فاطمة البسريني - أقسم أن أقول الحق...

الخريف يفرد جناحيه بداية من رؤوس الأشجار إلى أعمق أعماق نفسي المضطربة .
تأتي الرياح الوقحة معها بروائح الأغصان والأعشاب الميتة الغرقى في الجدول الساكن الصامت .
تحت ملابسي الكثيرة ، الثقيلة ، وسط هذا الخلاء الشاسع كنت أشبه لوحة فانجوجية .
(يجب أن أصرخ بكل ما يشتعل ، وبكل ما يغرق ، وكل ما هو بني ، ميت داخلي، ما دمت لا أبكي ، وما دام يجب علي أن أكافح وأجاهد من أجل العيش ،
يجب ....
لكن ، لكم من الوقت بعد؟ لكم من الوقت سأسير بمحاذاة الأعماق والأجراف والأشباح والشعور الحاد بجروحي التي تقتل نفسي داخلي .
كم من الوقت بعد ؟).
ـ أقسم بالله العلي العظيم أن أقول الحق وليس غير الحق
كانت رجلاي لا تكادان تحملاني وبريق تائه ينبع من عيني الزائغتين وأنا أقف أمام قاضي المحكمة .
قلت بصوت متقطع منهك :
ــ نعم ، قتلت أختي ... وصمت طويلا .
ضرب القاضي بقلمه يستحثني على الكلام ،
ــ أه .....احك ؟
ــ نعم ، قتلت أختي ...
ــ أكمل ، قص علينا الحكاية ؟ .....
نظرإلي القاضي مليا ، ثم فتح الملف ونظر فيه قليلا قبل أن يستطرد :
ــ محضر الضابطة القضائية يقول كما جاء على لسانك في الوقائع ، أن والدتك كانت تعد العشاء في المطبخ ، فتسللت أنت إلى هناك وسحبت سكينا دون أن تنتبه إليك .
وتوجهت للتو إلى غرفة أختك ، وعلى حين غفلة غرست السكين في ظهرها بقوة وعنف ولم تتركها إلا لما تهاوت بين يديك وهي تلفظ آخر أنفاسها .
هل تقر بما جاء في هذا المحضر ؟
لم أكن أنصت إلى القاضي ، كنت أحدث نفسي : ( ثنايا حياتي ملساء ، كلما تشبثت بجوانبها ، انزلقت إلي قعرها المظلم ... وليس هناك سوى أختي وهي تتهاوى بين ذراعي ودمها يملأ المكان كله ... كل شيء أصبح أحمر اللون مثل الشرر الذي كان يتطاير من عيني ) ..
نقر القاضي بقلمه مرة أخرى على منصته ليخرجني مما يشبه الغيبوبة وقال بإصرار :
ــ سأعيد السؤال :
هل تقر وتعترف بما جاء المحضر؟ .
ــ نعم ... نعم سيدي .
سرح يا لفكر : ( هل أقول الحق للسيد القاضي ... لا .. لا ذلك لن يحدث أبدا ... ).
ـــ أنت أمام العدالة ويجب أن تقول الحق ..لقد أقسمت على ذلك ،
(كيف يمكنني أن أقول الحق ؟ وأنا لا أعرف أين هو..) و( كيف أدخل أمي في كل هذا .. لا .. لن أفعل.. لا ..فأنا أحبها كثيرا ، مهما حدث لي ..نعم مهما حدث لي ..) دارت برأسي هذه الأفكار بسرعة البرق..
نظرت إلى القاضي بعزم وقال :
ـــ سيدي القاضي ، لقد قلت الحق .
تنهد القاضي في حيرة من أمره ، هو يعرف أنني أكذب ، لكنه لا يمكنه أن يبرر شكوكه تلك أمام إصراري على أقوالي .
ــ خذوه ... أرجعوه إلى الحجز .. نلتقي معك الأسبوع القادم في مثل هذا الوقت ..
( لماذا لا ينهي الأمر فحسب .. ويصدر حكمه ... قد مللت فعلا من كل هذا .)
لكنني لم أنبس ببنت شفة بل استسلمت ليد الحارس اللئيمة التي جرتني بعنف وازدراء نحو باب الحجز كخرقة.
أحسست بالفخر ، لقد تفوقت على نفسي .
كم مرة أردت إخبار الناس والقاضي وكل العالم بما يحصل لي ، وأنني تائه لا أعرف ما هو الحق وما هي الحقيقة .
لكنه اليوم تأكد أنني لست مخبولا ولا عديم الفائدة ، فأنا لن أزج بوالدتي في هذا الجحيم .
( أختي تقول لي دائما ، إن والدتنا قتلتها ..
أمي تقول : إنه ليس لي أي أخت أبدا .) .
في سيارة الشرطة ، كنت أنظر إلى قطرات المطر المتسابقة على زجاج النافذة ،وأفكر : ( الجميل في قطرات الماء أنها تختار أسهل الطرق دائما على عكس البشر عموما ) .



* من المجموعة القصصية: "الروح المجرمة"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى