د. محمد عبدالله القواسمة - هل يخرج الإنسان من جلده؟... قصة قصيرة

دخلت زوجته غرفته التي يسميها مطبخه الفكري. انتبه إليها. شكت له من سوء الوضع، وأنهم على وشك الوقوع في المجاعة، والراتب تلاشى، وتساءلت عن وجود مخرج، واتهمته بنسيان واجباته نحو البيت، والاهتمام بالكتابة التي لا تطعم ولا تكسي.

ألقت كلماتها وخرجت. ألقى يديه على الطاولة ووضع رأسه بينهما. مر في ذهنه أنه قدم لوزارة الثقافة طلبًا لشراء نسخ من كتابه الأخير. أبلغوه بعد أسبوعين بأن يزودهم بعشرين نسخة من الكتاب. زودهم بما طلبوا، ووعدوه بأن يتصلوا به في أقرب وقت كي يستلم شيكًا بثمن الكتب.

ها قد مر أكثر من شهرين ولم يتصل به أحد. ويخشى بعد مدة أن يوقفوا المعاملات المالية لانتهاء ميزانية العام وبداية موازنة جديدة.

لحق بزوجته إلى الصالة. كانت جالسة ويدها على خدها. لعن الله الفقر إنه يكدر المزاج، ويفقد الصفاء، ويجلب الهم والنكد، ولو كان رجلًا لقتله الناس دون تردد. جلس بجانبها وقال بنبرة هامسة:

- تذكرت بأن لي دينًا على وزارة الثقافة سأذهب في الصباح لأطالبهم به.

أشرق وجهها وابتسمت، وقالت وهي تدفع صدره بيدها:

- لك مال على الوزارة ونحن على وشك التلاشي.

بعد انتهاء دوامه في المدرسة استقل باص مؤسسة النقل العام؛ فلم يكن يملك أجرة تاكسي. في الوزارة قالت له مسؤولة في القسم المالي إن المعاملة جاهزة، والشيك جاهز لا يحتاج إلا إلى توقيع رئيس القسم. ورأت أن يستلم الشيك، ويوقعه منه مباشرة.

فرح كثيرًا فالشيك صار بيده. الأمر في غاية البساطة. دقائق ويصبح غنيًا، تسعون دينارًا بعد حسم الضرائب. لماذا لم يأت قبل هذا اليوم؟ لكان في حالة غير هذه الحالة التي هو عليها. لم يجد المسؤول في مكتبه. عزم أن يبقى في انتظاره. جلس على كرسي أمام المكتب. سيأتي في الحال ويوقع الشيك، ويذهب إلى البنك المركزي لاستلامه. لا يدري لماذا لا يتيحون صرفه من البنوك الأخرى طالما أنه صادر عن مؤسسة رسمية.

مرت ساعة. لم يأت المسؤول. عاد إلى المسؤولة المالية. أجابت بأنه في مبنى الوزارة، وطلبت أن ينتظره ساعة أخرى. رجع إلى مكانه. داعب النعاس عينيه، وداعبت الأحلام لاوعيه. رأى موظفًا ببذلة أنيقة، يتقدم نحوه. أعتذر منك أيها الكاتب الكبير. وخطف الشيك من يده. وقعه سريعًا وأعاده إليه، نصحه بأن يسرع إلى البنك المركزي قبل أن يغلق أبوابه. تناول الشيك وأسرع يوقف سيارة أجرة هذه المرة. سيستلم المبلغ ويعود إلى البيت محملًا بما لذ وطاب من الفواكه واللحوم. لن يسمع احتجاج زوجته على إسرافه، إنه من فضل قلمهن وليس من راتبه الذي ينقص كثيرًا في الأسبوع الأول، ويتضاءل في الأسبوع الثاني، ويتلاشى في الأسبوع الثالث.

صحا على وخزة في كتفه. انتبه إلى رجل يقول له:

- انتهى الدوام يا أخي.

– ماذا تريد مني؟ سأنتظر رئيس القسم المالي.

– كل الموظفين غادروا مكاتبهم. لم يبق غير الحراس مثلي.

عاد وعيه. صاح:

- الشيك! أين الشيك؟ كان في يدي.

راح يبحث تحت الكرسي وفي الممر، يساعده موظف الحراسة. لم يعثرا عليه. قال الحارس:

- راجعهم في الغد. سيصدرون شيكًا بدل فاقد.

تنهد:

- يا الله سأبدأ المعاملة من جديد!

عاد إلى البيت كمن فقد عزيزًا عليه.

أدركت زوجته ما حدث. دعته للجلوس. تهالك على مقعد قريب. أحضرت له كأس ماء. قالت كأنها تخفف عنه:

- ما لنا وما للكتابة؟

أجابها بهدوء:

- الكتابة عمل عظيم لا يقدر عليها غير الموهوبين، وأصحاب العقول النيرة، والإرادة القوية. لكن أكثر الناس في غي عظيم.

قالت وهي تضغط على مخارج الصوت:

– ليتك تترك الكتابة إلى أعمال إضافية أخرى! لا يأتيك من الكتابة غير وجع الراس.

- لا يخرج الإنسان من جلده يا زوجتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى