يمكن استشفاف الحالة الراهنة في الجزء الشرقي من القدس من مقاهي المدينة التي أغلقت أو التي ما زالت تقاوم الأسباب المؤدّية إلى الإغلاق. يمكن أيضاً ونحن نتتبّع أحوال المقاهي، التعرّف إلى الثقافة التي تخيّم على فضاء المدينة، وتشير إلى ما استجدّ فيها من تطوّرات سلبية وأوضاع.
لتوضيح ذلك، لا بدّ من التحدّث عن مقاهي القدس قبل هزيمة حزيران 1967، لأنّ ذلك يلقي الضوء على الوضع الذي آلت إليه هذه المقاهي بعد سنوات طويلة من الاحتلال. إنّ التحدّث عن المقاهي يعيد إلى الذاكرة، أيام ازدهار النشاط السياسي في المدينة، وخصوصاً أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانت المقاهي مكاناً لتجمّع النشطاء السياسيّين، الذين لا يكفّون عن بثّ الدعاية للسياسات التي تتبنّاها أحزابهم. وكان بعض هذه المقاهي التي تتّسع صالاتها لعدد كبير من الناس (مقهى "زعترة" داخل باب العامود مثلاً، أو مقهى "الباشورة" بالقرب من سوق العطّارين) مكاناً لعقد اجتماعات المرشّحين لانتخابات البرلمان الأردني، حينما كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية آنذاك.
وحينما تبلورت حركة أدبية مرتبطة بظهور مجلّة "الأفق الجديد" المقدسية، خلال النصف الأوّل من ستينيات القرن الماضي، شهد بعض مقاهي القدس حضوراً لمثقّفين وأدباء من أبناء المدينة ومن خارجها، اتّخذوا من هذه المقاهي أماكن لجلوسهم ولحواراتهم، مقلّدين في ذلك بعض كتّاب عرب وأجانب، كانت لهم مقاهيهم المختارة في مدن معروفة، مثل بيروت والقاهرة ومدريد وبراغ. غير أنّ هذا الحضور لم يلبث أن اضمحلّ مع إغلاق المجلّة ووقوع هزيمة حزيران.
وكانت المقاهي تشكّل مع النوادي ودور السينما والمكتبات والفنادق والمطاعم، مظهراً من مظاهر النزوع المدني المرافق لنهوض الطبقة الوسطى، وتعبيراً عن الميل المشروع للتسلية والترفيه، وما يستتبع ذلك من علاقات اجتماعية منفتحة، ومن تواصل مع الأصدقاء وقضاء وقت ممتع معهم، حيث يمكنهم إنْ لم يذهبوا إلى السينما أو إلى المطعم، قضاء وقت في المقهى للعب الورق، ولتدخين التمباك الذي يوضع على رؤوس النراجيل وفوقه جمرات النار، في أوقات ما بعد العصر تحديداً وحتّى ساعات ما بعد المساء.
وأمّا في ساعات النهار، فالمقهى لم يكن يخلو من زبائن دائمين من الشيوخ المتقاعدين، الذين لا يطيقون البقاء في البيوت، وما يعنيه ذلك من رتابة وضجر. ولم يكن المقهى يخلو من قرويّين قادمين إلى المدينة للصلاة في مسجدها الأقصى، أو للتسوّق أو لبيع الخضار والفواكه ومنتجات الماشية من جبن وحليب وألبان. ولم يكن يخلو كذلك من شباب عاطلين من العمل، ومن معلّمين وموظّفين من أبناء الطبقة الوسطى الخارجين من دوامهم اليومي، أو ممن يقضون بعض أوقات إجازاتهم الصيفية أو غير الصيفية في المقاهي، التي لا تكلّفهم سوى قليل من النفقات.
تميّزت مقاهي القدس آنذاك، وخصوصاً تلك الواقعة في أسواق البلدة القديمة، بطاولاتها قصيرة الأرجل التي تتساوق في القصر، مع كراسي القش التي تصطفّ حول الطاولات، وبأجهزة المذياع التي تبثّ الأغاني دون انقطاع، وبالعاملين فيها من النادلين ذوي الأصوات الممطوطة المنغّمة، التي كانت تعطي للمقاهي نكهة ذات وقع خاص. والمحظوظون من زبائن المقهى هم أولئك الذين كانوا يسبقون غيرهم إلى الجلوس في الفسحات المكشوفة المتاخمة للأسواق، حيث تطيب لهم مراقبة الخلق الذين هم في غدوّ ورواح.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أي منذ بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإقامة الحواجز حول القدس، ومن ثم ببناء جدار الفصل الذي يعزل المدينة عن محيطها، أخذت مظاهر الاضمحلال تعتري شتّى مناحي الحياة في المدينة. وقد تفاقمت هذه المظاهر وازداد خطرها مع إخفاق السلطة الوطنية الفلسطينية، لأسباب عدّة، في إيلاء اهتمام أكبر بالقدس، وفي التصدّي لإضعاف الوجود العربي الفلسطيني فيها، تمهيداً لتهويدها.
يضاف إلى ذلك تهميش الطبقة الوسطى الفلسطينية وإضعاف تأثيرها السياسي والثقافي، وتراجع الثقافة الديمقراطية بما تعنيه من عقلانية وتنوير، والنكوص إلى حالة من تردّي الوعي، ومن الانهماك في تمجيد ماضي العرب والمسلمين في محاولة للتأثير في مسار الحاضر، والانخراط في ذلك دون نقد علمي أو تمحيص، وقيام الجماعات الأصوليّة بتأجيج هذه الحالة إلى الحدّ الأقصى، ونجاحها جرّاء ذلك في كسب تعاطف فئات واسعة من الناس، ما مكّنها من ملء الفراغ الناشئ عن تدهور مكانة القوى القومية واليسارية، هذا التدهور الذي أدّى بدوره إلى إضعاف النزوع المدني، كما هو الحال على نحو واضح في مدينة القدس، وإن كانت له مظاهره المتفاوتة، في بقيّة مدن البلاد.
لذلك، لم يعد ثمة فضاء مدني يتيح للمقاهي فرصة للازدهار. فالمنتمون إلى الجماعات الأصولية، لم يعد المقهى يجتذبهم لتعارض رسالته الدنيوية مع رسالتهم الدينية. وأبناء الطبقة الوسطى أصبحوا أكثر قلقاً على المستقبل، ولم يعد المقهى وارداً في حسابهم كما في السابق، وخصوصاً مع ضعف التواصل الاجتماعي وسوء الأحوال الاقتصادية وانعدام الأمن في ظلّ الاحتلال. والقرويون لم يعودوا قادرين على القدوم إلى المدينة بسبب الحصار المفروض عليها. ناهيك عن أنّ الحياة في المدينة تضمحلّ قبيل حلول المساء.
ومع تنامي الظواهر المؤدّية إلى الاضمحلال، تحوّل عدد من مقاهي البلدة القديمة إلى محالّ للأحذية كما هو الحال مع مقهى "زعترة". وتحوّل كل من مقهى "صيام"، ومقهى "منى" داخل باب العامود إلى محلّين للملبوسات. فيما بقي مقهى "الباشورة" على حاله مع تطوير فرضته احتياجات الشباب، وهو المتمثّل في تخصيص جزء من حيّز المقهى لطاولات البلياردو. وبقي مقهى "صيام" الواقع في أوّل عقبة السرايا على حاله، بعد أن بليت كراسي القشّ التي لم يعد أحد معنيّاً بإنتاجها، ما اضطرّ صاحب المقهى إلى استخدام كراسي البلاستيك، التي تضفي على مقهاه طابعاً هجيناً مغايراً لطابعه التقليدي الأصيل.
وأما مقهى "باب العامود" فقد بقي على حاله، أقرب ما يكون إلى الكافتيريا التي تقدّم لزبائنها أنواعاُ من العصير، إلى جانب المشروبات الغازية والقهوة والشاي، والأمر نفسه ينطبق على مقاهي باب الخليل وحارة النصارى، وعلى مقهى "الباسطي" في طريق الواد، حيث أصبحت هذه كلّها أقرب إلى محلاّت الكافتيريا التي تستقبل السيّاح من الرجال والنساء.
فيما بقي مقهى "جابر" ومقهى "ناصر" داخل باب الساهرة، محافظين على طابعهما التقليدي، حيث النراجيل والزبائن ذوو الدخل المحدود من أبناء المدينة، الذين يقضون الوقت في لعب الورق أو النرد، أو في الاستماع إلى الأغاني وفي التعليق العابر على بعض الأمور.
والمعضلة نفسها تتكرّر خارج البلدة القديمة من القدس. فإذا استثنينا مقهى "الروضة" ومقهى "أبي الراجح" اللذين حافظا على طابعهما التقليدي، فإن مقهى "الشعب" القريب من محطّة الحافلات، تحوّل إلى معرض الشعب للأدوات المنزلية، ومقهى "العمال" الواقع في أوّل شارع المصرارة، اجتزأ صاحبه ثلثي حيّزه السابق، وجعل منهما محلاً لأجهزة الهاتف النقّال، ومحلاً للموادّ التموينية.
وفي حال بقي الحال على هذا المنوال، فسوف تشهد القدس إغلاق المزيد من مقاهيها أو تحويلها إلى محالّ للأحذية أو للملبوسات، بعد أن أصبح الإقبال على المقهى التقليدي ذي الأجواء الخاصّة غير ذي بال.
لتوضيح ذلك، لا بدّ من التحدّث عن مقاهي القدس قبل هزيمة حزيران 1967، لأنّ ذلك يلقي الضوء على الوضع الذي آلت إليه هذه المقاهي بعد سنوات طويلة من الاحتلال. إنّ التحدّث عن المقاهي يعيد إلى الذاكرة، أيام ازدهار النشاط السياسي في المدينة، وخصوصاً أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كانت المقاهي مكاناً لتجمّع النشطاء السياسيّين، الذين لا يكفّون عن بثّ الدعاية للسياسات التي تتبنّاها أحزابهم. وكان بعض هذه المقاهي التي تتّسع صالاتها لعدد كبير من الناس (مقهى "زعترة" داخل باب العامود مثلاً، أو مقهى "الباشورة" بالقرب من سوق العطّارين) مكاناً لعقد اجتماعات المرشّحين لانتخابات البرلمان الأردني، حينما كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية آنذاك.
وحينما تبلورت حركة أدبية مرتبطة بظهور مجلّة "الأفق الجديد" المقدسية، خلال النصف الأوّل من ستينيات القرن الماضي، شهد بعض مقاهي القدس حضوراً لمثقّفين وأدباء من أبناء المدينة ومن خارجها، اتّخذوا من هذه المقاهي أماكن لجلوسهم ولحواراتهم، مقلّدين في ذلك بعض كتّاب عرب وأجانب، كانت لهم مقاهيهم المختارة في مدن معروفة، مثل بيروت والقاهرة ومدريد وبراغ. غير أنّ هذا الحضور لم يلبث أن اضمحلّ مع إغلاق المجلّة ووقوع هزيمة حزيران.
وكانت المقاهي تشكّل مع النوادي ودور السينما والمكتبات والفنادق والمطاعم، مظهراً من مظاهر النزوع المدني المرافق لنهوض الطبقة الوسطى، وتعبيراً عن الميل المشروع للتسلية والترفيه، وما يستتبع ذلك من علاقات اجتماعية منفتحة، ومن تواصل مع الأصدقاء وقضاء وقت ممتع معهم، حيث يمكنهم إنْ لم يذهبوا إلى السينما أو إلى المطعم، قضاء وقت في المقهى للعب الورق، ولتدخين التمباك الذي يوضع على رؤوس النراجيل وفوقه جمرات النار، في أوقات ما بعد العصر تحديداً وحتّى ساعات ما بعد المساء.
وأمّا في ساعات النهار، فالمقهى لم يكن يخلو من زبائن دائمين من الشيوخ المتقاعدين، الذين لا يطيقون البقاء في البيوت، وما يعنيه ذلك من رتابة وضجر. ولم يكن المقهى يخلو من قرويّين قادمين إلى المدينة للصلاة في مسجدها الأقصى، أو للتسوّق أو لبيع الخضار والفواكه ومنتجات الماشية من جبن وحليب وألبان. ولم يكن يخلو كذلك من شباب عاطلين من العمل، ومن معلّمين وموظّفين من أبناء الطبقة الوسطى الخارجين من دوامهم اليومي، أو ممن يقضون بعض أوقات إجازاتهم الصيفية أو غير الصيفية في المقاهي، التي لا تكلّفهم سوى قليل من النفقات.
تميّزت مقاهي القدس آنذاك، وخصوصاً تلك الواقعة في أسواق البلدة القديمة، بطاولاتها قصيرة الأرجل التي تتساوق في القصر، مع كراسي القش التي تصطفّ حول الطاولات، وبأجهزة المذياع التي تبثّ الأغاني دون انقطاع، وبالعاملين فيها من النادلين ذوي الأصوات الممطوطة المنغّمة، التي كانت تعطي للمقاهي نكهة ذات وقع خاص. والمحظوظون من زبائن المقهى هم أولئك الذين كانوا يسبقون غيرهم إلى الجلوس في الفسحات المكشوفة المتاخمة للأسواق، حيث تطيب لهم مراقبة الخلق الذين هم في غدوّ ورواح.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أي منذ بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإقامة الحواجز حول القدس، ومن ثم ببناء جدار الفصل الذي يعزل المدينة عن محيطها، أخذت مظاهر الاضمحلال تعتري شتّى مناحي الحياة في المدينة. وقد تفاقمت هذه المظاهر وازداد خطرها مع إخفاق السلطة الوطنية الفلسطينية، لأسباب عدّة، في إيلاء اهتمام أكبر بالقدس، وفي التصدّي لإضعاف الوجود العربي الفلسطيني فيها، تمهيداً لتهويدها.
يضاف إلى ذلك تهميش الطبقة الوسطى الفلسطينية وإضعاف تأثيرها السياسي والثقافي، وتراجع الثقافة الديمقراطية بما تعنيه من عقلانية وتنوير، والنكوص إلى حالة من تردّي الوعي، ومن الانهماك في تمجيد ماضي العرب والمسلمين في محاولة للتأثير في مسار الحاضر، والانخراط في ذلك دون نقد علمي أو تمحيص، وقيام الجماعات الأصوليّة بتأجيج هذه الحالة إلى الحدّ الأقصى، ونجاحها جرّاء ذلك في كسب تعاطف فئات واسعة من الناس، ما مكّنها من ملء الفراغ الناشئ عن تدهور مكانة القوى القومية واليسارية، هذا التدهور الذي أدّى بدوره إلى إضعاف النزوع المدني، كما هو الحال على نحو واضح في مدينة القدس، وإن كانت له مظاهره المتفاوتة، في بقيّة مدن البلاد.
لذلك، لم يعد ثمة فضاء مدني يتيح للمقاهي فرصة للازدهار. فالمنتمون إلى الجماعات الأصولية، لم يعد المقهى يجتذبهم لتعارض رسالته الدنيوية مع رسالتهم الدينية. وأبناء الطبقة الوسطى أصبحوا أكثر قلقاً على المستقبل، ولم يعد المقهى وارداً في حسابهم كما في السابق، وخصوصاً مع ضعف التواصل الاجتماعي وسوء الأحوال الاقتصادية وانعدام الأمن في ظلّ الاحتلال. والقرويون لم يعودوا قادرين على القدوم إلى المدينة بسبب الحصار المفروض عليها. ناهيك عن أنّ الحياة في المدينة تضمحلّ قبيل حلول المساء.
ومع تنامي الظواهر المؤدّية إلى الاضمحلال، تحوّل عدد من مقاهي البلدة القديمة إلى محالّ للأحذية كما هو الحال مع مقهى "زعترة". وتحوّل كل من مقهى "صيام"، ومقهى "منى" داخل باب العامود إلى محلّين للملبوسات. فيما بقي مقهى "الباشورة" على حاله مع تطوير فرضته احتياجات الشباب، وهو المتمثّل في تخصيص جزء من حيّز المقهى لطاولات البلياردو. وبقي مقهى "صيام" الواقع في أوّل عقبة السرايا على حاله، بعد أن بليت كراسي القشّ التي لم يعد أحد معنيّاً بإنتاجها، ما اضطرّ صاحب المقهى إلى استخدام كراسي البلاستيك، التي تضفي على مقهاه طابعاً هجيناً مغايراً لطابعه التقليدي الأصيل.
وأما مقهى "باب العامود" فقد بقي على حاله، أقرب ما يكون إلى الكافتيريا التي تقدّم لزبائنها أنواعاُ من العصير، إلى جانب المشروبات الغازية والقهوة والشاي، والأمر نفسه ينطبق على مقاهي باب الخليل وحارة النصارى، وعلى مقهى "الباسطي" في طريق الواد، حيث أصبحت هذه كلّها أقرب إلى محلاّت الكافتيريا التي تستقبل السيّاح من الرجال والنساء.
فيما بقي مقهى "جابر" ومقهى "ناصر" داخل باب الساهرة، محافظين على طابعهما التقليدي، حيث النراجيل والزبائن ذوو الدخل المحدود من أبناء المدينة، الذين يقضون الوقت في لعب الورق أو النرد، أو في الاستماع إلى الأغاني وفي التعليق العابر على بعض الأمور.
والمعضلة نفسها تتكرّر خارج البلدة القديمة من القدس. فإذا استثنينا مقهى "الروضة" ومقهى "أبي الراجح" اللذين حافظا على طابعهما التقليدي، فإن مقهى "الشعب" القريب من محطّة الحافلات، تحوّل إلى معرض الشعب للأدوات المنزلية، ومقهى "العمال" الواقع في أوّل شارع المصرارة، اجتزأ صاحبه ثلثي حيّزه السابق، وجعل منهما محلاً لأجهزة الهاتف النقّال، ومحلاً للموادّ التموينية.
وفي حال بقي الحال على هذا المنوال، فسوف تشهد القدس إغلاق المزيد من مقاهيها أو تحويلها إلى محالّ للأحذية أو للملبوسات، بعد أن أصبح الإقبال على المقهى التقليدي ذي الأجواء الخاصّة غير ذي بال.