهواء.. لن أحتفظ به.. ولن أحفظه.. أو أكتبه على دفاتري.. المهم أن أنجو الآن
.. من مصيبتي.
- وفكّرت.. وأشعلت سيجارة، ونظرت إلى سيارة الملازم أول، التي كانت ثابتة، تأتيه الاتصالات، ويرسل التعليمات.. ويراقبني.. والعسكري الذي جرّني إليه، يقف بالقرب من سيارته، ينتظر أوامره.
وجاءني الكلام، وأخذت أردّده، لم أكن مقتنعا به، ولم يباركه قلبي.. لكنّه جيّد.. وهو المطلوب، فنهضت، وأسرعت لعند سيارة الملازم أوّل، وقلت اسمع سيدي:
- إن قالوا استسلم السّادات
فقل لهم حافظ ما مات
وإن ركع الرّعديد للطغاة
قل حافظ لهم طوال الحياة
يحمل على عاتقه الوطن
ويرتّل اسم الشّهداء آيات
حافظ لا يستكين
لا يهاب الجرح
ولا السّكين
وإن تكالب الطغاة
وتكاثروا
سيبقى صدره بالنصر عامر
يهتفُ النصر
أم المقابر.
سعد (الملازم أوّل) من كلامي.. وضحك.. وانفجرت أسارير وجهه.. وقال:
- أقسم بالله أنّك شاعر، وابن (عفريته)، كيف نظمت هذا الكلام، بربع ساعة؟! .. خذ هويّتك، وانصرف إلى بيتك.. ألم تقل لي أنّه، قريب من هنا؟.
- نعم سيّدي.. إنّه أمامنا، بعد الحديقة.. ولون واجهته أصفر.
كنت فرحاً، أحمد الله، الذي لم يتخلّى عنّي.
- هيا.. أركض.. واذهب لتكتبَ لي قصيدتك، على ورقة.. وأنا سأمرّ لعندك، الليلة، وآخذها منك.
وانطلقت راكضاً صوب بيتنا، كنت التفّ حول سور الحديقة، لأجتاز المفرق الفاصل، بين حارتنا، والحديقة.
وانعطفتُ إلى الحارة.. صار بيني وبين بيتنا، بضعة أمتار فقط.. وإذ بثلاثة عناصر، من الجيش، يتوزّعون في الحارة، وحين ظهرت لهم، تفاجاؤا
وراح أقربهم منّي، يطلق النّار نحوي.
تراميتُ فوق رعبي، انهارت روحي،
تعفّر لهاثي، تقصّفت عزيمتي، سقطت
منّي قوايَ، تناثرت أشلاء خطاي ..ظننت أنّ الموت اقتحم جسدي، وأنّ نبضي غادرني، وأنّ دمائي سفحت فوق صرختي.. وكان العسكريّ يضحك
ورصاصه يقهقِهُ من فزعي.. قال:
- من أين خرجت علينا؟!.. يا حقير.. لعنة الله عليك، لقد أخفتني، بظهورك المفاجئ.. وكنت أشير له بيدي، لأنّ الكلام هجر فمي، كنت أقول له أنّ سيادة (الملازم أوّل)، هو من سمح لي، بدخول الحارة، فأنا قادم إلى بيتي.. وكانت يدي تشير لهم، إلى بيتنا المغلق بابه على خوف، وقلق أمّي وأخوتي.. لكنّ صوتي كان متقطّع الأوصال، وبعيداً عن حنجرتي.
التمّ حولي العساكر، وبصعوبة بالغة فهموا منّي بعض ما كنت أقوله.
قال لي أحدهم، يسألني:
- أهذا بيتكم؟!.
هزّزت له برأسي، قال:
- هيا أدخل.. واغليّ لنا إبريقَاً من الشّاي
وقل لأمّك خالتي.. أن تبعث لنا مع الشّاي ما نأكله.. لقد ذبحنا الجوع والله.. ونحن هنا منذ العصر.
هزّزت له برأسي، ولسان حالي يقول له، حاضر تكرم.
أخيراً طرقت الباب، وبعد انتظار طويل، وأسئلة من أخي، يستفسر، بخوف، وقلق:
- من؟!.. من يدقّ الباب؟!.
لحقني أبي، ووصل الدّار، بعد أكثر
من ساعتين.
وحين نمنا.. رأيت حلماً مرعباً، فأخذت أصرخُ.. واستيقظ أبي، وأمّي، ومعظم أخوتي.. وبسملوا، وأخذت أمّي تقرأ آيات من (القرآن الكريم)، فوق رأسي، وقالت لأبي:
- غداً صباحاً، أبعث إلى جارتنا (الحجّة أمّ أحمد غنوم)، تسقيه من طاسة الرّعبة.


مصطفى الحاج حسين
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى