بعد الغروب، لزم الناس بيوتهم في حي النزهة بعمان، مع أن اليوم نهاية الأسبوع. فكانون الثاني هذا العام، منتصف السبعينيات كان أشد برودة من الأعوام السابقة.
أحضر مهدي، الطالب بالجامعة إلى غرفته عدة أنواع من الفواكه على رأسها الكستناء. عزم أن يقضي وحده ليلة مع فيروز، يستمع إلى أغانيها، وهي تنطلق من جهاز التسجيل القديم الذي اشتراه من سقف السيل، وسط البلد. لقد اعتذر صديقه جبر عن مشاركته السهرة لمرض أمه.
الجو في الغرفة بارد يخلخل البدن، ويرجف القلب، فالغرفة تسوية في باطن الأرض، منقسمة إلى غرفتين: غرفة صغيرة في الداخل، مثل كهف صغير، تستخدم للطبخ والاستحمام، وغرفة كبيرة للجلوس والنوم. وهي ذات الجانب الوحيد، الذي يطل على الشارع من خلال باب ونافذة واسعة. وفوق الغرفتين غرفة تسكن فيها صاحبة العقار، الأرملة أم حسان، التي تعد مهدي بمنزلة ابنها، بعد رحيل زوجها وابنها في حادث سير.
لقد استأجر مهدي الغرفة منذ سنتين بأجرة قليلة؛ إذ رقت أم حسان لحاله؛ لأنه يعيش بعيدًا عن أهله، على راتب يتحصل عليه من الجامعة لتفوقه الدراسي. إنه لا يحتاج إلى مساعدة والده، الذي يعمل موظفًا صغيرًا في بلدية العقبة.
تأكد مهدي أن النافذة مغلقة، وهيأ كل شيء ليكون قريبًا منه، حين يتمدد على سريره الحديدي. وأشعل بابور الكاز، الذي أُخرس عواؤه بغطاء مثقب في ثلاثة صفوف. فغدا صوته كخرير الماء، أو حفيف الشجر في فصل الربيع.
بدأ الدفء يسري في الغرفة. وضع الكستناء على صفيحة من التنك، راح يقلبها من وقت لآخر، وفيروز تغني" سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام". كان أحيانا يوقف فيروز، ويتوقف عن تناول الفاكهة؛ ليتذكر أهله وزملاءه؛ أما دروسه الجامعية فتعمد إبعادها عن ذاكرته، كما أساتذته. لكنه تأسى لصديقه جبر الذي فوّت على نفسه هذه الليلة.
بعد منتصف الليل دب به النشاط، وأغراه دفء الغرفة إلى التفكير في الاستحمام. نقل البابور إلى الغرفة الداخلية، ووضع عليه سخان الماء. انتشر البخار في الغرفة؛ فأحس بليونة جسمه، وبدأ في الاستحمام على أنغام الموسيقى، التي تصل إليه من جهاز التسجيل عند سريره.
انتهى من الاستحمام. شعر بدفء عظامه، وارتخاء أعصابه. أطفأ البابور، وارتفع إلى السرير، وانزلق تحت الغطاء. تذكر أنه لم يغلق الباب بالمفتاح. لكنه لم يتحرك ليغلقه" من يأتي لسرقته؟" وذهب في النوم.
عند الفجر تناهت إلى سمعه حركة بالغرفة. أحس بثقل جسمه، ودوران رأسه؛ لم يقدر على النهوض، أصدر صوتًا يشبه الأنين:
- من في البيت؟
أجابه صوت بالداخل:
- يا رجل، هل أنت على قيد الحياة؟
- ابن حلال جئت في الوقت المناسب.
- يبدو أني جئت لأنقذ لا لأسرق.
- احملني إلى المستشفى، أو إلى أقرب عيادة في الحي.
– تحسبني أحمق؟ أساعدك على الوصول إلى المستشفى، وتقول لهم اقبضوا عليه، إنه اللص الذي جاء ليسرقني، وليس الرجل الذي جاء لينقذني.
– أرجوك أكاد أموت، ولا أقوى على الوقوف.!
- اطمئن لن تموت. لا حاجة إلى المستشفى، فتحت النافذة، وتركت الباب مفتوحًا، سيتجدد الهواء في هذا القبو، ويدخل الأكسجين رئتيك، وتعود إليك الحياة.
بدأ الهواء النقي يبدد بخار الماء، ويطرد ثاني أكسيد الكربون من الغرفة، في حين كان اللص يبحث عن شيء يغنمه من هذه الغارة، التي شنها على هذا الشاب التعيس. تسلل إلى مهدي بعض النشاط، فاستطاع الوقوف، ثم هوى على السرير. التقت عيناه بعيني اللص، قال بصوت ضعيف:
- جئت في الوقت المناسب. أشكرك! أنقذت حياتي!
- ماذا استفيد منك عندما تعود إليك أنفاسك؟
- الأجر عند الله تعالى. لقد أنقذت روحًا بريئة.
- لكن ماذا عن الأجر في الدنيا؟
- كل ما أملكه لك؟
- يبدو أنك لا تملك غير بضع تفاحات في الطبق، وبعض حبات فاسدة من الكستناء.
- في محفظتي بعض القروش، أمامك على الطاولة.
تناول المحفظة، نظر فيها، ألقاها على السرير:
– هذا كل ما تملكه أيها التعيس؟
– تحسب نفسك سطوت عل بنك، وليس على تسوية!؟
قال وهو يضحك:
- أصبحت تنكت، عادت إليك أنفاسك.
–هذا بفضلك. لكن ما الذي دفعك لتبقى حتى أصحو؟ كان بإمكانك سرقتي وتركي أختنق.
– عملت ما عملته بدافع الشفقة، التي هي عند الناس جميعًا. ولكن عند أمثالي اللصوص جانب آخر لا بد أن يشبع.
– ما هذا الجانب أيها اللص اللطيف؟
- أعني أخذ شيء تذكارًا لهذه الزيارة.
نهض متكئًا على الجدار، وعرض أن يأخذ الحرام الذي اشتراه في بداية الشتاء، أو السرير الذي فصّله عند أشهر حداد في واد الحدادة، أو المسجل الذي اشتراه من مكان بيع الأثاث القديم وسط البلد، أو خزانة الملابس التي اشتراها من المكان نفسه.
تفحص الأشياء التي ذكرها ثم قال:
-هل تريدني أن أحمل هذا الحرام الوسخ برائحتك، وهذا السرير الذي لا أقدر على حمله، أو ذلك المسجل الذي بعت مثله كثيرًا في سوق الحرامية؟ وهل تضحك علي بهذه الخزانة المتهاوية؟ لا أريد أن آخذ إلا بابور الكاز.
– لك ما شئت، ولو أن البابور أهم رفيق في هذا الشتاء القارس، فهو جهاز التدفئة والطهو وعليه أسخن الماء.
- سآخذه وأنتقم منه؛ لأنه سحب الأكسجين من الغرفة وكاد يقتلك.
- ما ألطفك!
حمل البابور واتجه نحو الباب، وهو يتمنى أن يكون بصحة جيدة. وقف بصعوبة لوداعه. دعاه ألا يتعب نفسه؛ فاتكأ على الجدار، وراح يشكره، ويدعو له بالتوفيق والهداية.
هم بالعودة إلى الفراش، سمع صراخًا؛ فمشى بصعوبة. شاهد ام حسان تمسك برقبة الرجل، وتدفعه إلى الحائط وتهدده:
- سأسلمك إلى المخفر يا حرامي البوابير.
توسل مهدي إلى أم حسان أن تتركه؛ فهو الذي سمح له بالبابور؛ لأنه أنقذه من الاختناق. أطلقته أم حسان. فقال اللص وهو يرتب ملابسه:
- ألا يكفي أني صرت في هذي الليلة من رجال الدفاع المدني؟!
بعد مغادرته قالت أم حسان:
- لو سمحت لي لقدته إلى المخفر. على كل حال، انتقمت منه؟
- كيف يا أم حسان؟
أجابت باعتداد:
- سحبت غطاء رأس البابور فسيملأ أزيزه الدنيا عند تشغيله.
صحت وأنا ألوح يدي:
- عمل لم يفكر فيه جهابذة الحروب يا أم حسان!
أحضر مهدي، الطالب بالجامعة إلى غرفته عدة أنواع من الفواكه على رأسها الكستناء. عزم أن يقضي وحده ليلة مع فيروز، يستمع إلى أغانيها، وهي تنطلق من جهاز التسجيل القديم الذي اشتراه من سقف السيل، وسط البلد. لقد اعتذر صديقه جبر عن مشاركته السهرة لمرض أمه.
الجو في الغرفة بارد يخلخل البدن، ويرجف القلب، فالغرفة تسوية في باطن الأرض، منقسمة إلى غرفتين: غرفة صغيرة في الداخل، مثل كهف صغير، تستخدم للطبخ والاستحمام، وغرفة كبيرة للجلوس والنوم. وهي ذات الجانب الوحيد، الذي يطل على الشارع من خلال باب ونافذة واسعة. وفوق الغرفتين غرفة تسكن فيها صاحبة العقار، الأرملة أم حسان، التي تعد مهدي بمنزلة ابنها، بعد رحيل زوجها وابنها في حادث سير.
لقد استأجر مهدي الغرفة منذ سنتين بأجرة قليلة؛ إذ رقت أم حسان لحاله؛ لأنه يعيش بعيدًا عن أهله، على راتب يتحصل عليه من الجامعة لتفوقه الدراسي. إنه لا يحتاج إلى مساعدة والده، الذي يعمل موظفًا صغيرًا في بلدية العقبة.
تأكد مهدي أن النافذة مغلقة، وهيأ كل شيء ليكون قريبًا منه، حين يتمدد على سريره الحديدي. وأشعل بابور الكاز، الذي أُخرس عواؤه بغطاء مثقب في ثلاثة صفوف. فغدا صوته كخرير الماء، أو حفيف الشجر في فصل الربيع.
بدأ الدفء يسري في الغرفة. وضع الكستناء على صفيحة من التنك، راح يقلبها من وقت لآخر، وفيروز تغني" سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام". كان أحيانا يوقف فيروز، ويتوقف عن تناول الفاكهة؛ ليتذكر أهله وزملاءه؛ أما دروسه الجامعية فتعمد إبعادها عن ذاكرته، كما أساتذته. لكنه تأسى لصديقه جبر الذي فوّت على نفسه هذه الليلة.
بعد منتصف الليل دب به النشاط، وأغراه دفء الغرفة إلى التفكير في الاستحمام. نقل البابور إلى الغرفة الداخلية، ووضع عليه سخان الماء. انتشر البخار في الغرفة؛ فأحس بليونة جسمه، وبدأ في الاستحمام على أنغام الموسيقى، التي تصل إليه من جهاز التسجيل عند سريره.
انتهى من الاستحمام. شعر بدفء عظامه، وارتخاء أعصابه. أطفأ البابور، وارتفع إلى السرير، وانزلق تحت الغطاء. تذكر أنه لم يغلق الباب بالمفتاح. لكنه لم يتحرك ليغلقه" من يأتي لسرقته؟" وذهب في النوم.
عند الفجر تناهت إلى سمعه حركة بالغرفة. أحس بثقل جسمه، ودوران رأسه؛ لم يقدر على النهوض، أصدر صوتًا يشبه الأنين:
- من في البيت؟
أجابه صوت بالداخل:
- يا رجل، هل أنت على قيد الحياة؟
- ابن حلال جئت في الوقت المناسب.
- يبدو أني جئت لأنقذ لا لأسرق.
- احملني إلى المستشفى، أو إلى أقرب عيادة في الحي.
– تحسبني أحمق؟ أساعدك على الوصول إلى المستشفى، وتقول لهم اقبضوا عليه، إنه اللص الذي جاء ليسرقني، وليس الرجل الذي جاء لينقذني.
– أرجوك أكاد أموت، ولا أقوى على الوقوف.!
- اطمئن لن تموت. لا حاجة إلى المستشفى، فتحت النافذة، وتركت الباب مفتوحًا، سيتجدد الهواء في هذا القبو، ويدخل الأكسجين رئتيك، وتعود إليك الحياة.
بدأ الهواء النقي يبدد بخار الماء، ويطرد ثاني أكسيد الكربون من الغرفة، في حين كان اللص يبحث عن شيء يغنمه من هذه الغارة، التي شنها على هذا الشاب التعيس. تسلل إلى مهدي بعض النشاط، فاستطاع الوقوف، ثم هوى على السرير. التقت عيناه بعيني اللص، قال بصوت ضعيف:
- جئت في الوقت المناسب. أشكرك! أنقذت حياتي!
- ماذا استفيد منك عندما تعود إليك أنفاسك؟
- الأجر عند الله تعالى. لقد أنقذت روحًا بريئة.
- لكن ماذا عن الأجر في الدنيا؟
- كل ما أملكه لك؟
- يبدو أنك لا تملك غير بضع تفاحات في الطبق، وبعض حبات فاسدة من الكستناء.
- في محفظتي بعض القروش، أمامك على الطاولة.
تناول المحفظة، نظر فيها، ألقاها على السرير:
– هذا كل ما تملكه أيها التعيس؟
– تحسب نفسك سطوت عل بنك، وليس على تسوية!؟
قال وهو يضحك:
- أصبحت تنكت، عادت إليك أنفاسك.
–هذا بفضلك. لكن ما الذي دفعك لتبقى حتى أصحو؟ كان بإمكانك سرقتي وتركي أختنق.
– عملت ما عملته بدافع الشفقة، التي هي عند الناس جميعًا. ولكن عند أمثالي اللصوص جانب آخر لا بد أن يشبع.
– ما هذا الجانب أيها اللص اللطيف؟
- أعني أخذ شيء تذكارًا لهذه الزيارة.
نهض متكئًا على الجدار، وعرض أن يأخذ الحرام الذي اشتراه في بداية الشتاء، أو السرير الذي فصّله عند أشهر حداد في واد الحدادة، أو المسجل الذي اشتراه من مكان بيع الأثاث القديم وسط البلد، أو خزانة الملابس التي اشتراها من المكان نفسه.
تفحص الأشياء التي ذكرها ثم قال:
-هل تريدني أن أحمل هذا الحرام الوسخ برائحتك، وهذا السرير الذي لا أقدر على حمله، أو ذلك المسجل الذي بعت مثله كثيرًا في سوق الحرامية؟ وهل تضحك علي بهذه الخزانة المتهاوية؟ لا أريد أن آخذ إلا بابور الكاز.
– لك ما شئت، ولو أن البابور أهم رفيق في هذا الشتاء القارس، فهو جهاز التدفئة والطهو وعليه أسخن الماء.
- سآخذه وأنتقم منه؛ لأنه سحب الأكسجين من الغرفة وكاد يقتلك.
- ما ألطفك!
حمل البابور واتجه نحو الباب، وهو يتمنى أن يكون بصحة جيدة. وقف بصعوبة لوداعه. دعاه ألا يتعب نفسه؛ فاتكأ على الجدار، وراح يشكره، ويدعو له بالتوفيق والهداية.
هم بالعودة إلى الفراش، سمع صراخًا؛ فمشى بصعوبة. شاهد ام حسان تمسك برقبة الرجل، وتدفعه إلى الحائط وتهدده:
- سأسلمك إلى المخفر يا حرامي البوابير.
توسل مهدي إلى أم حسان أن تتركه؛ فهو الذي سمح له بالبابور؛ لأنه أنقذه من الاختناق. أطلقته أم حسان. فقال اللص وهو يرتب ملابسه:
- ألا يكفي أني صرت في هذي الليلة من رجال الدفاع المدني؟!
بعد مغادرته قالت أم حسان:
- لو سمحت لي لقدته إلى المخفر. على كل حال، انتقمت منه؟
- كيف يا أم حسان؟
أجابت باعتداد:
- سحبت غطاء رأس البابور فسيملأ أزيزه الدنيا عند تشغيله.
صحت وأنا ألوح يدي:
- عمل لم يفكر فيه جهابذة الحروب يا أم حسان!