ميرفت الخزاعي - الوجه الآخر للقمر...

أيتها الأميرة، أنا تابعكِ الوفي، اعذري تطفلي وفضولي، لكن نصفي الآخر كثيرًا ما يتباهى عليّ بقدرتهِ على رؤيتكِ والتمتع بجمال تضاريسك. يفتخرُ بقوته التي تخضعُ لها مياه محيطاتكِ وبحاركِ وأنهاركِ.
ليلاً ونهاراً، صبحاً ومساءً، لا يتعبُ ولا يكلُ من ذكرِ محاسنكِ: قمم جبالكِ، بطون وديانك، قيعان بحاركِ، سهولكِ، هضابك وتلالكِ. ولا يكفُ عن التغزل بفوهات براكينكِ، حتى تلك الخامدة منها.
الغيرةُ تجتاحني والحسد على ما رأى واستحسن، وأتعجبُ مما ينقلُ من محاسنك.
أتمنى ولو لمرةٍ واحدة فقط أن أعاين ما شاهده ذلك الجانب، وأتأكد من صحة كلامه، فأنا أخشى أن يكون منافقاً وكذاباً. اقصد ان يكون مقصراً وغيرَ أمينٍ في نقل الحقيقة كاملة.
حقيقة كونكِ الكوكب الوحيد في المجموعة الشمسية الذي يحملُ سرَّ الحياة.
أيتها الاميرة، لا يصيحُ فيكِ الغضب ولا تقعي فريسة الخوف، سأستديرُ ببطءٍ، ولن ينتبه أحدٌ لذلك، حتى أنتِ. لن تشعري بأي فرق، فنحن نصفان متماثلان جداً، عدا كثرة الفوهات الصدمية وسماكة قشرة سطحي مقارنة بمثيلتها.
ابقي هادئة وأعدك بألا يتأذى أيٌّ من مخلوقاتكِ. وتذكري أنني أملك جاذبية أسيرُ بها أمواجكِ، وأتحكمُ بمياهكِ.
دعيني لليلةٍ واحدة فقط أتطلعُ لأميرتي الحسناء، وأتزودُ من جمالها بما يُعينني على احتمالِ الظلمة الموحشة التي أغرقُ فيها مذ خُلقت.
تحسسّ سطحهُ الخالي من أي أثرٍ لعابرِ زمنٍ أو زائرِ فضاء، سطحه المفتقر لايِّ تغيراتٍ او تبدلات. العاري من أي غطاءٍ نباتي أو نشاطٍ بركاني.
سطحه الذي لا يثيرُ اهتمام أحد فلا مياهٌ متجمدة تنضوي تحت طبقاتهِ كالمريخ ، وليس له من سطوع فخر المجموعة الشمسية ولا جمال لؤلؤتها زحل ولا جاذبية متكبرها ومغرورها المشتري.
لكنه ربما الوحيد الذي ينافسُ الزُهرة في لمعانهِ وقربه من الأرض.
هذا ما حدث حين قررَّ الجانبُ البعيدُ للقمر التمردَ والخروج للعلن، وإقصاء (ظهره).
تلاعبَ بعداد السرعة، حرفَّ خطوط مداره، وعكس اتجاه حركته.
لم يُثر هذا الأمرُ سكانَ الأرض، إذ لم يلحظوا أي شيءٍ غريب.
الأضواء المنبعثة من كشافات الفضاء والأقمار الاصطناعية أصابته بالدوار، ولبضعِ ساعاتٍ اختلَ توازنه، فأخذ يهتزُ باضطرابٍ كثَملٍ يدوسُ فوق عشبٍ ندي.
ثم هاله منظر الناس وهم يتراكضون في كل النواحي والاتجاهات.
الصواريخُ والقنابل التي تتقاذفها الطائراتُ الحربية، التجاربُ التي تُجرى في أعماق المحيطات ظنها احتفالاتٍ بظهوره الشاحب.
واينما نظر وجدَ حدقاتٍ متلصصة، تطالعه بفضولٍ شديد: العلماء، الفنانون، العُشاق، الشعراء والحراس اخترقوا خصوصيته واستباحوا حرمته وانتهكوا عزلته وصوبوا نحوه عدسات تلسكوباتهم ومناظيرهم ومقرباتهم وكاميرات هواتفهم.
شعرَ بأنه مراقب ومطارد كمن ارتكبَ جرماً.
وقبل بزوغ الفجر صاح: يكفي هذا.
وتوقفَ أجزاءً من الثانية قبل أن يعاود مساره القديم، ويدورُ خائباً، متراجعاً لموضعه المنسي والبعيد عن نوايا وأحلام البشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى