ظلّ القلق ينخر رأسه منذ خروج شريكه في المهمة، منتظرًا خبر إكمال تلك المهمة التي أوكلها إليه، مرّ الوقت متكاسلًا وسط الانتظار الصعب، وهو يراقب جواله بين وقت وآخر، يدور حول نفسه أثناء جلوسه على كرسيه الدوار حينًا، ويذرع الغرفة جيئة وذهابًا حينًا آخر، وقف يرقب الشارع من شباك مكتبه الكبير للحظات حين فُتِح الباب، ليجد شريكه واقفًا بقامته الفارعة، بدا له أشد إصرارًا على المجازفة الأكثر جنونًا في تاريخهما، صرخ به:
أين أنت ؟ لِمَ لا تردّ على اتصالاتي.
سأخبرك لاحقًا، دعني أستنشق نفسًا الآن.
رافق الردّ ابتسامة صفراء استفزته أكثر فصرخ:
هل عليّ سحب الكلام من فمك؟!
جلس شريكه على الكرسي المقابل لمكتبه وهو ما زال واقفًا بالقرب من النافذة، ينصت إلى حديثه:
نفذنا خطتك كما رسمتها لنا، دخلنا إلى مقرهم، لم نترك من فتياتهم بكرًا، بل حتى فتيانهم وتركناهم يصورونهم وهم عراة مقيدون، ومن قاوم منهم رميناه من أعلى البناية حتى انقطع صراخه.
كان يقترب من شريكه وهو ينصت له بارتياح وجلس على الكرسي الدوار خلف مكتبه، فرَدَ صدره وسحب نفسًا عميقًا، ونفث من منخريه ضحكة مكتومة، ثم رفع جوّاله واتصل:
تمت المهمة سيدي.
(كان في الطرف الآخر يجلس سيّده منتظرًا هذا الاتصال، لتعتلي ملامحه بعد سماعه الخبر، لذة الاسترخاء والطمأنينة. وما إن أنهى سيّده مكالمته معه حتى اتصل بأحدهم:
أنهيا مهمتهما، عليك بإحراق ورقتهما الآن).
كان يجلس على كرسيه الدوار منشرحًا وهو يشعر بالتفرد مع شريكه، بعد قيامهما بكل ما يوكل إليهما بنجاح، خرجا معًا بسيارته مع سائقه وحرسه الخاص الذي يجلس في الأمام بينما يجلس هو وشريكه في المقعد الخلفي، وهما يذكران معًا كلّ بطولاتهم الرعناء، كم قتلوا، كم يتّموا، كم من عوائل هجّروا. وفي تلك اللحظات لم يشعروا إلا صوت تكتكة تناثرت أشلاءهم بعدها.
مضى وقتًا لا يعلم صيرورته، كيف مضى؟ وكم مضى؟ لكنه وجد نفسه يجلس في قطار يتأرجح وهو يسير على سكة منفردة وسط صحراء شاسعة، كان يتصفح كتابًا طوال الطريق حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة، كانت صفحة بيضاء خالية من أي كتابة، فأخذ يدوّن فيها:
"قبل نيف من احتساب المغانم، التقينا، ما كنا نعلمُ أن مغامراتنا ستحتمي بعد ذلك النيف بالتقاطب أو التجاذب.. وعلى مرآى من الأمنيات، صاغتنا الفواتير الإلهية محض اختصارات لزمن أنسنته المرايا، ليكن كلانا في موقع الخسارة" تلك هي العبارات التي كتبها على الصفحة الخالية، ثم أخذ يحدّق عبر نافذة القطار نحو الصحراء الموحشة، في شطحة ذهن، أخذ يتذكر رفيقه وهما في رحلتهما نحو النهاية، شعر بالوجع ذاته، الوجع الذي عاشه حين تطايرت أشلاءه، وهو لا يعلم متى باعه سلطانه ليسقيه الكأس الذي طالما سقى منه رعاياه؟ وكيف انتهى طريقه؟ ذلك الطريق الذي نسج سجادته من العقائد التي غرسها في بستان الدم، مرتديًا رداء الحكمة، وحين تغوص قوادمه في طين الأرض، يعتقد بأن رأسه يعانق السماء، لكن اليوم فقط، أدرك أنّ القوي الذي لا مثيل له أصبح مثيرًا للأسى.
أخذت التساؤلات تهيمن على أفكاره الشاردة وهو يحدق في الصحراء القاحلة التي تمتد على جانبي سكة القطار. وعلى حين غفلة أحس بالقطار يتوقف، بينما ظلت تساؤلاته تلعب في رأسه: " أي محطة تلك وسط الصحراء؟!!" في تلك اللحظة أقبل نحوه رجل، يرتدي زيًّا رسميًّا، ملامحه جامدة، ولا تنبئ عن أية مشاعر، وقف أمام كرسيه وهو يشير إليه:
- تفضل بالنزول.. هنا محطتك.
وعلى غير عادته انصاع لذاك الرجل من دون أي اعتراض، ليهبط من القطار بلا أمتعة، وحيدًا لا يرافقه أحد، حتى رفيق رحلته الذي طالما شاركه كل مسيرته السوداء.. اختفى منذ أنْ تطايرت أشلاءهما في الفضاء.
سرعان ما تحرّك القطار ليواصل طريقه، وظلّ هو واقفًا مكانه تحت أشعة الشمس الحارقة، والرمال الملتهبة تحت قدميه.
كان يرقب القطار المغادر وهو يختفي في الأفق البعيد، جلس على حافة السكة الحديدية ثم قفز من لسعة حرارتها التي ألهبت مؤخرته، جال بنظره نحو الأفق في كل الاتجاهات، لعل هناك أي مَعْلم للحياة.. لكن من دون جدوى. ثم قرر السير في محاذاة السكة الحديدية؛ لعله يصل محطة أخرى فيجتمع مع أحدهم، أو يجد مَعْلما للمدنية، سار حتى شعر بقدميه تمتدان طويلًا وتجوبان الصحراء.
ظلّ يندفع مع عصف الرياح رغم انهيار قواه، حتى غدا مثل كرة تتدحرج فوق الرمال، سقط في حفرة حجبت حوافها المرتفعة بعضًا من أشعة الشمس الحارقة، تقوقع حول نفسه، فالتفّت أطرافه التي طالما كانت ممدودة كالأفاعي، تلتهم كل من يقف في طريقها، حينها كان يردد مع صاحبه:
- " لسنا أول من سنّ مشروع (الحل النهائي)، لقد سنّه من قبل هتلر في الحرب العالمية الثانية، وسار على مبادئه كثير من الحكام قبلنا، حتّى أصحاب المال، أبادوا شعوبًا ومزجوا الدم بالطين، وبدلوا خرائط دول حين تعارضت مع مصالحهم".
ثم سرعان ما عاد مرة أخرى يحشر جسده المنهك في جوف الحفرة، وهو يحلم بقدح ماء يروي ظمأه.. قدح واحد لا يكفي ، بل ينبوع ماء متدفق لن يطفئ جوفه الذي يحترق، وأخذ يحدث نفسه "ظمئي كبير ولساني أشبه بخشبة ألهبتها النيران لألف عام"، كان يفكر وحيـدًا، ويكابد آلام الجوع والعطش وحيدًا، وتنتابه نوبات الغضب واليأس وحيدًا، ويرتشف خيبته وحيدًا.
أحس برغبة لا تقاوم في البكاء.. لكنه خشي أن تجفّ عيناه، فلا يحظى بالدمع.
هناك، في عمق الحفرة، حيث ارتكزت قدماه، تدفق ينبوع دم، فقفز مفزوعًا من مكانه إلى خارج الحفرة، أخذ يبتعد هاربًا وهو ينظر نحوها إذ تحولت إلى بركة دم ينبعث من أعماقها أنينًا حزينًا. بدا وكأنه يهوي في الفراغ، بينما تدور حوله أخيلة بطيئة شعر بثقلها ووطأتها، أخيلة تضم نساء متشحات بالسواد يطفنَ حول تلك البركة، تصاعدت لعناتهن وامتزجت دموعهن بدم البركة، فأخذ الدم بالغليان، حينها تداعت ذاكرته إلى شاشة التلفاز وهي تنقل عويل الثكالى بعد كلّ مجزرة اقترفها بعد أن مدّ يده الطويلة فيها ليقطف رؤوسًا تصدح بنداءات استغاثة، حينها لم يملك غير الهرب بعيدًا من هول ما رأى، وعلى غفلة، هيمنت فراغات كونية هائلة امتزجت مع الظلمة، وكأن النهار تدثّر تحت رداء الليل، لم يستبح هذه الفراغات سوى عويل الريح التي حملت معها غبارًا رصاصي اللون، شق لنفسه صراطًا ملتويًا وسط الظلام المدلهم، وهو يسوق معه مدنًا تحمل رائحة الخوف والموت.
تقوقع في جلسته على الأرض، وأخذ يخبئ رأسه بين يديه وركبتيه، ويرفع من حين لآخر ناظريه وقد انسلخت عنه غطرسته وهو في هيئته التي لا يحسد عليها، ينظر إلى مرور الناس الذين طالما ازدراهم وقادهم على صراطه الملتوي.. وإن حاولوا مشاكسة ذلك الصراط نفذ فيهم "قانونه الذي لا يخطئ أحدًا" فيرمي بجثثهم في تلك القفار الشاسعة التي لا ينطفئ عطشها للدماء.
لا يعلم متى وكيف غافله النوم ليستيقظ وكأن ألف عام مرّ عليه وهو تحت شمس لم تحجبها الغيوم التي كوّنتها الأبخرة النارية وهي تتصاعد من تشققات جلده المتيبس، يتصاعد من بين حبات الرمل دخان يمخر عباب السماء، فتتوه ساعات النهار وسط الظلام، وتتوه معه مواقيت الزمان، تمرّ الأزمان مذعنة، تمـرّ أسراب بشرية، حقيقية كانت أم خيالية، ملفقة أم مبتدعـة مـن مخيلته المتعبة، تلك المخيلة التي طالما كانت قادرة على التضليل وتزييف الحقائق.
والغد يتلوه غد، واللحظات الميتة تتكدس بعضها فوق بعض ببطء.
سار مثقلًا بالخوف واليأس وكل جسده يصرخ طالبًا جرعة ماء.. حتى شعر بفرقعات المياه وهي ترتطم بالصخور، تراءى له ذلك النهر وهو يشق الصحراء، انبثقت من عينيه ومضة أمل فأسرع في خطاه نحو الجرف، اغترف بيديه جرعة ماء، فرأى قطرات دم أخذت تتساقط ببطء من بين أصابعه، ثم تخثّر الدم بهدوء حتى التصقت أصابعه ببعضها، واصطبغت بحمرة قانية.....
نفض يديه من الدم وهو ينظر باتجاه النهر كي يرى رؤوسًا طافية حملتها الأمواج التي اصطبغت بلون الدم أيضًا، استقرت تلك الرؤوس فوق الصخور، حدّقت فيه بوحشيّة، لحظتها فقط، تذكّر أصحاب تلك الرؤوس حين تراءت له مئة جثة منحورة الرأس ترمى في النهر بأمر منه بعد أن نفث سيجارته وهو يتفاخر أمام طغيانه وجبروته " لن يقف أحد في طريقي، ويستمر في الحياة، فكل ما فوق هذه الأرض يخضع لسلطاني" .
سقط عند جرف النهر، وأخذ يسحب جسده بعيدًا، سقط إلى الأبد، هلك ملكه وانغلقت بوابات ظلمه، فتضوّر جوعًا وعطشًا وهو يزحف على ركبتيه، وبين فرسخ وآخر تراءت له جثثًا طافية في الشوارع أو على الأرصفة، وحتى داخل البيوت والمحلات. مرّ الوقت ثقيلًا وسط أصداء عنيفة وهو ينهش لقمة من الطين.. فطالما اعتاد على ابتلاع اللقمة الممزوجة بالدم.. وعصفت به نهارات ملتهبة، وريح محتدمة، وليال مزجت بين لون الدم وسواد الليل الغارق في الفراغات المدلهمـة.
صدحت أصوات خرقت السماوات، لتردّد الأرض صداها، أصوات عرفها وضحك منها حين كانت تستغيث تحت التعذيب فيما مضى، واليوم تعلو تلك الصرخات المتوحشة لتنشق فراغات العالم، وينبثق من بين الشق طائر فضي عملاق، وحين أفرد جناحيه حجب السماء عن ناظريه وهو ينظر بذهول والطائر يصدر الأمواج الضوئية، فتهتز أعطاف الريح بقوة غريبة، وتنسكب كتلة النور الأبهى فوق الجثث المترامية، والرؤوس القابعة فوق الصخور.
الأرض تفور بالماء الآن، تمحو آلامهم، وتسفح الدم عن أجسادهم، وهو يرقب بفزع حينًا وتأمل حينًا آخر أن تناله كتلة النور فتنجلي عتماته التي عذّبته كثيرًا.
رسم الطائر الفضي صراطًا مستقيمًا وتناثر من جناحيه ريشه الفضيّ، حطّ كلّ منها على جثّة فانبعثت فيها الحياة والشباب والبهاء، وتحولت كلّ ريشة إلى جناحين لكل جثّة؛ لتطير تلك الجثث على شكل حشود تعبر على شفا ذلك الصراط وكأنه حد السيف، وهو لا زال ينقل نظراته التي لا تخطئ أحدًا، مواريًا ضيقه من طول انتظاره من دون أن يحصل على جناحين، يزيحانه عن هذا الجحيم.
مرّ الطائر الكبير سريعًا مثل برق خاطف وتبعته تلك الحشود وقد كساها البياض حتى تحوّل كلّ شيء إلى بياض ثلجيّ يختلط لا محالة مع ألوان قوس قزح إلى مكان مجهول، ولم يبق غير جسده المستغيث الطافح بالترقّب العنيف عند نهاية تلك الليلة، في بدء مساقط تلك اللعنات.
اختفى الجميع والتحمت السماء على ظلمتها، وابتلعت الأرض ماءها قبل أن يروي ظمأه، والدم في مجرى النهر يغلي كالبركان. وبركة الدم ترتفع لتمس زرقة السماء البعيدة، مثيرة ما يكفي من رماد وشظايا وحصب يكوي الوجوه، مما يبعث الخوف والقشعريرة وصفير الريح تناغم عويل النساء الثكالى في ظلام المواخير، وأنين الرجال المقهورين، أولئك الذين انتشلهم الطير من الجحيم.
تحرّك تحت لسع النار التي تأجّجت من داخل الأرض، وبدأت بالخروج والدخول كلّما امتدّ الليل، وانجلى الأمر أمامه وهو يتذكّر كلّ آثامه وضحاياه، فأخذ يتمتم "ستنطوي صحراؤك المقرفة وحدك مع صحائفك السود"
حينها أخذ يلعن ذاكرته "لماذا لمْ تصبْ تلك الذاكرة بأي عطب حين تناثر جسدي إلى أشلاء؟". تحسّر بشدة وعضّ على يديه وهو يردد: "آآآه ليتني لم أتخذك خليلًا".
* من المجموعة القصصية ( قرابين إيرشيكال)
أين أنت ؟ لِمَ لا تردّ على اتصالاتي.
سأخبرك لاحقًا، دعني أستنشق نفسًا الآن.
رافق الردّ ابتسامة صفراء استفزته أكثر فصرخ:
هل عليّ سحب الكلام من فمك؟!
جلس شريكه على الكرسي المقابل لمكتبه وهو ما زال واقفًا بالقرب من النافذة، ينصت إلى حديثه:
نفذنا خطتك كما رسمتها لنا، دخلنا إلى مقرهم، لم نترك من فتياتهم بكرًا، بل حتى فتيانهم وتركناهم يصورونهم وهم عراة مقيدون، ومن قاوم منهم رميناه من أعلى البناية حتى انقطع صراخه.
كان يقترب من شريكه وهو ينصت له بارتياح وجلس على الكرسي الدوار خلف مكتبه، فرَدَ صدره وسحب نفسًا عميقًا، ونفث من منخريه ضحكة مكتومة، ثم رفع جوّاله واتصل:
تمت المهمة سيدي.
(كان في الطرف الآخر يجلس سيّده منتظرًا هذا الاتصال، لتعتلي ملامحه بعد سماعه الخبر، لذة الاسترخاء والطمأنينة. وما إن أنهى سيّده مكالمته معه حتى اتصل بأحدهم:
أنهيا مهمتهما، عليك بإحراق ورقتهما الآن).
كان يجلس على كرسيه الدوار منشرحًا وهو يشعر بالتفرد مع شريكه، بعد قيامهما بكل ما يوكل إليهما بنجاح، خرجا معًا بسيارته مع سائقه وحرسه الخاص الذي يجلس في الأمام بينما يجلس هو وشريكه في المقعد الخلفي، وهما يذكران معًا كلّ بطولاتهم الرعناء، كم قتلوا، كم يتّموا، كم من عوائل هجّروا. وفي تلك اللحظات لم يشعروا إلا صوت تكتكة تناثرت أشلاءهم بعدها.
مضى وقتًا لا يعلم صيرورته، كيف مضى؟ وكم مضى؟ لكنه وجد نفسه يجلس في قطار يتأرجح وهو يسير على سكة منفردة وسط صحراء شاسعة، كان يتصفح كتابًا طوال الطريق حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة، كانت صفحة بيضاء خالية من أي كتابة، فأخذ يدوّن فيها:
"قبل نيف من احتساب المغانم، التقينا، ما كنا نعلمُ أن مغامراتنا ستحتمي بعد ذلك النيف بالتقاطب أو التجاذب.. وعلى مرآى من الأمنيات، صاغتنا الفواتير الإلهية محض اختصارات لزمن أنسنته المرايا، ليكن كلانا في موقع الخسارة" تلك هي العبارات التي كتبها على الصفحة الخالية، ثم أخذ يحدّق عبر نافذة القطار نحو الصحراء الموحشة، في شطحة ذهن، أخذ يتذكر رفيقه وهما في رحلتهما نحو النهاية، شعر بالوجع ذاته، الوجع الذي عاشه حين تطايرت أشلاءه، وهو لا يعلم متى باعه سلطانه ليسقيه الكأس الذي طالما سقى منه رعاياه؟ وكيف انتهى طريقه؟ ذلك الطريق الذي نسج سجادته من العقائد التي غرسها في بستان الدم، مرتديًا رداء الحكمة، وحين تغوص قوادمه في طين الأرض، يعتقد بأن رأسه يعانق السماء، لكن اليوم فقط، أدرك أنّ القوي الذي لا مثيل له أصبح مثيرًا للأسى.
أخذت التساؤلات تهيمن على أفكاره الشاردة وهو يحدق في الصحراء القاحلة التي تمتد على جانبي سكة القطار. وعلى حين غفلة أحس بالقطار يتوقف، بينما ظلت تساؤلاته تلعب في رأسه: " أي محطة تلك وسط الصحراء؟!!" في تلك اللحظة أقبل نحوه رجل، يرتدي زيًّا رسميًّا، ملامحه جامدة، ولا تنبئ عن أية مشاعر، وقف أمام كرسيه وهو يشير إليه:
- تفضل بالنزول.. هنا محطتك.
وعلى غير عادته انصاع لذاك الرجل من دون أي اعتراض، ليهبط من القطار بلا أمتعة، وحيدًا لا يرافقه أحد، حتى رفيق رحلته الذي طالما شاركه كل مسيرته السوداء.. اختفى منذ أنْ تطايرت أشلاءهما في الفضاء.
سرعان ما تحرّك القطار ليواصل طريقه، وظلّ هو واقفًا مكانه تحت أشعة الشمس الحارقة، والرمال الملتهبة تحت قدميه.
كان يرقب القطار المغادر وهو يختفي في الأفق البعيد، جلس على حافة السكة الحديدية ثم قفز من لسعة حرارتها التي ألهبت مؤخرته، جال بنظره نحو الأفق في كل الاتجاهات، لعل هناك أي مَعْلم للحياة.. لكن من دون جدوى. ثم قرر السير في محاذاة السكة الحديدية؛ لعله يصل محطة أخرى فيجتمع مع أحدهم، أو يجد مَعْلما للمدنية، سار حتى شعر بقدميه تمتدان طويلًا وتجوبان الصحراء.
ظلّ يندفع مع عصف الرياح رغم انهيار قواه، حتى غدا مثل كرة تتدحرج فوق الرمال، سقط في حفرة حجبت حوافها المرتفعة بعضًا من أشعة الشمس الحارقة، تقوقع حول نفسه، فالتفّت أطرافه التي طالما كانت ممدودة كالأفاعي، تلتهم كل من يقف في طريقها، حينها كان يردد مع صاحبه:
- " لسنا أول من سنّ مشروع (الحل النهائي)، لقد سنّه من قبل هتلر في الحرب العالمية الثانية، وسار على مبادئه كثير من الحكام قبلنا، حتّى أصحاب المال، أبادوا شعوبًا ومزجوا الدم بالطين، وبدلوا خرائط دول حين تعارضت مع مصالحهم".
ثم سرعان ما عاد مرة أخرى يحشر جسده المنهك في جوف الحفرة، وهو يحلم بقدح ماء يروي ظمأه.. قدح واحد لا يكفي ، بل ينبوع ماء متدفق لن يطفئ جوفه الذي يحترق، وأخذ يحدث نفسه "ظمئي كبير ولساني أشبه بخشبة ألهبتها النيران لألف عام"، كان يفكر وحيـدًا، ويكابد آلام الجوع والعطش وحيدًا، وتنتابه نوبات الغضب واليأس وحيدًا، ويرتشف خيبته وحيدًا.
أحس برغبة لا تقاوم في البكاء.. لكنه خشي أن تجفّ عيناه، فلا يحظى بالدمع.
هناك، في عمق الحفرة، حيث ارتكزت قدماه، تدفق ينبوع دم، فقفز مفزوعًا من مكانه إلى خارج الحفرة، أخذ يبتعد هاربًا وهو ينظر نحوها إذ تحولت إلى بركة دم ينبعث من أعماقها أنينًا حزينًا. بدا وكأنه يهوي في الفراغ، بينما تدور حوله أخيلة بطيئة شعر بثقلها ووطأتها، أخيلة تضم نساء متشحات بالسواد يطفنَ حول تلك البركة، تصاعدت لعناتهن وامتزجت دموعهن بدم البركة، فأخذ الدم بالغليان، حينها تداعت ذاكرته إلى شاشة التلفاز وهي تنقل عويل الثكالى بعد كلّ مجزرة اقترفها بعد أن مدّ يده الطويلة فيها ليقطف رؤوسًا تصدح بنداءات استغاثة، حينها لم يملك غير الهرب بعيدًا من هول ما رأى، وعلى غفلة، هيمنت فراغات كونية هائلة امتزجت مع الظلمة، وكأن النهار تدثّر تحت رداء الليل، لم يستبح هذه الفراغات سوى عويل الريح التي حملت معها غبارًا رصاصي اللون، شق لنفسه صراطًا ملتويًا وسط الظلام المدلهم، وهو يسوق معه مدنًا تحمل رائحة الخوف والموت.
تقوقع في جلسته على الأرض، وأخذ يخبئ رأسه بين يديه وركبتيه، ويرفع من حين لآخر ناظريه وقد انسلخت عنه غطرسته وهو في هيئته التي لا يحسد عليها، ينظر إلى مرور الناس الذين طالما ازدراهم وقادهم على صراطه الملتوي.. وإن حاولوا مشاكسة ذلك الصراط نفذ فيهم "قانونه الذي لا يخطئ أحدًا" فيرمي بجثثهم في تلك القفار الشاسعة التي لا ينطفئ عطشها للدماء.
لا يعلم متى وكيف غافله النوم ليستيقظ وكأن ألف عام مرّ عليه وهو تحت شمس لم تحجبها الغيوم التي كوّنتها الأبخرة النارية وهي تتصاعد من تشققات جلده المتيبس، يتصاعد من بين حبات الرمل دخان يمخر عباب السماء، فتتوه ساعات النهار وسط الظلام، وتتوه معه مواقيت الزمان، تمرّ الأزمان مذعنة، تمـرّ أسراب بشرية، حقيقية كانت أم خيالية، ملفقة أم مبتدعـة مـن مخيلته المتعبة، تلك المخيلة التي طالما كانت قادرة على التضليل وتزييف الحقائق.
والغد يتلوه غد، واللحظات الميتة تتكدس بعضها فوق بعض ببطء.
سار مثقلًا بالخوف واليأس وكل جسده يصرخ طالبًا جرعة ماء.. حتى شعر بفرقعات المياه وهي ترتطم بالصخور، تراءى له ذلك النهر وهو يشق الصحراء، انبثقت من عينيه ومضة أمل فأسرع في خطاه نحو الجرف، اغترف بيديه جرعة ماء، فرأى قطرات دم أخذت تتساقط ببطء من بين أصابعه، ثم تخثّر الدم بهدوء حتى التصقت أصابعه ببعضها، واصطبغت بحمرة قانية.....
نفض يديه من الدم وهو ينظر باتجاه النهر كي يرى رؤوسًا طافية حملتها الأمواج التي اصطبغت بلون الدم أيضًا، استقرت تلك الرؤوس فوق الصخور، حدّقت فيه بوحشيّة، لحظتها فقط، تذكّر أصحاب تلك الرؤوس حين تراءت له مئة جثة منحورة الرأس ترمى في النهر بأمر منه بعد أن نفث سيجارته وهو يتفاخر أمام طغيانه وجبروته " لن يقف أحد في طريقي، ويستمر في الحياة، فكل ما فوق هذه الأرض يخضع لسلطاني" .
سقط عند جرف النهر، وأخذ يسحب جسده بعيدًا، سقط إلى الأبد، هلك ملكه وانغلقت بوابات ظلمه، فتضوّر جوعًا وعطشًا وهو يزحف على ركبتيه، وبين فرسخ وآخر تراءت له جثثًا طافية في الشوارع أو على الأرصفة، وحتى داخل البيوت والمحلات. مرّ الوقت ثقيلًا وسط أصداء عنيفة وهو ينهش لقمة من الطين.. فطالما اعتاد على ابتلاع اللقمة الممزوجة بالدم.. وعصفت به نهارات ملتهبة، وريح محتدمة، وليال مزجت بين لون الدم وسواد الليل الغارق في الفراغات المدلهمـة.
صدحت أصوات خرقت السماوات، لتردّد الأرض صداها، أصوات عرفها وضحك منها حين كانت تستغيث تحت التعذيب فيما مضى، واليوم تعلو تلك الصرخات المتوحشة لتنشق فراغات العالم، وينبثق من بين الشق طائر فضي عملاق، وحين أفرد جناحيه حجب السماء عن ناظريه وهو ينظر بذهول والطائر يصدر الأمواج الضوئية، فتهتز أعطاف الريح بقوة غريبة، وتنسكب كتلة النور الأبهى فوق الجثث المترامية، والرؤوس القابعة فوق الصخور.
الأرض تفور بالماء الآن، تمحو آلامهم، وتسفح الدم عن أجسادهم، وهو يرقب بفزع حينًا وتأمل حينًا آخر أن تناله كتلة النور فتنجلي عتماته التي عذّبته كثيرًا.
رسم الطائر الفضي صراطًا مستقيمًا وتناثر من جناحيه ريشه الفضيّ، حطّ كلّ منها على جثّة فانبعثت فيها الحياة والشباب والبهاء، وتحولت كلّ ريشة إلى جناحين لكل جثّة؛ لتطير تلك الجثث على شكل حشود تعبر على شفا ذلك الصراط وكأنه حد السيف، وهو لا زال ينقل نظراته التي لا تخطئ أحدًا، مواريًا ضيقه من طول انتظاره من دون أن يحصل على جناحين، يزيحانه عن هذا الجحيم.
مرّ الطائر الكبير سريعًا مثل برق خاطف وتبعته تلك الحشود وقد كساها البياض حتى تحوّل كلّ شيء إلى بياض ثلجيّ يختلط لا محالة مع ألوان قوس قزح إلى مكان مجهول، ولم يبق غير جسده المستغيث الطافح بالترقّب العنيف عند نهاية تلك الليلة، في بدء مساقط تلك اللعنات.
اختفى الجميع والتحمت السماء على ظلمتها، وابتلعت الأرض ماءها قبل أن يروي ظمأه، والدم في مجرى النهر يغلي كالبركان. وبركة الدم ترتفع لتمس زرقة السماء البعيدة، مثيرة ما يكفي من رماد وشظايا وحصب يكوي الوجوه، مما يبعث الخوف والقشعريرة وصفير الريح تناغم عويل النساء الثكالى في ظلام المواخير، وأنين الرجال المقهورين، أولئك الذين انتشلهم الطير من الجحيم.
تحرّك تحت لسع النار التي تأجّجت من داخل الأرض، وبدأت بالخروج والدخول كلّما امتدّ الليل، وانجلى الأمر أمامه وهو يتذكّر كلّ آثامه وضحاياه، فأخذ يتمتم "ستنطوي صحراؤك المقرفة وحدك مع صحائفك السود"
حينها أخذ يلعن ذاكرته "لماذا لمْ تصبْ تلك الذاكرة بأي عطب حين تناثر جسدي إلى أشلاء؟". تحسّر بشدة وعضّ على يديه وهو يردد: "آآآه ليتني لم أتخذك خليلًا".
* من المجموعة القصصية ( قرابين إيرشيكال)