طيبة فاهم ابراهيم - طابور الصريعات...

ليس لدي وقت فراغ، فانا بحاجة لسنّ قانون خاص بي يمدد اليوم ليجعله ثلاثة ايام !!
يومي مقسم بين الاستيقاظ منذ الفجر، افطار بسيط، الذهاب نحو الجامعه، العودة للنادي كي ادرب الفتيات، التدريب حتى المساء استعدادا لبطولة محلية او دولية، العودة للدار وطبع قبلة على جبين امي الحبيبة، عشاء بسيط ومطالعة، ثم ينتشلني النوم نحو اعماق اعماق عالمه الغارق بالاحلام..
كثير من صويحباتي عند ساعات نادرة ونحن نرتاد مطعما للغداء، يسألنني ان كانت هذه المشقة تعد حياة جميله، فاجيبهن ان لذة حياتي مع عبادتي لا تعدلها لذة في الوجود، كفاني هدفي الذي وضعته واسعى اليه وانا احقق كل يوم نصرا يقربه مني ويجعله حقيقة.
كان يوما عاديا ذاك الذي كنت ادرب فيه الفتيات على تمارين الرشاقة قبل تدريبهن على الدفاع عن النفس ، حين اخبرتني إحدى المعينات ان فتاة تود مقابلتي وهي تنتظر، فأعلمتها انني قادمة للقائها، واوصيتها بواجب الضيافة.
كانت فتاة طويلة القامة، ممشوقة القوام، تكبرني بأعوام قليلة وفي سحنة وجهها ما يدعو للراحة والمحبة.
صافحتها وجلسنا وقد عرفت لي نفسها انها صحفية تعمل في كبريات الصحف وتدعى غيداء نادر، اجبتها انك صحفية معروفة ولا احتاج لتعريفك وقد احببتك من كتاباتك..
اجابت : وانا احببتك من نزالاتك..
ضحكنا من القلب، ثم استأذنتني لتجري معي تحقيقا صحفيا حول حياتي وبطولاتي، كنت مجهدة لكن ادبها وطيبتها دفعاني للاستجابة لطلبها، فاستاذنتها لاضع بديلة عني واعود اليها.
كانت اسئلتها جميلة تدل على حرفية وثقافة عاليتين، وكنت سعيدة على وجه من الوجوه بهذا اللقاء الصحفي، وقد زودتها ببعض الصور عن انتصاراتي بالقاضية، وخطوات مشواري الرياضي المثقل بالالم والجهد والجراح ولذة الانتصار اخيرا.
ودعتني بلطف بعد ان اخذت رقم جوالي، ثم اتصلت بي عقب ايام لتخبرني ان اللقاء قد تم نشره.
اقتنيت الصحيفة، وباشرت اعمالي وعدت كالعادة منهكة نحو داري مساء، لكنني لم استسلم للنوم، بل قاومت النعاس وصرت اطالع ما وصفتني به، وكان اسلوبها مختلفا ومميزا مدهشا.
وصفتني بجمال ووصفت شخصيتي بدقة، لكن ما اذهلني حقا هو تعليقاتها على صوري عقب انتصاراتي في الملاكمة والمصارعة الحرة، وخصماتي ممددات ارضا.
كتبت تعلق على إحدى الصور : الاسد طيبة تقف بشموخ وقد تمكنت من صرع خصمتها وتركتها في حال يرثى له حقا، وعلقت على صورة أخرى : إحدى صريعات طيبة اسد الحلبات ملقاة إلى جانب الحبال وهي منسية، والجمهور يهتف للمنتصرة، وصورة ثالثة كتبت عنها وقد بدت خصمتي تحتي صريعة بلا حول ولا قوة : اسد تصطاد فتاة جلبها سوء الحظ لتصارع..
واقعا ما كنت لاتخيل هذه المقدرة على التصوير لولا اني اطالع بعيني ما كتبته غادة، فعلمت اني قبالة صحفية متمكنة من ادواتها ان لم نقل خطيرة، وهو ما دفعني للاتصال بها وشكرها، ثم بعد حديث متشعب انتهى الاتصال فاستسلمت لمنام ليلة هانئة.
لم تكد تمر ايام قليلة حتى وجدتها قبالتي في النادي، اندفعنا نحو معانقة بعض مثل اية صديقتين حميمتين، ولم تدعني اشكرها عن المقالة، بل هي من شكرتني بجد، وقالت لي : ان طابور صريعاتك طويل، يمتد من بغداد الى الصين كما تقول الاغنية، فضحكنا ملء قلبينا.
سرعان ما طلبت مني ان نلتقي خارج اسوار النادي، وحين اجبتها انا هاهنا لوحدنا، كان جوابها: صوت الحديد وتأوهات الفتيات وآلامهن يمنع الحديث، فتجاوبت مع ضيفتي واصطحبتها الى اقرب مكان من النادي، مشترطة ان يكون كل شيء على حسابي الخاص.
حين اتخذنا اماكننا في الكافيتريا، اوضحت لي انها منفصلة ولم تعد تفكر في الارتباط، وانها واقعا قد ذهلت من بطولاتي وقدراتي، وتود ان تتدرب على المصارعة الحرة كونها تعشق هذه الرياضة الساحرة.
تبسمت بوجهها واخبرتها اني ممن يشجعن بنات جنسها على مزاولة الرياضة، لكن هذه اللعبة تحتاج إلى مقومات، القوة والسرعة والذكاء والتدريب الطويل قبل ان تطلبي من احداهن مصارعتك، فالمصارعة ليست نزهة.
ابدت لي الموافقة على ما قلت، وبدات تتدرب معنا، وكانت ذكية وتتعلم الحركات باتقان، وعندما طالبتها المدربة السيدة رباح الصراع مع أشواق، تمكنت من صرعها، وفازت بالنقاط على اللاعبة علا.
كانت سعيدة للغاية بهذين الفوزين، وكنت اسايرها واشجعها، فانا اعدها كاتبة ممتازة وأديبة جميلة، لاسيما وانها امطرتني قبلات وقد فازت بجائزة للقصة القصبرة بعد ان تبارت مع اربعين قاصا وقاصة من عموم محافظات القطر.
كانت مندفعة في المصارعة بشكل لا هوادة فيه، واثقة من انها ستنال المركز الاول في الوزن الثقيل، وتمازحني دوما بالقول : احمد الله اننا لسنا من وزن واحد، فلسوف تصرعني محبتك، فنضحك بصدق تام.
كان الجميع يبدون اعجابهم بها كصحفية ، وببدون اعجابهم بي كمصارعة وملاكمة ولاعبة فنون قتالية وأديبة في ذات الوقت، ولم اجد منها أدنى حقد او حسد، بل تعد امتداحي امتداحا لها كونها تعدني نفسها.
حين كنت اسألها عن البطولة التي ستشارك بها، اجابتني انها واثقة من المشاركة، فهي ستجتاز التصفيات بسهولة، فنبهتها الى ان التصفيات ليست بالشي الهين، وسوف تواجه بطلات لا يستهان بهن على البساط ويجب ان تصرعهن، فتجيبني : ساصرعهن، لا تبالي اسد، فالامر ايسر مما تتصورين.
صرت احبها بشدة، وصارت صديقتي اللصيقة، واعجبتني قدرتها على الدفاع عن نفسها، حين تحدثت الفتيات عن تحرش احد الاوباش بها، فطرحته أرضا خلال ثوان معدودة وهو غير مصدق، ولقنته درسا قاسيا رغم انه لاعب كمال اجسام.
كان يوم التصفيات يوما حاسما، فالجميع متحمسات للنزال كي يشاركن في البطولة، وبدا اللعب قويا للغاية، وقد تم اعفائي من التصفيات كوني قد صرعت سابقا جميع بطلات وزني واحتفظت ببطولة البلد طوال هذه السنين.
كانت ثقة غادة بنفسها كبيرة، وهي تواجه بطلة الوزن الثقيل لمى، وكان دافعها للثقة هو تغلبها على الفتيات في التدريب، وقدرتها على طرح شاب قوي ارضا بيسر.
ابتدا النزال بالنظرات الحادة بين المتصارعتين، وكانت لمى مصارعة محنكة، جبارة، مقتدرة، نطلق عليها لقب الحوت، قد انطلقت لتتشابك مع غادة في لعب ارضي ابدت فيه مهارة واقتدارا عاليين، فقد اجهدت لمى صاحبتي غاده في اللعب على البساط، وحملتها وقذفت بها مرارا، والتفت بها اكثر من مره، فاوصلتها حالة الانهيار وعدم القدرة على المقاومة والمطاوله، وفؤادي يتمزق الما بالفعل، لكنه اللعب والحق والبساط الحاكم.
عقب دقائق من تلاعب لمى بصاحبتي وقد اصبحت خرقة بالية، اشارت لها المدربة والمحكمه رباح ان تنهي النزال فثبتت كتفيها وتركتها صريعة البساط، وحين رفعت المحكمه يد لمى للفوز حاولت وضع إحدى ركبتيها على غادة واستعراض عضلاتها، غير ان السيده رباح منعتها من ذلك، وحذرتها من تكرار ذلك.
ساعدت غادة على النهوض وكانت في حالة ذهول ودوار وانهيار وتعب لا يمكن وصفه، وضعتها في سيارتي وانتظرت حتى تستعيد وعيها كي انطلق بها لاهلها، إذ كانت في حال يرثى له حقا.
حين بلغنا دارها شكرتني وعانقتني ولم اطمئن الا وهي تسير بشكل مقبول وتدخل الدار ونظراتي تتابعها بقلق، فقد بدا التعب على وجهها جليا، لكنه التعب نفسه الذي ينتابنا عقب تمارين شاقة،
من فرط حبي لها لم اتصل بها او اراسلها، بل تركت كل شي وتوجت صوب دارها، وبعد عناق ولهفة في الاطمئنان على وضعها، بدت منكسرة خجول وهي تقول لي :
- كانت خسارتي معيبة يوم امس، لم اقدم اي شي قبالة لمى.
- كلا حبيبتي مجرد التحدي هو قوة بذاتها، وانت مصارعة متمكنه وقوية
- شكرا اسد لمواساتك
- ليست مواساة، الرياضه فوز وخسارة، وانت - عملت ما عليك، كل ما في الامر انك ظننت ان صرع شاب قوي يعني القدرة على مواجهة شابة مصارعة، وهذا وهم تقع فيه كثيرات، فالشاب الذي تصرعينه يختلف عن مصارعة محنكة مثل لمى، الشاب يطمع فيك، اما لمى فتطمع بصرعك وانتن فيكن اتقان لنفس الحركات، لكن الله لم يوزع نفس القوة على الجميع مثلما لم يساوي الكل في المال والرزق.
- لذا فقد لعبت بي مثل الكرة يوم امس
- حبيبتي، انت اديبة متمكنه وصحفية لامعة ومصارعة جيدة، لكن لكل قوي قويا يلاويه، نفسها لمى، فقدت وعيها تماما قبل اشهر امام مصارعة تونسية بعد ان طبقت عليها مسكة تقييد الرقبه والقدمين وتركتها بلا حراك..
- اووف، هل يمكن ان يعقل هذا؟ وانت يا طيبة الم تنتصري على بطلة مصر؟ لم لا اصل مستواك انت؟
- بلى، فزت وقد وضعت بفكري النصر والخساره، ان اعمل ما علي والباقي كتبه الله لنا او علينا، وقد ذبت وقتها في الحديد والتمارين حتى حققت مرادي.
- طيوب، اتعلمين ان انسانيتك وحدها هي الأكبر من قوتك
يا حبيبتي يا غادة
- انا محظوظة بك وتدفعينني للنصر
- وانا احبك اديبة مبدعة وبطلة قوية، كل ما عليك هو الاستمرار في التمرين، والان -ياغاده انا في حال من الاحتصار والضجر، لننفه عن انفسنا بالخروج ونجلس في اقرب مطعم
- اكيد اتمنى ذلك معك، لكن عليك ان تحملينني نحو المطعم، إذ لم تبق بي لمى عضلة صالحة للعمل..
ضحكنا بقوة، وعانقتني بصدق، وصارت تهمس باذني : سأكون اول من يكتب عن انتصارك القادم طيوب، فالاسد لا يعرف الخسارة ابدا.

طيبة فاهم ابراهيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى