13 - 09 - 1943
يا أبا رية: السلام عليك، وبعد. فإنك سألتني مسائل دقيقة، تحتاج إلى الفكر وبسط الجواب وهذا ما لا قبل لي به فأنا مريض الدماغ حقيقة، ولكني أجيبك بما قل ودل
أما سؤالك فقد كثر الكلام في جوابه، والذي أراه أنا أن ألفاظ القرآن منزلة بحروفها ونسقها وإلا بطل الإعجاز، لأن الإعجاز لا يكون إنسانياً، وقد كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فتعتريه حالة روحية وردت صفتها في البخاري وغيره، وبها ينزع من عالم الحس فتتجرد نفسه الشريفة، فيرى الملك ويسمعه ويأخذ عنه، ثم يفيق فيؤدي ما أوحى إليه بحروفه، وهي حالة كانت شديدة عليه ولذلك تسمى (برحاء الوحي)، وكان جسمه صلى الله عليه وسلم يثقل فيها جداً ويتصبب عرقاً، إلى آخر ما ورد في صفتها مما يدل على ما تلقى نفسه الشريفة في تجردها وما يلقى الجسم في هذا التجرد، ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن يكون للإنسان وعي وفكر يؤلف به نسقاً في الكلام كما توهمت، لأن هذا التأليف من أفعال المخ، ولو أمكن أن تكون الألفاظ من عنده صلى الله عليه وسلم لظهر فيها أسلوبه قليلاً أو كثيرا؛ ولما كان في حاجة إلى نزول القرآن آية فآيتين إلى عشر، بل كان يحدث عنه المعنى الذي ينطبع في روحه جمله واحدة، وفوق ذلك فهذه حالة تستدعي وقوع التفاوت في أجزاء القرآن وهو غير واقع، وأظنك لم تقرأ الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب ففيه كل شيء ما عدى كيفية نزول الوحي، لأني لم أتعرض لها إذ أردت أن يكون كتابي مقنعاً للمؤمن وغير المؤمن فجئت به من جهة العقل في كل فصوله. ومن أجل ما بينت لك جزم العلماء كلهم أنه لم ينزل شيء من القرآن مناماً، لأن النوم حالة يستوي فيها الناس لتجرد أرواحهم
أما اختلاف القراءات أحياناً في بعض الألفاظ فهو أدعى للإعجاب والإعجاز لا كما ظننت، لأن ملهم اللغة ومقسمها في ألسن العرب على اختلاف قبائلهم أنزل ألفاظ القرآن بطريقة يمكن لهذه الألسنة على تفاوت ما بينهما أن تتلوه. ومن المعلوم أن العربي يجمد على لغة واحدة وبعض العرب لا يستطيع أن ينطق غير لغته مطلقاً، كما ترى في الجزء الأول من التاريخ، فكانت القراءات لهذا السبب وكلها راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تلقاها كذلك عن جبريل عليه السلام، ما عدى القراءات الشاذة والضعيفة مما نبه عليها العلماء
أنزل الله القرآن لهداية العرب وإفحامهم به، فكان من الواجب أن تكون تلاوته متيسرة لهم على السواء، وهذا لا يتأتى إلا مع أوضاع في بعض الحروف، وهذه الأوضاع هي القراءات؛ فمن من العرب كان يستطيع أن يؤلف لكل هذه القبائل كلاماً واحداً ولا يعسر على ألسنة قبيلة من قبائلهم إلا أن يكون في الناس يومئذ إله لغوي. . .؟
من هذا ترى أن القراءات هي معنى من معاني الإعجاز انتبه إليها العرب ولا يمكن أن يدركه غيرهم ممن جاءوا بعدهم، ولهذا لا أستحسن في رأيي أن يقرأ بها الناس اليوم على اختلافها، إذ لا حاجة إلى ذلك بعد أن اجتمعت الألسنة على لغة واحدة، وقد ظهرت للقراءات فائدة تحقق معنى الإعجاز فيها، وهي تسهيل على بعض أصحاب الألسنة المعوجة كالمغاربة ونحوهم. أما في مصر فلا حاجة إليها
هذا ما يحضرني وأظنني كتبت في الجزء الثاني في هذا المعنى ما فيه كفاية. أما صحتي فهي هي، ولي رغبة شديدة إلى الكتابة والعمل، ولكن الطبيب ينهاني عن ذلك، لأن الدماغ مريض، ولله الأمر أسأله تعالى أن يعيد علي عافيتي ويزدها. والسلام عليكم ورحمة الله.
مصطفى
المنصورة
يا أبا رية: السلام عليك، وبعد. فإنك سألتني مسائل دقيقة، تحتاج إلى الفكر وبسط الجواب وهذا ما لا قبل لي به فأنا مريض الدماغ حقيقة، ولكني أجيبك بما قل ودل
أما سؤالك فقد كثر الكلام في جوابه، والذي أراه أنا أن ألفاظ القرآن منزلة بحروفها ونسقها وإلا بطل الإعجاز، لأن الإعجاز لا يكون إنسانياً، وقد كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فتعتريه حالة روحية وردت صفتها في البخاري وغيره، وبها ينزع من عالم الحس فتتجرد نفسه الشريفة، فيرى الملك ويسمعه ويأخذ عنه، ثم يفيق فيؤدي ما أوحى إليه بحروفه، وهي حالة كانت شديدة عليه ولذلك تسمى (برحاء الوحي)، وكان جسمه صلى الله عليه وسلم يثقل فيها جداً ويتصبب عرقاً، إلى آخر ما ورد في صفتها مما يدل على ما تلقى نفسه الشريفة في تجردها وما يلقى الجسم في هذا التجرد، ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن يكون للإنسان وعي وفكر يؤلف به نسقاً في الكلام كما توهمت، لأن هذا التأليف من أفعال المخ، ولو أمكن أن تكون الألفاظ من عنده صلى الله عليه وسلم لظهر فيها أسلوبه قليلاً أو كثيرا؛ ولما كان في حاجة إلى نزول القرآن آية فآيتين إلى عشر، بل كان يحدث عنه المعنى الذي ينطبع في روحه جمله واحدة، وفوق ذلك فهذه حالة تستدعي وقوع التفاوت في أجزاء القرآن وهو غير واقع، وأظنك لم تقرأ الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب ففيه كل شيء ما عدى كيفية نزول الوحي، لأني لم أتعرض لها إذ أردت أن يكون كتابي مقنعاً للمؤمن وغير المؤمن فجئت به من جهة العقل في كل فصوله. ومن أجل ما بينت لك جزم العلماء كلهم أنه لم ينزل شيء من القرآن مناماً، لأن النوم حالة يستوي فيها الناس لتجرد أرواحهم
أما اختلاف القراءات أحياناً في بعض الألفاظ فهو أدعى للإعجاب والإعجاز لا كما ظننت، لأن ملهم اللغة ومقسمها في ألسن العرب على اختلاف قبائلهم أنزل ألفاظ القرآن بطريقة يمكن لهذه الألسنة على تفاوت ما بينهما أن تتلوه. ومن المعلوم أن العربي يجمد على لغة واحدة وبعض العرب لا يستطيع أن ينطق غير لغته مطلقاً، كما ترى في الجزء الأول من التاريخ، فكانت القراءات لهذا السبب وكلها راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تلقاها كذلك عن جبريل عليه السلام، ما عدى القراءات الشاذة والضعيفة مما نبه عليها العلماء
أنزل الله القرآن لهداية العرب وإفحامهم به، فكان من الواجب أن تكون تلاوته متيسرة لهم على السواء، وهذا لا يتأتى إلا مع أوضاع في بعض الحروف، وهذه الأوضاع هي القراءات؛ فمن من العرب كان يستطيع أن يؤلف لكل هذه القبائل كلاماً واحداً ولا يعسر على ألسنة قبيلة من قبائلهم إلا أن يكون في الناس يومئذ إله لغوي. . .؟
من هذا ترى أن القراءات هي معنى من معاني الإعجاز انتبه إليها العرب ولا يمكن أن يدركه غيرهم ممن جاءوا بعدهم، ولهذا لا أستحسن في رأيي أن يقرأ بها الناس اليوم على اختلافها، إذ لا حاجة إلى ذلك بعد أن اجتمعت الألسنة على لغة واحدة، وقد ظهرت للقراءات فائدة تحقق معنى الإعجاز فيها، وهي تسهيل على بعض أصحاب الألسنة المعوجة كالمغاربة ونحوهم. أما في مصر فلا حاجة إليها
هذا ما يحضرني وأظنني كتبت في الجزء الثاني في هذا المعنى ما فيه كفاية. أما صحتي فهي هي، ولي رغبة شديدة إلى الكتابة والعمل، ولكن الطبيب ينهاني عن ذلك، لأن الدماغ مريض، ولله الأمر أسأله تعالى أن يعيد علي عافيتي ويزدها. والسلام عليكم ورحمة الله.
مصطفى
المنصورة