فاطمة البسريني - الروح المجرمة...

إنهم مريبون ،يدفعونك للشك ، يجعلونك تشعر بالدفء والعاطفة ، يملؤون المكان بالمرح ويفعلون كل شيء لتبحث عنهم وتثقفى آثارهم من جديد .
يبعثون فيك الأمل ويجعلونك تشعر بالشغف لكنهم لا يفعلون ذلك ، إلا لكي تزحف وراءهم وتتمنى رضاهم .
لكن ، أتعرف لوكنت ذكيا فيجب ألا تزحف ..
ــ وهل أستطيع ؟
ـ نعم ، تستطيع أن تأخذ العسل من الورود وتحس أنك ملكت العالم كله ، وأنت تغدي بها روحك وجسدك ..
ـــ أنت تلقي بكلمات فقط دون تجربة سابقة ، ألا تعرف أننا نصاب بالعمى أحيانا ، يطمس أمامنا الطريق ، فلا نتمكن من معرفة أن العسل في الحقيقة هو سم زعاف ، وحينئد فإن الموت يكون منك قيد أنملة ، قريب جدا منك أينما يممت وجهك .
تصبح لديك مخاوف وتهيؤات وتطاردك الخيالات والظلال والأحلام الرهيبة المزعجة التي لا تفارق ذهنك .
تكابر ، تطرد كل ذلك من دماغك باستماتة ، تحاول أن تبتعد عن كل ما يسبب لك ذلك ..
ـــ ما الذي يسبب لك ذلك ؟
ــ السبب ؟ إنس الأمر ، فذلك لا يمكن تفسيره ولا حتى التعبير عنه ، وهل أعرف السبب أصلا ؟
أتعرف لا فائدة من الحديث عن ذلك ؟
ـــ يجب أن تقول وتتخطى ذلك فربما السبب في روحك فقط .
ـــ لا يمكنني فلا وجود لكلمات يمكنني أن أصف بها ما يراودني من أحاسيس تسيطر علي ، أحاسيس سيئة فعلا ، أه .. سيئة جدا ..
كل ما أعرفه أنني أريد قتل (منانة ) زوجتي ... فهل أريد ذلك حقا
نعم يصل بي الأمر لعدم التمييز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي كما لو أن الموت يستولى علي بصورة غير طبيعية ، فأنا أشعر بالموت دون أن أكون ميتا حقا . .. وكأن روحي ليست روحي تماما .. وتثور روحي تلك داخلي وكأن الشيطان سكنها .
أنا أحب ( منانة ) فكيف أستطيع أن أقتلها ؟
ــ لا تذهب وراء روحك وما تمليه عليك ،
صدقني ، أفعالنا في الماضي تطاردنا سواء أردنا ذلك أم لا ..
كل شيء ينسى ، والحقيقة الموشومة على الروح هي التي تبقى ،
إن الموت يلاحقنا فدمنا يصبح مسموما مع أول جريمة ترتكبها روحنا ،
أنت تقاتل من أجل حياتك كل لحظة لكنك محاصر بين براثن الموت وفي رغباته غير المحققة بكل خطإ ترتكبه الروح ..
حتى بعد موتنا ، ستبقى معنا ،لن نصدق ما لا نعرفه ولكن أمرنا سينتهي ..
إن كنت على قيد الحياة فهناك سبب خاص لذلك ، في اليوم الذي ستكتشف فيه ذلك ، ستموت ...
نحن على قيد الموت ونحيا بعض الفترات فقط مما تسمح به الحياة ، نستمتع بالأيام التي نقضيها مع الروح المجرمة ... إن لم تقتلها فسوف تقتلك ...
نظر إليه نظرات مليئة بالريبة والشك ولكنها في نفس الوقت حاسمة ومشجعة وكأن ما سيقوله هو نهاية كل الدمار الذي يشعر به وقال بحزم ويقين :
ـــ لديك مهمة هذه الليلة بالذات ، وإلا ستموت ، أو بالأحرى ستعود إلى موتك الموارب لا هو ذهب وأغلق الباب ولا هو فتحها لك على مصراعيها ، هل تفهمني ؟ هل تفهمني ؟ ...أنت يجب أن تقص خصلة من شعر زوجتك في غفلة منها ، حاذر أن تنتبه إليك وإلا ستقتلك دون رحمة ..
أحس أنه يهبط بسرعة كبيرة ، ليرتطم بقوة بروحه المظلمة المسننة والتي تجعله ينزف كثيرا من الداخل...
أجاب بهدوء لا ينم عما يعتمل في صدره :
ــ حاضر سيدي ، سأفعل .. سأفعل ..
يأتي وقت حيث الاعتراض لا ينفع ، بل يجب المرور إلى الفعل ، بعد الكلام هناك الأفعال ، هكذا تسير الحياة...
عاد إلى بيته وهو مذعور مما طلبه منه الرجل الحكيم العجوز .
فكر كثيرا بالطريقة التي يستطيع من خلالها القيام بمهمته على أحسن وجه دون إثارة انتباه زوجته( منانة).
لم يكن مطمئنا أبدا رغم أن العجوز أخبره أنه سيكون معه في كل لحظة وسيساعده لأن ( منانة ) لا تنام ولا يغمض لها جفن وهي حذرة جدا ، وهو هالك لا محالة .
أحس بانقباض شديد وهو يفتح باب بيته ليدخل أو أن باب البيت انفتح من تلقاء نفسه ، فهو لم يعد يعرف شيئا مما يحصل معه ، منذ أحب ( منانة ) التي كانت تضع قناعا صنعته لنفسها بدقة والتي لم تنزعه إلا لما أصبحت زوجته .
هو الآن ، لا يعرف مع من يعيش ، هل زوجته آدمية أو جنية تتلاعب به كما تشاء .
كانت تقف أمامه وتنظر إليه نظرات مخاتلة ، يغمرها الشك القاتل ..
كانت وكأنها تقرأ أفكاره ..
قال بصوت منخفض :
ــ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
نظر إليها بسرعة ، كانت عيناها بلون الدم وقد جحظتا وهي تقول بصوت أجش ، خشن ، وكأنه صوت رجل قوي :
ــ أين كنت ؟ وماذا كنت تفعل ..؟
أصابه رعب شديد .. لكنه لم يظهر شيئا من ذلك .. بل تجاوزها مندفعا إلى الداخل ..
تبعته للتو ، كانت تدرك تماما نواياه ، لكنه قال لها بهدوء كامل :
ــ هيا حبيبتي .. قد أحضرت لك الشراب الذي تريدين ... هيا ( منانة ) أحضري الأكواب .
كانت مخاوفه تسيطر عليه ، تلك المخاوف تجعل روحه المجرمة تظهر إلى السطح وتجعله يقوم بأي شيء مهما كان سيئا ، وهكذا فقلقه يزداد ولا يترك له فرصة للتفكير.
إن تأثيرها عليه قوي جدا ، وهو يعرف تمام المعرفة أن عينها لا تنام وأنها تراقبه دائما وفي كل لحظة..
لا يعرف ما يجب عليه القيام به ولا ما الذي يشعر به
تجمدت مشاعره وتوقفت ..
كل كلماتها لا تفعل شيئا إلا أن تملأ قلبه بمرارة قاتلة وأسئلة تكاد ترديه ...
ما يعرفه أن روحه المجرمة لن ترتاح إلا إذا أنهى أمر (منانة ) وقتلها ..
أما ( منانة ) فكانت على علم بما يروج في نفسه وبكل ما يدبره لها ولم تكن ترتاح له أبدا ،
لا تستغربوا من ذلك ..
فاللحظة الوحيدة التي كانت ترتاح فيها هي عندما تبتعد روحه المجرمة عنها وكان أملها الكبير أن تتمكن من القذف بها إلى عمق الجرف الرهيب داخله دون أن تؤذيه فلقد أحبته حقا ..
لم تكن منتبهة إلى ذلك منذ البداية ..
كانت تنصت إلى أفكاره .. إلى ما يقوله قلبه ..
وقد تذمرت فعلا لما اكتشفت روحه المجرمة ...
وإنها ترتعش من الغيظ والغضب وهي تحمل إليه الأكواب كما طلب منها وهي على علم أنه يريد تنويمها ليقص من شعرها كما أمره الشيخ العجوز ...
تلوذ فقط بصمتها الأبدي والتأمل والنظر بعيدا وكأنها تستشف ما وراء الحياة .
ابتسمت بينها وبين نفسها .. هو لا يعرف الموقف الذي وضع نفسه فيه ( لا أحد سينقذه مني ، ومن سمي الرعاف ).
لم تكن تريد هذه النهاية لحياتهما معا .. فقد أحبته بكل قواها في زمن مضى ، قبل أن توقظ روحه المجرمة كل عفاريتها .
اقتربت منه والكأس بيديها وناولته إياه وقد استحضرت كل أساليبها في الإقناع وكل شخصيتها الطاغية التي اكتسبتها على مر السنين الماضية.
قالت له وهي ترتشف من كأسها :
ـ اشرب نخب حبنا الأبدي ...
الليل يضع يده على جفني الليل، يمحي الظلال وينسجم معها ليغطي أيضا نور عينيه التي أقفلتا إلى الأبد ، ولينهي أمره في تؤدة وصبر ..
الليل يداعب كل شيء يجده في طريقه ، ويغمر روحه المجرمة أيضا بظلاله السوداء الحالكة .. ويملأ روحه التي انتفضت لفترة في حشرجة قصيرة ، وسلمت بعد ذلك نفسها التي اصطدمت بالموت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى