أيها الليل البهيم ،
يا صديقي ،
أيها الليل الصامت يعم نفسي ، يتخللها ، يسكت شكواها ، يخمد نارها ، لا يسمع أنينها ،.
أيها الليل الصامت كنفسي ،
أسألك ما سر الصمت الذي احتواك واحتواها ،
أسألك ما سر الظلام الذي دثرها فاستأنست به ، لا تريد الانبعاث .
يا نفسي ؟
كيف ضاعت منك عناوين الرجوع من مملكة الظلام ؟
كيف ضاعت منك مفاتيح أبواب الليل ، فضعت ، انسقت إلى أمواجه تلفك لفا .
أيها الليل المدلهم ، يا نفسي ، ما عاد يجدي أن نسافر في الدموع إلى الخلاص من اليأس ، من البؤس والتعاسة والحزن ..
ما عاد يجدي التشبث بالأحلام ، بالأوهام... فكيف تستطيعين مواجهة الظلام ، حقيقة الظلام ، كيف أنام ؟
كيف أفر من صمت الخوف ؟ بعد أن حفرت لي يا نفسي قبر السكون وكفنتني بكفن حالك السواد، بالظلام ؟
كيف أحارب الأيام في أعين البشر وعلى وجوههم ؟
أيها الليل ؟
كيف أحارب الأيام ، في أعين البشر ، على وجوه كل البشر ؟.
أيها الليل ، كيف أحارب السلام وأقاوم ، وأنت السلام ، وأنت الوئام ..
كيف أحارب الأعداء وقد أعلنت أن الحرب حرام ...؟
حينما تأتي أيها الليل ، يهدأ البشر ، لكنني أثور على الزيف يتلفعون به، على الألم يقهقه ساخرا ، يصيح قائلا : ( إنها هزيمتكم .. ) .
حينما تأتي أيها الليل ، من ظلامك أضع سدا على أعدائي ، أحاول الانتصار وكأنني الفارس المغوار ..
وفي الصباح ، أكتشف أنك خدعتني والسد كان من رمال بعد أن كنت حدود قتالي .
أكره نفسي يا ليلي ، وأتمنى أن أكون الضياع .
أجول الشارع وأصول ، أجد بائع الأقنعة يصيح :
( وجوه طبق الموضة ، الجديدة ، من يشتري الوجوه ...)
أقتني عدة وجوه لأخيف خوفي، لأستهزئ من أشباح نهاري المفزعة .
لكنك حينما تأتي أيها الليل ، تلزم نفسي الهدوء ، وتحيط بي الأشباح كاشفة أقنعتها ، تعرفها نفسي ، تسرح داخل الأقنعة ، لا تجد سوى الكراهية ، فتكره نفسها على التو وتكره الهدوء والسكينة .
يلمسني الليل ، يقشعر جسدي ، يقهقه عاليا ، ويأخذني بين يديه: ( يا ليتني كنت الضياع ، فأرتمي بين أحضانه دون أن يصيبني الهلع .
أنظر إلى الليل الطويل العريض ، في عليائه ،وأنا بين يديه ، كلعبة صغيرة يتلهى بها ،وأتساءل وأنا أتمعن في عظمته وجبروته ، وأنا
أدخل إلى عالم عينيه ( ترى من يستطيع أن يقهر الليل وظلامه .. هل هي النجوم الصغيرة المشتتة على جبينه ترصعه وكأنه ملك ذو سلطان واسع ، أم هو النهار؟ ..) ,
وأسأله : ( أيها الليل ، يا صديقي ، هل النهار عدوك حقا ، تحاربه ويحاربك إلى ما لا نهاية ؟..
ويجيبني صوت جهوري تملأ نبراته القوة ، وله صدى في كل الكون :
ــ كيف لا ؟ وقد أصبحت شبحا من أشباحي المفزعة ، خذي من كراهيتي له شيئا ، فذلك سيحميك من ضوء النهار الزائف ..ستكون كراهية النهار سلاحك القوي ... فإياك أن تحبي النهار .. إياك أن تحبي النهار ..
و أشعر براحة لم أعهدها من قبل على كف الليل العريضة ، راحة الاستيقاظ بعد نوم عميق .وأعود لأسأله :
ــ كيف تمر على أجساد كل البشر فتخدرها إلا جسدي ؟ ما السر في ذلك؟
ــ قل لي أرجوك ؟ .
تمر فترة صمت ويأتيني جواب الليل بصوته العميق :
ــ أنت ، لي ، تسهرين معي في انتظار طلوع النهار عدونا اللدود ،
أنت ، لا تريدين رؤية البشر ، وأنا كذلك يا صديقتي ..
وأجيب متحسرة :
ــ لكنني مع ذلك أحب النهار ولا أكره البشر بل هم من يكرهونني ... صدقني ...
الكراهية إحساس غريب لا يتماشى مع نفسي الضائعة ...
أحسست بغضب الليل مني وكفه تضعني في تؤدة على الأرض وكانت تنهيدته عميقة اقشعر لها بدني وهو يبتعد ... قائلا بينما أتطلع إليه في خشوع :
ــ ستتعودين .. ستتعودين ..
ظللت واقفة ، أنظر إلى ظلاله السرمدية وهو يغادرني عقوبة لي وجزاء زلة لساني في غفلة من الزمن .
وتذكرت نفسي الضائعة ، مزقني إحساس عنيف أنني يجب أن أعيش حياتي الضائعة بين الليل والنهار والضياع ..
(لكن، أين هو الضياع ؟ لا أجد له أثرا ، وهل هذا هو حكم الليل علي ، أن أظل اليوم بطوله أسرح في أرض الله باحثة عن الضياع الذي سرق مني نفسي واختفى ؟)
أزور المقبرة ، بحثا عن الضياع وعن نفسي .
( أليست المقبرة الموطن الحقيقي للموت والضياع ؟فهل يا ترى ارتضت نفسي لنفسها قبرا تسكن فيه ؟ )
صحت بها بأعلى صوتي ، دون جدوى ، استجمعت أفكاري قليلا ( هل للضياع صوت لكي يجيب ؟ ..) .
لكنني لم أيأس ، بل ظللت أناديها بقوة :
( نفسي ؟ ، أيتها النفس ، لا تضيعي في القبور ، هيا إلي ، لنسافر .. أو لست عاشقة للسفر في متاهات الدموع ؟ ..)
وبعد لحظات وأنا مازلت خاشعة ، أتضرع إلى نفسي أن تعود لتملأ جسدي حيوية ونشاطا ... رأيتهم يحملون نعشها ، ويبكونها بكاء مرا . ثم رأيت حفار القبور يحمل رفشه ومعوله ويتقدم الجميع ، ...
لقد قتل النهار نفسي حين ضلت الطريق في محاولة العودة إلى جسدي
المنهوك .
ومروا أمامي ، يحملون نفسي المقتولة ، ورأيت الكراهية ترتسم في نظراتهم الزائفة .
وضعوا نفسي على الأرض وأخذوا يصلون عليها صلاة الكراهية في صمت عميق .
تحركت عيناي بسرعة ، ذهبت نظراتي لتغزو نظراتهم التي جمدتها الكراهية ، انتشلتها منهم ، أخذت كل الكراهية التي كانت تملؤهم ، دثرت بها نفسي المجندلة ، وتسللت بها بعيدا عنهم أنتظر الليل ، صديقي الحميم ..
( ليس سواك منقذي أيها الليل العظيم ..).
لكن الليل لم يأت ،
أخذت أناجيه , لم يهتم لي ولم يعرني اهتماما .. هجرني ... هجرني الليل وتركني عرضة لضياع النهار ..
( لا أريد ضياعا من غير ليل .. أريدك أيها الليل ، أسكن إليك ، أفصح لك عن سري ، لا أريد غيرك أيها الليل مهدئا لروعي .. )
على ضوء الصباح أحسست أنني والنهار وجها لوجه وقد سحب الليل عني ستاره الذي كان يحميني .
أحسست أن الطبول المعلنة للحرب ستدق ، يجب أن أكون حذرة أشد الحذر ، فالحرب خدعة خاصة وأن النهار عدو شديد المراس.
( لكم تجنبت هذه الحرب بكل ما تملك من قوة وتدثرت بظلام الليل وتغلغلت إلى أعماقه نافرة من النهار وأضوائه .
ألصقت الغطاء بوجهي بحثا عن الظلام ، بعدما تركني الليل وابتعد ، ولم يبق إلا هذا النهار المقبل بجيوش ضياعه .
أتمنى أن يصبح الزمن خارج المقياس ، ولا يأتي النهار أبدا ، ولا تقوم الحرب ..
استمتعت بمرور الوقت للحظات ، لكن الوقت لم يكن في صفي ، هذه أمي ، أحد قادة النهار ، تأتي معلنة بمزاميرها ودقات طبولها عن بدايات القتال :
ــ قد حان وقت الفطور .. انهضي وإلا ستتأخرين عن موعد شغلك ..
( أيها الليل ، أيها المخادع .. لماذا خنتني وغادرت ولم تترك لي سوى الكراهية سلاحا ... هل الكراهية سلاح ينفع للقتال طول النهار ؟
أين أنت ؟ أين أنت أيها الليل ؟ أريد ظلامك ستارا ونجومك في عيني أنظر بها إلى جسد النهار المشوه ، فأعرف إلى أي مكان منه أصوب بندقية كراهيتي) .
وتسمع مرة أخرى صوت والدتها يستحثها على النهوض :
ـ انهضي يا ابنتي .. إننا بانتظارك ، أسرعي ..
( آه يا أمي لو تعلمين أنني فقدت أعز صديق لي وكذلك نفسي ، لما ألححت علي بالاستيقاظ ، لقد تخلى الليل عني ، وتركني مكشوفة في عراء النهار وفيافيه ، وها أنا وحيدة عزلاء إلا من كراهية مقيتة غرسها في أعماقي ، بها فقط ، أواجه جيوش النهار وأقاومهم .
ونفسي يا أمي فقد لفها في ظلامه وجعله لها كفنا ، وكانت حفرة في الأرض لها مسكنا أبديا ، فكيف يتركني وأنا وهبته نفسي ,أترقبه وأرصده على الدوام .
يجب أن يعود إلي ليلي ، لن أخرج من حصنه الحصين أبدا ومهما يكن،وإذا قرر عدم العودة فسأرضى أن أضيع في النهار و أظل أسيرته طول الدهر ، وأبيح له قتل الليل كما أبيح له أن يشنق نفسي أمامي .
ـــ انهضي يا ابنتي ، ما هذه العادة السيئة ، أتريدين أن تتأخري عن العمل اليوم أيضا .
ــ لن أحاربه يا أمي ، لن أحاربه ... لدي شروط ...
ـــ ماذا ؟ يا إلهي إنك تهذين ، لا تخافي .. لا تخافي .. انتظري سأستدعي الطبيب ..
( لو لازمتني أيها الليل لما حدث لي كل هذا ؟ أرجوك أيها الليل العطوف تعالى ، أبعدهم عني ...
أيها الليل الشامخ ، المتعالي ، أستجديك أن تأخذني إلى أحضانك وتسامحني كما تفعل كل مساء .
لا تتركني لهذا الصباح ،
ــ كيف حالها يا دكتور ؟
ــ إنها في حالة غيبوبة تامة ، يجب أن تأخذ هذه الحقن لمدة أربعة أيام على الأقل ..وأن ترتاح فهي ضعيفة جدا ..
( أترى أيها الليل أنهم يبعدونني عنك ، بكل أسلحتهم وحقنهم ..
ما أشد كبرياؤك أيها الليل وما أتعسني بحبك ..
ما أشقاني بك أيها الليل ، من أجلك سأضحي ، وأقاوم ـ وسأنتصر وستعود إلي مظلما ، قاهرا ، جبارا ، عنيدا وتعود معك أحلامي .
ــ دكتور .. دكتور .. إنها تستفيق ..
الروح
يا صديقي ،
أيها الليل الصامت يعم نفسي ، يتخللها ، يسكت شكواها ، يخمد نارها ، لا يسمع أنينها ،.
أيها الليل الصامت كنفسي ،
أسألك ما سر الصمت الذي احتواك واحتواها ،
أسألك ما سر الظلام الذي دثرها فاستأنست به ، لا تريد الانبعاث .
يا نفسي ؟
كيف ضاعت منك عناوين الرجوع من مملكة الظلام ؟
كيف ضاعت منك مفاتيح أبواب الليل ، فضعت ، انسقت إلى أمواجه تلفك لفا .
أيها الليل المدلهم ، يا نفسي ، ما عاد يجدي أن نسافر في الدموع إلى الخلاص من اليأس ، من البؤس والتعاسة والحزن ..
ما عاد يجدي التشبث بالأحلام ، بالأوهام... فكيف تستطيعين مواجهة الظلام ، حقيقة الظلام ، كيف أنام ؟
كيف أفر من صمت الخوف ؟ بعد أن حفرت لي يا نفسي قبر السكون وكفنتني بكفن حالك السواد، بالظلام ؟
كيف أحارب الأيام في أعين البشر وعلى وجوههم ؟
أيها الليل ؟
كيف أحارب الأيام ، في أعين البشر ، على وجوه كل البشر ؟.
أيها الليل ، كيف أحارب السلام وأقاوم ، وأنت السلام ، وأنت الوئام ..
كيف أحارب الأعداء وقد أعلنت أن الحرب حرام ...؟
حينما تأتي أيها الليل ، يهدأ البشر ، لكنني أثور على الزيف يتلفعون به، على الألم يقهقه ساخرا ، يصيح قائلا : ( إنها هزيمتكم .. ) .
حينما تأتي أيها الليل ، من ظلامك أضع سدا على أعدائي ، أحاول الانتصار وكأنني الفارس المغوار ..
وفي الصباح ، أكتشف أنك خدعتني والسد كان من رمال بعد أن كنت حدود قتالي .
أكره نفسي يا ليلي ، وأتمنى أن أكون الضياع .
أجول الشارع وأصول ، أجد بائع الأقنعة يصيح :
( وجوه طبق الموضة ، الجديدة ، من يشتري الوجوه ...)
أقتني عدة وجوه لأخيف خوفي، لأستهزئ من أشباح نهاري المفزعة .
لكنك حينما تأتي أيها الليل ، تلزم نفسي الهدوء ، وتحيط بي الأشباح كاشفة أقنعتها ، تعرفها نفسي ، تسرح داخل الأقنعة ، لا تجد سوى الكراهية ، فتكره نفسها على التو وتكره الهدوء والسكينة .
يلمسني الليل ، يقشعر جسدي ، يقهقه عاليا ، ويأخذني بين يديه: ( يا ليتني كنت الضياع ، فأرتمي بين أحضانه دون أن يصيبني الهلع .
أنظر إلى الليل الطويل العريض ، في عليائه ،وأنا بين يديه ، كلعبة صغيرة يتلهى بها ،وأتساءل وأنا أتمعن في عظمته وجبروته ، وأنا
أدخل إلى عالم عينيه ( ترى من يستطيع أن يقهر الليل وظلامه .. هل هي النجوم الصغيرة المشتتة على جبينه ترصعه وكأنه ملك ذو سلطان واسع ، أم هو النهار؟ ..) ,
وأسأله : ( أيها الليل ، يا صديقي ، هل النهار عدوك حقا ، تحاربه ويحاربك إلى ما لا نهاية ؟..
ويجيبني صوت جهوري تملأ نبراته القوة ، وله صدى في كل الكون :
ــ كيف لا ؟ وقد أصبحت شبحا من أشباحي المفزعة ، خذي من كراهيتي له شيئا ، فذلك سيحميك من ضوء النهار الزائف ..ستكون كراهية النهار سلاحك القوي ... فإياك أن تحبي النهار .. إياك أن تحبي النهار ..
و أشعر براحة لم أعهدها من قبل على كف الليل العريضة ، راحة الاستيقاظ بعد نوم عميق .وأعود لأسأله :
ــ كيف تمر على أجساد كل البشر فتخدرها إلا جسدي ؟ ما السر في ذلك؟
ــ قل لي أرجوك ؟ .
تمر فترة صمت ويأتيني جواب الليل بصوته العميق :
ــ أنت ، لي ، تسهرين معي في انتظار طلوع النهار عدونا اللدود ،
أنت ، لا تريدين رؤية البشر ، وأنا كذلك يا صديقتي ..
وأجيب متحسرة :
ــ لكنني مع ذلك أحب النهار ولا أكره البشر بل هم من يكرهونني ... صدقني ...
الكراهية إحساس غريب لا يتماشى مع نفسي الضائعة ...
أحسست بغضب الليل مني وكفه تضعني في تؤدة على الأرض وكانت تنهيدته عميقة اقشعر لها بدني وهو يبتعد ... قائلا بينما أتطلع إليه في خشوع :
ــ ستتعودين .. ستتعودين ..
ظللت واقفة ، أنظر إلى ظلاله السرمدية وهو يغادرني عقوبة لي وجزاء زلة لساني في غفلة من الزمن .
وتذكرت نفسي الضائعة ، مزقني إحساس عنيف أنني يجب أن أعيش حياتي الضائعة بين الليل والنهار والضياع ..
(لكن، أين هو الضياع ؟ لا أجد له أثرا ، وهل هذا هو حكم الليل علي ، أن أظل اليوم بطوله أسرح في أرض الله باحثة عن الضياع الذي سرق مني نفسي واختفى ؟)
أزور المقبرة ، بحثا عن الضياع وعن نفسي .
( أليست المقبرة الموطن الحقيقي للموت والضياع ؟فهل يا ترى ارتضت نفسي لنفسها قبرا تسكن فيه ؟ )
صحت بها بأعلى صوتي ، دون جدوى ، استجمعت أفكاري قليلا ( هل للضياع صوت لكي يجيب ؟ ..) .
لكنني لم أيأس ، بل ظللت أناديها بقوة :
( نفسي ؟ ، أيتها النفس ، لا تضيعي في القبور ، هيا إلي ، لنسافر .. أو لست عاشقة للسفر في متاهات الدموع ؟ ..)
وبعد لحظات وأنا مازلت خاشعة ، أتضرع إلى نفسي أن تعود لتملأ جسدي حيوية ونشاطا ... رأيتهم يحملون نعشها ، ويبكونها بكاء مرا . ثم رأيت حفار القبور يحمل رفشه ومعوله ويتقدم الجميع ، ...
لقد قتل النهار نفسي حين ضلت الطريق في محاولة العودة إلى جسدي
المنهوك .
ومروا أمامي ، يحملون نفسي المقتولة ، ورأيت الكراهية ترتسم في نظراتهم الزائفة .
وضعوا نفسي على الأرض وأخذوا يصلون عليها صلاة الكراهية في صمت عميق .
تحركت عيناي بسرعة ، ذهبت نظراتي لتغزو نظراتهم التي جمدتها الكراهية ، انتشلتها منهم ، أخذت كل الكراهية التي كانت تملؤهم ، دثرت بها نفسي المجندلة ، وتسللت بها بعيدا عنهم أنتظر الليل ، صديقي الحميم ..
( ليس سواك منقذي أيها الليل العظيم ..).
لكن الليل لم يأت ،
أخذت أناجيه , لم يهتم لي ولم يعرني اهتماما .. هجرني ... هجرني الليل وتركني عرضة لضياع النهار ..
( لا أريد ضياعا من غير ليل .. أريدك أيها الليل ، أسكن إليك ، أفصح لك عن سري ، لا أريد غيرك أيها الليل مهدئا لروعي .. )
على ضوء الصباح أحسست أنني والنهار وجها لوجه وقد سحب الليل عني ستاره الذي كان يحميني .
أحسست أن الطبول المعلنة للحرب ستدق ، يجب أن أكون حذرة أشد الحذر ، فالحرب خدعة خاصة وأن النهار عدو شديد المراس.
( لكم تجنبت هذه الحرب بكل ما تملك من قوة وتدثرت بظلام الليل وتغلغلت إلى أعماقه نافرة من النهار وأضوائه .
ألصقت الغطاء بوجهي بحثا عن الظلام ، بعدما تركني الليل وابتعد ، ولم يبق إلا هذا النهار المقبل بجيوش ضياعه .
أتمنى أن يصبح الزمن خارج المقياس ، ولا يأتي النهار أبدا ، ولا تقوم الحرب ..
استمتعت بمرور الوقت للحظات ، لكن الوقت لم يكن في صفي ، هذه أمي ، أحد قادة النهار ، تأتي معلنة بمزاميرها ودقات طبولها عن بدايات القتال :
ــ قد حان وقت الفطور .. انهضي وإلا ستتأخرين عن موعد شغلك ..
( أيها الليل ، أيها المخادع .. لماذا خنتني وغادرت ولم تترك لي سوى الكراهية سلاحا ... هل الكراهية سلاح ينفع للقتال طول النهار ؟
أين أنت ؟ أين أنت أيها الليل ؟ أريد ظلامك ستارا ونجومك في عيني أنظر بها إلى جسد النهار المشوه ، فأعرف إلى أي مكان منه أصوب بندقية كراهيتي) .
وتسمع مرة أخرى صوت والدتها يستحثها على النهوض :
ـ انهضي يا ابنتي .. إننا بانتظارك ، أسرعي ..
( آه يا أمي لو تعلمين أنني فقدت أعز صديق لي وكذلك نفسي ، لما ألححت علي بالاستيقاظ ، لقد تخلى الليل عني ، وتركني مكشوفة في عراء النهار وفيافيه ، وها أنا وحيدة عزلاء إلا من كراهية مقيتة غرسها في أعماقي ، بها فقط ، أواجه جيوش النهار وأقاومهم .
ونفسي يا أمي فقد لفها في ظلامه وجعله لها كفنا ، وكانت حفرة في الأرض لها مسكنا أبديا ، فكيف يتركني وأنا وهبته نفسي ,أترقبه وأرصده على الدوام .
يجب أن يعود إلي ليلي ، لن أخرج من حصنه الحصين أبدا ومهما يكن،وإذا قرر عدم العودة فسأرضى أن أضيع في النهار و أظل أسيرته طول الدهر ، وأبيح له قتل الليل كما أبيح له أن يشنق نفسي أمامي .
ـــ انهضي يا ابنتي ، ما هذه العادة السيئة ، أتريدين أن تتأخري عن العمل اليوم أيضا .
ــ لن أحاربه يا أمي ، لن أحاربه ... لدي شروط ...
ـــ ماذا ؟ يا إلهي إنك تهذين ، لا تخافي .. لا تخافي .. انتظري سأستدعي الطبيب ..
( لو لازمتني أيها الليل لما حدث لي كل هذا ؟ أرجوك أيها الليل العطوف تعالى ، أبعدهم عني ...
أيها الليل الشامخ ، المتعالي ، أستجديك أن تأخذني إلى أحضانك وتسامحني كما تفعل كل مساء .
لا تتركني لهذا الصباح ،
ــ كيف حالها يا دكتور ؟
ــ إنها في حالة غيبوبة تامة ، يجب أن تأخذ هذه الحقن لمدة أربعة أيام على الأقل ..وأن ترتاح فهي ضعيفة جدا ..
( أترى أيها الليل أنهم يبعدونني عنك ، بكل أسلحتهم وحقنهم ..
ما أشد كبرياؤك أيها الليل وما أتعسني بحبك ..
ما أشقاني بك أيها الليل ، من أجلك سأضحي ، وأقاوم ـ وسأنتصر وستعود إلي مظلما ، قاهرا ، جبارا ، عنيدا وتعود معك أحلامي .
ــ دكتور .. دكتور .. إنها تستفيق ..
الروح