سيدة بن جازية - أنين الطّين ...

كنّا نتابع الوضع أمام الشاشات الصغيرة في حذر حتى دوّت صافرات الإنذار فخرجنا نضرب في الأرض دون دليل أو مرشد ،تذكٌرت طريقا يأخذنا لبقايا ملجإ قديم .
طال بنا المسير حتى التقيت جارتي تسير منهكة صحبة رضيع و بنتين صغيرتين مرتديتين أحلى الفساتين وقد تراقصت ضفيرتاهما المجدولتان بالورود الحمراء و الفراشات على الأكثاف و قد انتعلتا حذاءين أبيضين كعروستين من عرائس المروج الخضر ، بينما لم أجدني أهتمّ لما يحمله أطفالي من ملبس أو نعال ، لحظة الصدمة مدمّرة ، سألتها كل هذا الاهتمام ، فأجابت والعبرة تخنقها " لقد أشفقت عليهما من حزن فقد والدهما و عناء البحث عن كذبة تدخل عليهما البهجة، فجهّزتهما كما ترين وادّعيت أنّ والدهما سيحضر الليلة محملا بالهدايا لحفلة عيد الميلاد في الهزيع الأخير من الليل و ها أنني الٱن أمنّيهما بلقائه خارج البلدة ، يا جارتي ، ألم تلحظي لمعة الفرح تتراقص بين ناظريهما و غمازتيهما تنشر عبق حلم سعيد ، أقدارنا تخطّها هذه الصافرات ومع كل صفير و زفير تُزهق أرواح و تُستباح أرواح و تغتصب أحلام.

علينا الحذر أكثر الآن ، فالطريق محفوف بالمنزلقات ، و الطين اللّزج يتكثّف كالصمغ على الأقدام الحافية والنعال اللينة فيعطّل خطانا كلما غصنا في الحقل أكثر . انظري؛
تأوّهات أطفالنا تتزايد على وقع عصافير جوعى تغرّد مقطعة الأحشاء . ساعات طويلة ولم نعثر على مفرّ أو يطيب لنا مقرّ و الصغار يتصايحون متذمّرين ، ربما نعثر على ملجإ ، ربما يكتب الله لنا النجاة .

_ اصبروا و صابروا، كيف ستكبرون إذن و تأخذون دوركم في المقاومة؟! إنكم أبطال هذا البلد الصناديد.

_ اقضموا ما بدا لكم من الأعشاب الطيبة إنها نافعة جدا، أفضل من حلوى غزل البنات و المرطبات ، كم كنا نقتاتها بشراهة في الصغر حتى صرنا أقوياء كالصقور .

سال اللعاب و انغمسوا يقضمون الخبيزة و الدفاف و النجم و الهراء كطبق شهيّ يسدّ الرمق ، لم يحاولوا إزالة ما علق من أوحال على الوجه والملابس ، لم تعد تهمّهم الأشياء بعد هذه الوجبة الدسمة المحشوّة بالعزم و التجلّد ، ثم واصلنا الطريق في هدوء ٱمنين ...

خفت صوت الرضيع "نور " مثقلا بالأوجاع ، منتقلا إلى جوار والده ، في صمت رهيب وخشوع عظيم .

دفنته جارتي تحت شجرة البرتقال الحزين حين تجمّدت كل أطرافه و أضناها حمله طويلا، عطّرته بدمعها النقيّ ووشحته بالقبل ، لم ينتبه أحد من الصبية إلى غيابه تحت جنح الليل و الإرهاق و الأسى ...

انبثق فجر يوم جديد على انفجار لغم مزّق طفلينا إربا إربا. وشتت البقية بين الدروب... تركناهما لرحمة الله فزعين .
و واصلنا السير فرادى و على بعد أميال تجمّع شملنا من جديد لكن عددنا أخذ يتضاءل تدريجيا .
كنا تسعة أصبحنا ثمانية، فستة... لا نعلم ما يخفيه لنا القدر المحتوم . كلما تقدمنا نحو الشمال أخذت. أنفاسنا تتقطّع و طاقاتنا تهدر دون أن يلوح لنا فتيل أمل .

جارتي صابرة ٱثرت أن تؤنس وحدة رضيعها ،ترجّلت عن الرحلة مستسلمة لنداء الأرض بعد أن أودعتني رعاية بنتيها .
رحيل مرير باهت، تكلّست معه معاني الوجود و حبست الأنفاس ،لكننا محكومون بالمسير ...شعرت بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي و أنا أجر الأقدام و الأحلام المهشّمة على صخور الفقد العنيد في ضياع مستنزف و ورائي أقدام صغيرة تتبع الخطى حالمة باللقاء.
وازداد حزني و هلعي كلما سألني أحدهم " هل اقتربنا من الملجإ، هل سنجد البابا؟؟؟"

في صمت واصلنا الطريق الشائك بالمخاطر و المطبات تطاردنا أصوات انفجارات غير بعيدة حتى أخذت تتكاثف كقصف الرعود، اربدّت سمائي الرمادية تعالى معها صياح أطفال لا ذنب لهم غير عشق أجدادهم لهذا طين و رضى بميراث حملوهم بكل عفوية و جسارة الأبطال ، قال صغيري أحمد :
_ لماذا يا أمي لا تأخذنا الطائرات إلى بعيد حيث هرب عمي وخالي و بعض الرفاق ؟
تنهدت طويلا ثم حاولت البحث عن كلام يشفي الغليل:
_ لأننا أبطال ، لا نهاب المحن ، لا نخون الطين والملح و البلد .
_ يمكننا حمل الطين إلى مكان ٱخر أو نبني أعشاشا مثل العصافير فوق الأشجار العالية...
_ لا ياعزيزي لا يمكننا المغادرة ، من سيحرس قدسنا ؟
من يحفظ شرفنا و شرف النائمين منذ قرون ؟

قطع سجالنا أمل النجاة ، لاح بعد عناء ملجأ الإغاثة من بعيد ، هرولنا نحوه في اطمئنان وكلما اقتربنا تعاظمت أمانينا ... أخذنا نلوح من بعيد مندفعين، فاستقبلونا بوابل من الرصاص أردت بعضنا قتلى وبعضنا يتخبط في حمرة ورود الجوري والٱقاح ، رأيت ثريد الدم والطين تحت قدمي طفلتي الصغيرة كعروس مخضبة بالحناء ،ناديتهم جميعا طلبت منهم الشهادة والتكبير واحدا فواحدا حتى خمدت كل الأصوات و الحركات غير نزف يتقاطر في انتظام عازفا لحن الفناء.

وجدتني أناجي جارتي صابرة ،استسمحها المقام دون ابنتيها. و دمي ينضب قطرة قطرة و أطرافي تتجمّد في دبيب شلل يسري كسرب نمل عمول من أسفل قدمي حتى الخاصرة.

كانت اليدان الغضتان تمسحان عني الدموع والدماء ،
تحاولان الاختباء . لكن يدا غليظة انتزعتها من جواري و حملتها معهم حيث مكروا بها .
لم استطع نسيان المشهد المؤلم وهم يغتصبون البراءة بكل وحشية وهي تنزف، تستغيث، بابا، بابا ، انقذني ...
وسط أشلاء عائلتي المبعثرة كانوا يتلذذون بالفريسة جبنا وانتقاما ثم ألقوها جثة بيننا.

صرخت انتحبت دون صوت أو سميع :
وا محمداه ! وا إسلاماه ! وا عروبتاه ! هل ينسون النداء ؟

صدى صوتي المكتوم شُقّت له جيوب السماء ، قصفت وأرعدت و عادت بي الذكرى كشريط استرجاعي، ٱخرون لاحوا أمام الشاشات يمسحون الشوارب واللحى و يضربون بالأكف البطون الملأى بالقصاع و النبيذ .

سيدة بن جازية تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى